السيناريو الأميركي لترويض ملالي إيران

دراسة للمستشار القانوني السابق لوزارة الخارجية قد تنفع خليفة أوباما

«التصدي لإيران القوة، والدبلوماسية والتهديد الإيراني» تأليف أبراهام دي. سوفائير 182 صفحة الناشر: معهد هوفر، الولايات المتحدة، 2015
«التصدي لإيران القوة، والدبلوماسية والتهديد الإيراني» تأليف أبراهام دي. سوفائير 182 صفحة الناشر: معهد هوفر، الولايات المتحدة، 2015
TT

السيناريو الأميركي لترويض ملالي إيران

«التصدي لإيران القوة، والدبلوماسية والتهديد الإيراني» تأليف أبراهام دي. سوفائير 182 صفحة الناشر: معهد هوفر، الولايات المتحدة، 2015
«التصدي لإيران القوة، والدبلوماسية والتهديد الإيراني» تأليف أبراهام دي. سوفائير 182 صفحة الناشر: معهد هوفر، الولايات المتحدة، 2015

بينما لا يزال مستقبل «الاتفاق» النووي بين إيران والقوى الست العظمى، الذي أحيط بقدر كبير من الدعاية - غير مضمون، يتواصل النقاش حول كيفية التعامل مع النظام الخميني في طهران. ويملك أبراهام سوفائير، مؤلف كتاب «التصدي لإيران.. القوة، والدبلوماسية والتهديد الإيراني»، مؤهلات جيدة لينضم إلى هذا النقاش. لقد كان على مدار خمس سنوات المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية، ومن صلب مهامه العلاقات مع إيران، وهو منصب مكنه من مقابلة الكثير من المسؤولين وشبه المسؤولين الإيرانيين والوصول إلى تقارير سرية حول علاقات الولايات المتحدة مع إيران. ويكتسب كتابه الصلاحية بفضل مقدمة مطولة كتبها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج بي. شولتز وتزكيات مختصرة من وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنغر وعباس ميلاني، وهو خبير أميركي من أصل إيراني، متخصص في شأن الجمهورية الإسلامية.
تقضي الحجة التي يروج لها سوفائير بأن الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تضع سياساتها بشأن إيران على أساس التفكير بالتمني. فبعضها كان يطارد حلم «تغيير النظام» في طهران من دون أن يوفر فعليا الأدوات اللازمة لتحقيقه. ونتيجة لذلك، فقد تسببوا في مزيد من الاستعداء للملالي بينما سمحوا لهم بسحق معارضيهم في الداخل. في حين كان آخرون يعبثون بفكرة التكيف مع الملالي على أمل إقناعهم بتغيير جوانب سلوكهم. ومنيت هذه الخطة بالفشل لأن الملالي، بمجرد اطمئنانهم إلى أنهم ليسوا مهددين، لم يزدهم هذا إلا عدوانية.
ومتى كان الملالي يشعرون بتهديد حقيقي، فإنهم كانوا يرتدون «القناع الإصلاحي» ويقدمون صورة «الملا الضاحك»، مثل محمد خاتمي في القرن الماضي، وحسن روحاني اليوم.
يعترف سوفائير بأنه حتى ريغان «أضاع ثلاث سنوات» في المحادثات السرية مع الرئيس الإيراني آنذاك هاشمي رفسنجاني في طهران لمساعدة الجناح الذي يقوده الأخير على هزيمة الجناح المنافس بقيادة آية الله منتظري. وما إن تحقق لرفسنجاني هدفه، حتى أمر باستئناف العمليات العدائية ضد الولايات المتحدة، بما في ذلك أسر مزيد من الرهائن الأميركيين في لبنان.

في عهد الرئيس باراك أوباما، انتهجت الولايات المتحدة سياسة التوافق مهما كان الثمن. ولتسويق تلك السياسة إلى الجمهور الأميركي المرتاب في الملالي، قلص أوباما الخيار بين غزو كامل لإيران ومنحها ما تريد، كما اختزل المعضلة الإيرانية بكاملها في المسألة النووية، فأغفل مسائل من قبيل دور إيران في تصدير الإرهاب، وانتهاكاتها الممنهجة لحقوق الإنسان. ولأن الجمهور الأميركي ليس في مزاج يسمح بحرب برية جديدة في الشرق الأوسط، فقد تمكن أوباما من إطلاق العملية التي أنتجت «اتفاق» فيينا النووي.
ويدفع سوفائير بأن كل تلك السياسات كانت خاطئة، بل جاءت في بعض الحالات بمردود عكسي. وهو يوحي بأن على الولايات المتحدة التخلي عن فكرة تغيير النظام في طهران إلى جانب أي حلم بـ«الإصلاح الداخلي» في المشهد الخميني. وفي الوقت ذاته، يشير إلى أن الولايات المتحدة ترى في الجمهورية الإسلامية مشكلة أكثر تعقيدا بكثير، بخلاف المسألة النووية. وعلى خلفية هذه التأكيدات يقوم بمعالجة مسألة «التصدي لإيران». والسؤال هو: كيف؟
الحل الذي يقدمه سوفائير بسيط. على الولايات المتحدة أن تقوم بالتقييم ومن ثم تتعامل مع الجمهورية الإسلامية بناء على ما تفعله طهران في أي مرحلة زمنية. فإذا هددت طهران مصالح واشنطن في أي مكان، يكون على الولايات المتحدة أن ترد بمهاجمة المصالح الخمينية. وهو يزعم أن هذه الطريقة أصابت النجاح في كل مرة استعملت فيها.
على سبيل المثال، في مرحلة ما في العراق، وجد الأميركيون أن الكثير من جنودهم الذين ماتوا كانوا ضحايا ألغام أرضية قادمة من إيران. وعندها أرسل القائد الأميركي الجنرال ديفيد بترايوس رسالة إلى قاسم سليماني، الجنرال الإيراني المسؤول عن «تصدير الثورة»، مفادها: توقف وإلا فسنأتي ونصل إليك! توقفت الإمدادات المميتة في غضون أيام.
مثال آخر حدث في ثمانينات القرن المنصرم، عندما أمر الخميني قواته باستهداف ناقلات النفط الكويتية. أمر الرئيس رونالد ريغان البحرية الأميركية بإغراق بحرية الحرس الثوري الإيراني في معركة دامت يوما كاملا (18 أبريل - نيسان 1988). توقف الخميني فورا عن استهداف الناقلات، بل وافق على وقف الحرب في العراق.
في المقابل، يرى سوفائير أنه عندما قررت الولايات المتحدة أن تغضي الطرف، تجرأت إيران بالإقدام على مزيد من الأفعال الخاطئة. وهو يقول: «كانت لدى جهاز التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كل الأدلة المطلوبة لإثبات أن الهجوم على الخُبر الذي سقط فيه موظفون أميركيون قتلى، جرى تنفيذه بأوامر من طهران. ومع هذا فقد قرر الرئيس بيل كلينتون تهدئة الأمور ومن ثم زاد عدوانية إيران جرأة».
كما يقول سوفائير إن إيران حافظت على علاقة فعالة مع تنظيم القاعدة، وإن واشنطن رصدت خطابا من أيمن الظواهري يشكر فيه القيادة الخمينية. ويمضي إلى الزعم أن إيران وفرت بعض القواعد التي تحتفظ بها «القاعدة» في اليمن، ويفترض أن ذلك تم بمساعدة الحوثيين.
ويستشهد سوفائير بمحاولة أخرى لجناح رفسنجاني لـ«تحييد» الولايات المتحدة؛ ففي مايو (أيار) 2003، أرسلت طهران مقترحا ظاهريا كتبه صادق خرازي، وهو مبعوث إيراني سابق لدى الأمم المتحدة، يعرض على واشنطن «مساومة كبرى». ورغم أن الرئيس جورج دبليو بوش لم يكن مهتما بالتجربة، فقد أخذها في الحسبان وقلل الضغط على طهران. ويذهب المؤلف أيضا إلى القول بأن هناك «أساسا قانونيا صلبا» للقيام بأعمال عقابية، بما في ذلك الضربات العسكرية العقابية، ضد الجمهورية الإسلامية، بمرجعية حق الدفاع عن النفس بموجب ميثاق الأمم المتحدة.
إن القيام بتحركات عقابية ردا على سوء السلوك من جانب طهران لا يستبعد المفاوضات الدبلوماسية، حسبما يؤكد سوفائير؛ فأهم ما يجب أن يفهمه قادة إيران هو أن هناك عواقب لكل عمل يقومون به. بل يشير المؤلف إلى أن بعض الأهداف المحددة لـ«الضربات» العقابية الأميركية، بما في ذلك جزر فارسي وأبو موسى ومراكز قيادة وسيطرة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا ولبنان.
من غير المرجح أن يقتنع الرئيس أوباما بسيناريو سوفائير. ومع هذا، فقد يستميل طرح سوفائير خليفة أوباما، على أقل تقدير.
يعاني كتاب سوفائير من تواضع التحرير، إذ تكرر الكثير من الفقرات الطويلة في صفحات مختلفة، كذلك فهناك الكثير من الأخطاء. فقد كان روبرت، وليس ويليام، غيتس أول وزير للدفاع في عهد أوباما. ولم يكن قلب الدين حكمتيار «زعيم طالبان» بل زعيم الحزب الإسلامي، الذي مولته الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) أولا قبل أن تموله إيران. والسيدة التي اغتالها عملاء الخميني في واشنطن كانت السيدة نيرة، وليس ناريا، رافيزاده. ومن المعروف أيضا أن ريغان لم يبدأ الحوار بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كما يعتقد المؤلف. فقد كان الطرفان حليفين أثناء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا، باستثناء واحد، كانا يعقدان قمما مشتركة. (كان الاستثناء خلال تولي غريغوري مالينكوف، الذي خلف ستالين، رئاسة الوزراء، قبل أن يزيحه سيرغي خروشوف عن المنصب).
وسواء اتفق المرء أو اختلف مع ما يطرحه سوفائير، فرؤيته لـ«مواجهة إيران» هي رؤية صادقة.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي