على غرار «الحدوتة» المصرية في صناعة وحبك الحكايات الشعبية بروح محلية، أو «الحكواتي» الذي اشتهر في الحجاز والشام ومناطق عربية مختلفة وهو يسرد بطريقة مبتكرة بارعة حكايات تاريخية متعددة، تمثل «السبحونة» موروثاً اجتماعياً تاريخياً يعتمد على عبقرية الحبكة وغزارة الخيال، ذاع في مناطق وسط الجزيرة العربية لسرد الحكايات الشعبية وقضاء الليالي الرمضانية بقصص الجدات ورواية الحبكات قبل أن يحلّ الراديو، ثم التلفاز، ضيفاً على الأسر السعودية ورفيقاً لقضاء الليالي الرمضانية.
و«السبحونة» هي حكايات قصيرة ممزوجة بحبكات من نسج الخيال، ترويها الجدّات للأطفال قبل النوم، وللاستئناس في ليالي رمضان بعد الإفطار وخلال أوقات السحور، وكانت تبدأ عادة بتسبيح الله، ومن هذه المطالع اشتق لها اسم «السبحونة».
وتبدأ «السبحونة» بالتئام أفراد الأسرة وتحلقهم حول راوية «السبحونة»، التي تبدأ بسرور على ما جرت به العادة: «هنا هاك الواحد، والواحد الله سبحانه، المعتلي بمكانه...»، وتكون المقدمة التشويقية دعوة للإنصات ولفت الانتباه، ثم تشرع في إيراد أسطورة أو قصة شعبية.
وتعود «السبحونة» إلى تاريخ اجتماعي قديم، لم تنتشر خلاله الصحف والإذاعات والتلفاز، كانت لتزجية الوقت ولحكاية القصص الشعبية على لسان إنسان أو شخصيات غير واقعية، وتتنوع موضوعاتها بين تناول المشاكل والمظاهر الاجتماعية المختلفة، وغرس القيم الحميدة وتعزيزها في نفوس مستمعيها، ولم تخلُ الحكايات من دور للخيال في بناء الشخصيات والأحداث لتعظيم أثر السرد في المستمعين، فضلاً عن دورها في التسلية والاستزادة المعرفية وبناء وعي الأطفال وقضاء الوقت في الليالي الطويلة وبعد الانتهاء من مشاق الحياة والالتزامات اليومية.
وتأخذ «السبحونة» خلال شهر رمضان طابعاً ملائماً لليالي الشهر، وساعاته الطويلة، بتخصيص الأطفال بحكايات رمضانية وتجارب اجتماعية، عندما يوشك الإفطار أو يدنو موعد السحور، متكئة قوة «السبحونة» وتأثيرها على مهارة الراوي في سرد الأحداث وتحريك الفضول وبث الدهشة والتشويق في بناء القصة وتطوير سردها.
لم تعد «السباحين» في ظل هذه النوافذ الترفيهية المتعددة إلا في حيز تراثي تراجع حضوره، وذكريات لزمن كانت فيه التقاليد الشفهية سائدة، ينظر إليه المجتمع في صورة حنين لماضٍ غير مستعاد. وفي «يوم التأسيس» الذي اختارته السعودية لحظة للاحتفاء بتاريخ تأسيس الدولة وبناء المجتمع، وبالعناصر الثقافية السعودية، جددت المناسبة ذكرى «السبحونة» كتقليد اجتماعي اشتهر معه رواة خلال الدولة السعودية الأولى.
وبرع أشهر رواة الدولة السعودية الأولى باستخدام تعبيرات الأيدي، وملامح الوجه لإضفاء لمسة من التشويق على حكاياتهم، وتوظيف الشعر لزيادة جاذبيتها، واستخدام الخيال بشكل رئيسي، والقصص الأسطورية بطريقة عبقرية، وتوجيهها لغرس قيم حميدة ومقاومة مظاهر سلبية.
وجمع الأديب والباحث السعودي المعروف عبد الكريم الجهيمان، طرفاً من تلك الأقصوصات الشعبية التي كانت مضمون «السباحين» والحكايات الشعبية، وجمع في مؤلفه المهم «الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية» الذي جاء في عشرة أجزاء، مجموعة من القصص التي تتماس مع البعد الأسطوري، وتلقي الضوء على موضوعات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية في الجزيرة العربية، مؤطرة في بعدها الزماني والمكاني.
«السبحونة»... موروث سعودي لرواية الحكايات الشعبية وقضاء الليالي الرمضانية
«السبحونة»... موروث سعودي لرواية الحكايات الشعبية وقضاء الليالي الرمضانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة