برزت قرية الفاو في العقود الأخيرة كأحد أكبر المواقع الأثرية السعودية وأهمها. تقع هذه القرية على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي، في المنطقة التي يتداخل فيها وادي الدواسر مع جبال طويق، عند فوهة مجرى قناة الفاو التي استمدت اسمها الحديث منها، وكانت في الماضي تُعرف بـ«ذا كهل»، نسبة إلى مثال كبير من الطراز السبئي الذي ضاع أثره.
عاشت هذه القرية عصرها الذهبي حين اتخذها ملوك كندة عاصمة لملكهم منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الرابع للميلاد، ودخلت في النسيان تدريجياً حين غادروها ليتخذوا من شمال الجزيرة العربية مركزاً لحكمهم. من هذه القرية الأثرية، خرجت مجموعة كبيرة من التماثيل تميّزت في المقام الأوّل بتنوع أساليبها الفنية، منها مجموعة تماثيل برونزية صغيرة تعود إلى القرون الأولى للميلاد، تشهد لحضور الطابع الإغريقي الصرف في هذه البقعة من الجزيرة العربية.
دخلت هذه المجموعة من التماثيل الإغريقية البرونزية الصغيرة متحف الآثار بجامعة الملك سعود في الرياض، وعُرفت عالمياً من خلال معرض «طرق التجارة العالمية» الذي شكّل مقدّمة للتعريف بـ«روائع آثار المملكة العربية السعودية». تضمّ هذه المجموعة تمثالاً من البرونز طوله أقل من 8 سنتيمترات يمثّل امرأة شابة تلبس رداءً قصيراً ينسدل عند ركبتيها، وتعتمر تاجاً على شكل هلال فوق شعرها الملتفّ إلى الوراء. تقف هذه الحسناء منتصبة بثبات على رجلها اليمنى، وتحني رجلها اليسرى إلى الوراء، ويصعب تحديد حركة ذراعيها بدقّة بسبب ضياع يدي التمثال. يتبنّى هذا التمثال النسق الإغريقي الكلاسيكي، وتتجلّى هذه النسق في الأسلوب الواقعي المعتمد في صياغة مختلف أعضاء الجسد الأنثوي، كما في صياغة ثنايا الثوب الذي يلفّ هذا الجسد. ويتميّز زي هذا الثوب بزنار علوي يلتفّ عند أسفل الصدر.
أرتيميس كما تظهر في تمثال برونزي من قرية الفاو
تمثّل هذه المرأة من دون أدنى شك أرتيميس، ربّة الصيد والبراري، وحامية العذرية والخصوبة في الميثولوجيا الإغريقية، وتُعدّ هذه المعبودة من أسياد الأولمب الاثني عشر، وتُعرف في العصر الروماني باسم ديانا. وأرتيميس حاضرة بقوّة في العالم المتوسطي، وصورها لا تُحصى ولا تُعدّ، وأبرز خصائص هذه الصور الهلال الذي يتوّج الرأس، ويرمز إلى طبيعتها الليلية، والزنار الذي يلتف حول الصدر، وهو الزنار الذي ترتديه الصيّادة لتتحرّك بحريّة أثناء مزاولتها هذه المهمّة. بحسب أقدم الروايات التي وصلت إلينا، هام سيّد الأولمب زيوس بابنة أحد الجبابرة الطيطان، وتُدعى ليتو، فأغواها وحملت منه، ثم تزوج بالمعبودة هيرا التي علمت بحمل ليتو، فغضبت، ولعنتها كي لا تتمكن من الولادة على أي يابسة على وجه الأرض. طرد الناس ليتو من أراضيهم خوفاً من غضب هيرا، فلجأت إلى جزيرة ديلوس، وجلست مكروبة عند نخلة على ضفاف نهر إينوبوس، وهناك وضعت طفلين توأمين؛ أبولو سيّد الشمس والغناء والشعر، وأرتيميس سيّدة القمر والبراري والصيد.
في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، استعاد الشاعر كالليماخوس هذه الأسطورة في «ترنيمة إلى ديلوس»، ووصف كيف وضعت ليتو ولديها وحدها عند النخلة على مشارف نهر إينوبوس، حين كان يطوف «بمياه تنبع من الأرض في فصل فيضان النيل، منصبّة من الهضبة الإثيوبية». ووجدت هذه القصة ترجمتها التشكيلية في عدد من الأواني الفخارية المزيّنة بالرسوم منذ تلك الحقبة. عُرفت أرتيميس بطوافها في البراري والأدغال والأراضي غير المعمرة، والصيد بواسطة قوسها الفضي وسهامها الخارقة، وأضحت حامية الصيادين أثناء رحلاتهم. كما عُرفت بحماية الحيوانات بواسطة صنادلها الفضية. الجدير بالذكر أنها نذرت العذرية الأبدية منذ صغرها، واتّخذت حوريات صغيرات في السن، جميعهن عذارى، وكانت تحتم عليهن التزام العفة والحفاظ على العذرية، كما أنها كانت تلحق بمن حاول أن يسلب منها عذريتها العذاب القاسي والشديد. أشهر هؤلاء، الصيّاد المدعو أكتيون، الذي خرج للصيد، فالتقى أرتيميس مصادفة وهي تستحم في بحيرة، فانبهر بجمالها، واستمر في اختلاس النظر إليها إلى أن ضبطته، فحوّلته في خضم غضبها إلى ظبي، ما أدّى إلى هجوم كلابه عليه وتمزيقه إرباً.
تحضر أرتيميس في نواحٍ عديدة من الشرق الأدنى حيث تتعدّد صورها، غير أن حضورها في الجزيرة العربية يبقى نادراً، وشواهده معدودة للغاية. في قرية الفاو، تظهر هذه المعبودة الإغريقية مرة أخرى على طرف المسند الخلفي الخاص بسرير جنائزي صُنع من البرونز المذهّب، واللافت أنها تظهر هنا وهي معتمرة تاجاً كبيراً، ويبدو من خلف ظهرها طرف سلاحها الذي كانت تحمله في تجوالها. كذلك، تظهر أرتيميس كما يبدو في ثاج، في المنطقة الشرقية للمملكة السعودية؛ حيث تتزيّن صورتها بخاتم وقطعة من الذهب تشكّل جزءاً من حلّة جنائزية ترافق صبية صغيرة في مثواها الأخير.
تقع قرية الفاو على طريق التجارة القديم الذي كان يربط جنوب شبه الجزيرة العربية بشمالها الشرقي، وشكّلت في الماضي محطة تجارية لاستراحة القوافل المتجهة شرقاً إلى الخليج، وشمالاً إلى وادي الرافدين وبلاد الشام. وتعكس الآثار واللقى التي عُثر عليها في هذا الموقع التعدّدية الحضارية التي تميّزت بها هذه البقعة التي عُرفت كذلك بـ«ذات التيجان». يشهد حضور أرتيميس في هذه القرية لهذه التعدّدية، ويمثّل وجهاً من الوجوه الجمالية الإغريقية الخفيّة في الجزيرة العربيّة.