في الثامن من مارس (آذار) احتفل العالم بيوم بـ«يوم المرأة العالمي» الذي يجمع نساء العالم في يوم رمزي تكريماً للمرأة وتقديراً واحتراماً لإنجازاتها في جميع المجالات؛ سياسية كانت أم اقتصادية، أم اجتماعية أم ثقافية أم تربوية أم صحية أم غيرها. يوم يدعو إلى الاحتفال بحرية ومساواة وعدالة المرأة، وذلك بعد أن أصبح ميثاق الأمم المتحدة بأول يوم رسمي للمرأة في الثامن من مارس خلال السنة الدولية للمرأة عام 1975 التي أُطلق عليها اسم «السنة الدولية للمرأة»، تلاها إعلان الجمعية العامة عام 1977، أن الثامن من مارس عطلة رسمية من أجل حقوق المرأة والسلام في العالم. لكن اللافت هذا العام كان تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أمام أكبر محفل دولي يعنى بالمساواة بين الرجال والنساء، من التخلي عن «مكتسبات المرأة» التي تتعرَّض حقوقها لـ«الانتهاك والتهديد» في كل أنحاء العالم، معتبراً أنَّه إذا بقيت الأمور على حالها، فإنَّ المساواة بين الجنسين لن تتحقق قبل 300 عام.
وعلى الرغم أن هذا التصريح على خطورته مرّ مرور الكرام، فإننا إذا ما أردنا أن نتحدث عن دور المرأة في المجتمع فلطالما كان دوراً ريادياً ظهر فيه نساء لعبن دوراً مميزاً ومهماً في حياة مجتمعات العالم في الشرق والغرب، فتركن علامة فارقة مشعّة جعلت من وجودهن في بيئات مختلفة فرقاً كبيراً وأثراً عميقاً في تركيبة وتطور مجتمعاتهم. سننتقي باقة ريادية من ثلة فسيفسائية أيقونية عالمية لعبن دوراً ريادياً غيّرن من خلاله تاريخ العالم؛ لذا سأسلط الضوء في لمحة موجزة على آرائهن أو آيديولوجياتهن. وهنا عرض تذكيري ببعض نساء، شرقاً وغرباً، أدين أدواراً تغيرية في مجتمعاتهن والعالم.
من أبرز شخصيات القرن العشرين الليبرالية المحافظة مارغريت ثاتشر (1923 – 2003)، أول امرأة تولت منصب رئيس وزراء بريطانيا (1975) وأول زعيمة لحزب المحافظين (1970 – 1990). ثاتشر المرأة الحديدية غيّرت وجه المملكة المتحدة باعتمادها الليبرالية الاقتصادية في بلد جعل اقتصاده منه «المريض في أوروبا»، ساعية لاستعادة مجد الإمبراطورية السابقة وإعادة القوة والهيبة الدولية لبريطانيا في حكم دام أحد عشر عاماً ونيفاً (1979 – 1990)، على رأس الكومونويلث، لم تتخلَّ أثناءه عن رفضٍ للتسويات خدمة لمبادئ آمنت بها وقناعات اكتسبتها تكللت بولادة تعبير جديد من سياستها يُدعى «الثاتشرية» (اتبعه المحافظون وهو يتعلق باقتصاد السوق الحرة، والعرض والطلب، والخصخصة والتضخم، وغيرها) رمزاً لنظرتها الفولاذية الثاقبة وقوة شخصيتها التي لم تنكسر أو تضعف أو تتردد يوماً، على الرغم مما واجهته من مشاكل داخلية من احتجاجات واضطرابات قام بها عمال المناجم وأحداث شغب وإضراب عمالي، إلى جانب حرب الفوكلاند، ومواجهة الجيش الجمهوري الآيرلندي، ورغم أنها لم تكن على توافق دائم مع الملكة إليزابيث الثانية، وقد يُعزى ذلك إلى قوة شخصية الاثنتين وعناد وصلابة المرأة الحديدية والتمسك برأيها حتى النهاية، بقيت على موقفها الحازم المتشدد وهي القائلة عبارتها الشهيرة «أنا مع الإجماع، الإجماع حول ما أريده»، ما أثار انتقاداً وسخطاً وصل إلى حد محاولة قتلها. أما خارجياً فالفضل الأكبر يعود لها في إنهاء الحرب الباردة بسبب علاقتها الجيدة مع كل من الرئيس الأميركي رونالد ريغان والرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. لكن لم تتعاطف ثاتشر مع قضية المرأة ولم تناصر الحركات النسائية وحقوق المرأة والطفل، كما أنها لم تسهّل أو تساعدها في الحصول على حضانة أو رعاية أطفالها، أضف إلى ذلك أنها لم تكن معنية بمسألة المساواة بين الجنسين، وهي المرأة والزوجة والأم!
الدكتورة الفيزيائية أنجيلا ميركل (1954) عاشت قرب جدار برلين في ألمانيا الشرقية وبعد انهياره وتوحيد الألمانيتين، انتقلت إلى ألمانيا الغربية لتصبح أول زعيمة امرأة في تاريخ ألمانيا تتولى فيما بعد منصب مستشارة لمدة ستة عشر عاماً (2005 – 2021)، بعد أن تبوّأت مناصب سياسية أخرى، منها: زعيمة المعارضة (2002 – 2005)، زعيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (2000 – 2018) وغيرها من المناصب الوزارية والسياسية في حكومة هلموت كول الذي كان لها بمثابة معلم وصديق وربما مثل أعلى.
بدأت رحلتها السياسية وبعد نجاحها في الانتخابات البرلمانية (بندنستاغ) عام 2005، فكان هذا التاريخ الفاصل في حياتها حيث أصبحت أول وأصغر شابة أنثى تتولى منصب مستشارة ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية فأول زعيمة لحزب سياسي ألماني. صعود شابة من ألمانيا الشرقية الشيوعية إلى سدّة رئاسة أقوى مركز أوروبي أثار الإعجاب وأظهر تكوين عالمها ومدى تأثّرها بخلفيتها وعقيدتها فأضحت من أقوى سيدات العالم وسيدة أقوى اقتصاد في منطقة اليورو، فأخذ العالم كله يرنو إليها وينتظر ألمانيا لتلعب دورها في إنقاذ أوروبا. وأنجيلا ميركل ذات الشخصية القوية المتسلطة تعرف كيف تطرق على الوتر الصائب حملت أوروبا في ضميرها ووجدانها وقلبها وآمنت بأن مصير ألمانيا هو في أوروبا آمنة ومزدهرة؛ لذا شعرت بأن من واجبها الوقوف إلى جانب دول تتمتع شعوبها بالحرية والمساواة والتسامح، قائلة «نحن لا نستطيع أن نلعب وحدنا، بل يجب أن نكون جزءاً من أوركسترا عالمية حديثة». لكن خطأها الفادح من وجهة نظر الأوروبيين هو فتح أبواب ألمانيا على مصراعيها لاستقبال عدد ضخم من اللاجئين والمهاجرين معظمهم من السوريين لم تعهده أوروبا من قبل؛ ما ينعكس سلباً على الدول الأوروبية برمتها.
تعتقد ميركل، وهي التي تربعت رأس الاتحاد الأوروبي، أن النظام المتعدد الأطراف يجد صعوبة في مساعدة عدد كبير من الناس ليصبحوا أكثر غنى وأفضل حالاً وصحة وثقافة؛ لذلك عمدت إلى تعاون أكبر ونظام متعدد الأطراف أفضل، كما طرقت على الوتر بشكل ممنهج لاستمالة وجذب من لا يشاركها نظرتها المنطقية وبتصميم للوصول إلى تسوية تجعل الشخص غير رضي لكن بوضع أفضل.
أما بالنسبة للحرب الباردة ووجه التشابه بين شخصيتي ثاتشر وميركل فهو قريب جداً، فميركل أيضاً كانت علاقتها جيدة جداً مع الخارج، وهي أيضاً كان لها الفضل في كسر الستار الحديدي والوصول إلى إنهاء الحرب الباردة.
أما بالنسبة للمرأة، فطالبت أنجيلا ميركل بمساواة بين الرجل والمرأة في المناصب السياسية والبرلمان، بما يشمل كل المناصب الرفيعة قائلة إن قضية النّسب النسائية (كوته) في شغل المناصب الحكومية وفي عالم الاقتصاد الحر ليست سوى خطوة أولية على طريق المساواة الكاملة بين المرأة والرجل؛ فالهدف يجب أن يكون المساواة التامة وهذه قضية سياسية من قضايا الديمقراطية، وهو مؤشر أيضاً إلى العدالة في المجتمع.
الأديبة والروائية الفرنسية جورج صاند (1804 – 1876) لامنتين أورور لوسيل دوبان، امرأة ثورية مثيرة للجدل عاشت في عصر نهضة أشعلت فتيل الطاقة الأدبية والفكرية في فرنسا، تبعتها حركة رومانسية جرى خلالها صراع بين فكرتي الثورة وردة الفعل انعكس في الأعمال الأدبية، وهذا ما حدث مع جورج صاند، فتساءلت عن المعيار الاجتماعي الذي وضع المرأة في إطار دور جندري. لهذا حاولت أن تعيش حياة مشابهة لحياة المشاهير الرجال. حاربت صورتها وواقع كونها امرأة، انتفضت وثارت ضدّ القيود المفروضة على المرأة فخلفت هوية جديدة لها باسم مستعار لرجل. ارتدت القميص والبنطال ودخنت السيجار في العلن وجالت في الأماكن المحظورة على النساء، كالرجال تماماً؛ ظناً منها أن ذلك سيرفع من الاحترام لها. وذلك بعد أن رأت أن المجتمع يقف إلى جانب الذكور، فثارت على المجتمع وغدت في صراع دائم مع هويتها. تنكرت لطبيعتها الأنثوية ولم تتقبل وجود امرأة ضعيفة مأسورة في إطار معيّن من تقاليد المجتمع، وكونها مسيحية، وجدت أن المدنية والمؤسسات المعيبة قد أفسدت المجتمع، فثارت على الطبقية أيضاً، وعاشت حياة صاخبة في عصر رومانسي «هناك سعادة وحيدة في الحياة، أن نُحِب وأن نُحَب». وتعرفت على مشاهير الأدباء والشعراء والسياسيين أمثال ألفريد موسيه، وجول صاندو، وبلزاك، وفلوبير، وشوبان الذي كانت لها علاقة عاطفية معه دامت تسع سنوات، وكثيرين غيرهم، وهي التي تعددت علاقاتها العاطفية بالكثير من الرجال.
دافعت جورج صاند بشراسة عن حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، حيث دعت إلى الثورة قائلة «لا يمكن لمجتمع أن يتقدم إن لم تنل المرأة حقوقها»، وذلك بعد أن تألمت كامرأة، فرأت النساء اللواتي أحببن فيها الإنسانية الرومانسية الثورية «وهي التي تمثلت في عصر ثورة اجتماعية محقّة، فقامت بتأسيس العديد من المؤسسات الخيرية والفكرية...
الرائدة الأرستقراطية المصرية نور الهدى محمد سلطان (1879 – 1947) رئيسة الاتحاد النسائي المصري، أخذت على عاتقها الكفاح والنضال على مدى خمسين عاماً حتى وفاتها من أجل حصول المرأة على حقوقها في فجر نهضة نسائية في نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. آمنت شعراوي بأن المرأة لها كل الحق بأن تتساوى مع الرجل في كل مجالات الحياة كي تلعب دورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفكري والسياسي، فانضمت إلى قاسم أمين في الدفاع عن قضية وجوب تعليم الفتاة ورفع الحجاب وتنظيم الزواج والطلاق ومنح المرأة حريتها الطبيعية وحقوقها الاجتماعية بكل جرأة واندفاع، آخذة بدعوة النساء للمشاركة في النشاطات الاجتماعية والوطنية، منادية بنزع الحجاب الذي برأيها، يحجب الرؤيا عما يحدث في الخارج، معتبرة أن التعليم هو الوسيلة الوحيدة لإنارة العقل والوعي واليقظة، خاصة بعد أن وجدت الفرق الشاسع بين المجتمعين الغربي والشرقي وموقع المرأة فيهما، وهذا سلاح تخوض به المرأة معركة الحياة، بينما الحصول على الحقوق الاقتصادية والسياسية يضمن للمرأة استقلالها وتحطيم عبوديتها كي لا تعيش عالة على أحد لتكون امرأة منتجة وعضواً فعالاً وحيوياً في المجتمع، وربما أهم ما قامت به هو تأسيس «الاتحاد النسائي المصري»، الذي انضم فيما بعد إلى الاتحاد النسائي العالمي وأصبح عضواً فيه.
استجابت هدى شعراوي للحس الوطني؛ ما زاد في إنجازاتها حين لبّت الواجب وحبها للوطن في ثورة 1919، وقادت الحركة النسائية المصرية خارجة في أول مظاهرة ضد الاستعمار البريطاني ألهبت نيران الثورة، امتدت فيما بعد إلى جميع الدول العربية احتجاجاً على اعتقال الزعيم المصري المحبوب سعد زغلول ونفيه مع رجال الوفد إلى مالطا. وبعد مسيرة حافلة من الإنجازات والنضال المرير لقضية المرأة توفيت بسكتة قلبية في فراش مرضها أثناء كتابة بيان تطالب فيه الدول العربية الوقوف صفاً واحداً في سبيل القضية الوطنية.
عميدة المناضلات و«أيقونة لبنان» ليندا مطر (1925 – 2023) التي رحلت هذا العام وكُرّمت في الثامن من مارس في اليوم العالمي للمرأة، بعد مسيرة حافلة بالإنجازات والتضحيات على مدى أربعين عاماً عاشتها بنضال كبير من أجل تكريس حقوق المرأة وإلغاء كل أشكال التمييز في حقها. لم تهدا ولم تتوانَ فكانت ضمير الشعب والوطن والإنسانية.
ليندا مطر سيدة متواضعة، واضحة الرؤية، شفافة الإحساس، صادقة المشاعر نحو مجتمعها، تفانت في نقل المرأة والمجتمع من حال إلى حال أفضل، ناضلت من أجل استحداث أو تعديل قوانين مجحفة بحق المرأة والمجتمع ومن أجل وطن ديمقراطي ودولة مدنية، وسعت فكانت السباقة في تقديم مع زميلات لها المطالب لتنجح في بعض منها وتتابع البعض الآخر. أبرزها على سبيل المثال: حق الانتخاب والترشح، والسفر من دون إذن الزوج، وحق ضمان المرأة العاملة لأطفالها، وتعديل القوانين المتعلقة بجرائم الشرف، وتعديل اتفاقية التمييز ضد المرأة وكثير غيرها.
لم تكن المناصب تعني لها شيئاً وهي التي تبوّأت العديد من المناصب رئيسة أو عضوة (رئيسة الاتحاد النسائي اللبناني، رئيسة لجنة حقوق المرأة، عضو ومنسقة للمكتب الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، وعضو في المجلس الاجتماعي والاقتصادي اللبنانية...)، بل أرادت إحداث قفزة تاريخية في مجتمع ذكوري من خلال الميدان الحقوقي والمطلبي فنجحت في إعطاء صورة مختلفة عن المرأة اللبنانية؛ ما جعل المجلة الفرنسية «ماري مكير» تضعها من بين مائة سيدة حرّكن العالم.
في لبنان، هذا البلد الصغير، الرجال حيارى عمّن يختارون ترشيحه لمنصب رئيس جمهورية لبنان. عجباً! ترى، ألا يوجد في هذا البلد نساء كفؤات؟! لماذا لا يخطر في بال السياسيين والمسؤولين الكرام اختيار امرأة لهذا المنصب الرفيع؟! ألا يوجد في لبنان نساء مثقفات جديرات وعلى قدر المسؤولية يستطعن إدارة وقيادة هذا البلد الجريح الحبيب؟! هل فقط لأنهن إناث؟! أم لا ثقة بهن عندما يصل الأمر إلى الأمور السياسية ومراكز القرار؟!
نأمل أن يأتي يوم تحكم فيه نساء، ربما يعمّ عندئذٍ العدل والأمن والنزاهة والسلام. فاللبناني أمضى الأسابيع الأخيرة يصلي منتظراً أعجوبة لم تحدث فجأة يوم 21 من مارس هو يوم عيد الأمهات. كل عيد وأنتن بخير. ولكن كيف ستهنأ الأم في عيدها في لبنان وهي ترى أولادها يجوعون وينتحرون ويهاجرون من وطن بات لا حول له ولا قوة، ينازع ببطء وبصمت منتظراً الخلاص؟!
* باحثة لبنانية