الليرة اللبنانية تترنّح على إجراءات «شراء الوقت»

تدابير مؤقتة يتّخذها المصرف المركزي بانتظار الحل السياسي

مصرف لبنان (رويترز)
مصرف لبنان (رويترز)
TT

الليرة اللبنانية تترنّح على إجراءات «شراء الوقت»

مصرف لبنان (رويترز)
مصرف لبنان (رويترز)

لم تخرج الحلول التي تجترحها السلطات اللبنانية لتخفيض سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، من إطارها «المؤقت»، ورُميت بمعظمها على عاتق مصرف لبنان (أي المصرف المركزي) الذي يتدخل تقنياً بضخّ العملة الأجنبية في السوق عبر منصة «صيرفة» العائدة له، وسرعان ما تتلاشى مفاعيل هذا التدخل خلال أسابيع قليلة. تتكرر العملية دورياً، منذ أواخر العام 2021؛ لضبط السوق، وتهدئة الشارع، على نيّة «شراء الوقت» ريثما تنضج التسويات السياسية وتتخذ الحلول الحكومية. وهي رهانات عبثية، حتى الآن، بالنظر إلى الانغلاق التام في ظل فراغ في سدة الرئاسة، ووجود حكومة تصريف أعمال محاصرة، كما البرلمان، بالرفض السياسي لأي تفعيل لهما، بسبب الشغور. وحقاً، يعيش لبنان، منذ العام 2021، على شعار «شراء الوقت»، حسبما تقول مصادر نيابية مواكبة للإجراءات الحكومية، مشيرة إلى أن تأرجح سعر صرف العملة «لا يخرج عن إطاره المؤقت» بانتظار استقرار سياسي يضع البلاد على سكة الحلول. لكن هذا السكة «مقطوعة» حتى الآن، نتيجة عاملين، أولهما فقدان البلاد لثقة دولية نتيجة التخلّف عن سداد ديونه السيادية؛ ما يفقده فرصة الاستدانة من دائنين خارجيين، والآخر تعثر المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي» الذي قال رئيسه بعثته إرنستو راميريز ريغو في ختام زيارة له إلى بيروت في الأسبوع الماضي «نعتقد أن لبنان في لحظة خطيرة للغاية، عند مفترق طرق» مضيفاً أن «الستاتيكو القائم والتقاعس» عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يدخل البلاد «في أزمة لا نهاية لها».

محل صيرفة في بيروت (أ.ف.ب)

يمثل خروج سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة عن كل الضوابط أخيراً، تجسيداً واقعياً للأزمة المالية التي تعصف بلبنان. إذ بلغ ارتفاع سعر صرف الدولار سقفاً قياسياً، هو الأعلى له منذ تاريخه يوم الثلاثاء الماضي، حيث تخطى الـ140 ألف ليرة لبنانية، قبل أن يهوي مرة أخرى إلى حدود الـ110 آلاف ليرة خلال ساعات قليلة، بعد بيان أصدره مصرف لبنان، أعلن فيه توفير الدولار على منصة «صيرفة» العائدة له في المصارف التجارية وشركات الصرافة من الفئة الأولى (أ)، أي الرسمية؛ وذلك لضبط الارتفاع الجنوني لسعر الصرف، وامتصاص الكتلة النقدية المتوفرة في السوق. ولا ينفي الخبراء أنه إجراء مؤقت، فيما لا سقف لارتفاع سعر الصرف.
- تدخّل متكرر بمفاعيل مؤقتة
الواقع أن التدخل الأخير في منتصف مارس (آذار)، هو إجراء متكرر من قِبل مصرف لبنان (المصرف المركزي)، لكن كان أكبر تدخلاته في مطلع هذا العام، حين فتح الباب أمام عمليات مبادلة مفتوحة بلا سقف، ضخ بموجبها نحو 1.2 مليار دولار، قبل أن يستأنف الدولار مساره التصاعدي. واللافت، أنه في الفترة الأخيرة، يرتفع سعر الصرف بمعدلات قياسية، بعدما كان يرتفع تدريجياً بمستويات بطيئة، وبعدما كان الدولار يصعد بمستويات تتراوح بين 2 في المائة و3 في المائة يومياً، وتنحسر إثر تدخّلات من المصرف، أو بفعل تدابير سياسية تهدئ سوق القطع، ارتفع سعر الصرف من 110 آلاف ليرة للدولار الواحد يوم الاثنين، إلى حدود الـ140 ألف ليرة يوم الثلاثاء؛ مما يعني تدهوره بنحو 12 في المائة يومياً.
يعكس هذا الانحدار المتواصل لسعر الصرف، التأزّم السياسي والانغلاق الكامل على الحلول، والفراغ على مستوى السلطة التنفيذية؛ ما أفقد الثقة بالعملة المحلية، بموازاة إجراءات قضائية تطال حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، وإجراءات أخرى محلية ضد المصارف التجارية ورؤساء مجالس إدارتها، وفراغ تشريعي وحكومي ينفذ الإصلاحات المطلوبة من جهات دولية لطالما تعهدت بمساعدة لبنان، وفي مقدمها «صندوق النقد الدولي».
- مصادر الدولار
قبل الأزمة المالية الأخيرة، كانت الحكومات تصدر سندات خزينة للبيع، ويسوّقها مصرف لبنان لدى المصارف الدولية، وكانت تلك الآلية، إحدى أبرز عائدات الدولة اللبنانية من العملة الصعبة، وهي سندات ممتدة على قروض حتى العام 2037. لكن منذ انطلاق الأزمة، تم تحميل المصرف الأعباء كافة، حيث تطالبه السلطة التنفيذية بتأمين الدولارات لتغطية أسعار الكهرباء والاتصالات ورواتب القطاع العام على سعر منصة صيرفة، فضلاً عن تأمين الأموال اللازمة لاستيراد الأدوية المستعصية. وعليه، يضطر المصرف إلى الاستحواذ على الدولار النقدي من مصادر متعددة بغرض توفيرها لدفع المستحقات المتوجبة على الحكومة، من ضمنها المرافق العامة التي تأتي عائداتها بالدولار، والتحويلات من الخارج عبر شركات تحويل الأموال، ومصادر أخرى أبرزها شراء الدولار من الصرافين في السوق السوداء، بغرض تلبية الاحتياجات الحكومية.
الحال، أنه على مر السنين، كانت الحكومة تقترض من مصرف لبنان، وتقدّر الحكومة إجمالي الخسائر في النظام المالي بأكثر من 70 مليار دولار، معظمها مستحقة للمصرف. وحسب صندوق النقد، لم تتوقف الحكومة عند ذلك حتى خلال الأشهر الماضية، وهو أمر أوصى الصندوق بوقفه، لكن الحكومة ليس لها أي خيار آخر، في ظل تعثر التفاوض مع الصندوق.
- تعثّر الاتفاق مع «صندوق النقد»
توصّل لبنان وصندوق النقد قبل نحو سنة إلى اتفاق مبدئي حول خطة مساعدة لم تدخل حيز التنفيذ بعد، مع عجز السلطات عن تطبيق إصلاحات جذرية ملحّة. وأعلن الصندوق في أبريل (نيسان) توصّله إلى اتفاق مبدئي مع لبنان على خطة مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات. لكن تطبيق الخطة مرتبط بالتزام الحكومة تنفيذ إصلاحات مسبقة وإقرار البرلمان لمشاريع قوانين ملحة، أبرزها موازنة 2022 وقانون «كابيتال كونترول» الذي يقيّد عمليات السحب وتحويل العملات الأجنبية من المصارف، إضافة إلى إقرار تشريعات تتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية وتوحيد سعر الصرف. ورغم إقرار السلطات موازنة العام الماضي وعملها على تعديل قانون السرية المصرفية، إلا أن خطوات أخرى ملحّة لم تبصر النور بعد.
صندوق النقد الدولي حذّر في الأسبوع الماضي من أن لبنان يمرّ بـ«لحظة خطيرة للغاية» في ظلّ انهيار اقتصادي متسارع، منبهاً من أن التقاعس عن تطبيق إصلاحات ملحّة من شأنه أن يدخل البلاد «في «أزمة لا نهاية لها». وقال رئيس بعثة الصندوق، إرنستو راميريز ريغو: إنّ أي حل للأزمة الاقتصادية الراهنة يجب أن يشمل تعديل السياسات المالية ومعالجة خسائر القطاع المصرفي وتوحيد سعر الصرف، معتبراً أن «صغار المودعين هم الأكثر تضرّراً... ويعانون أكثر مما ينبغي». واعتبر أن وجود أسعار صرف متعددة في لبنان يرتّب «تكاليف كثيرة على الاقتصاد» ويوزع «الخسائر بطريقة غير عادلة إطلاقاً»، مشدداً على ضرورة توزيع الخسائر بين «الحكومة والمصارف والمودعين». ودعا الحكومة إلى وجوب «التوقف عن الاقتراض من المصرف المركزي».
في السابق، أقرت السلطات بعض إجراءات الإصلاح، مثل موازنة 2022، ومراجعة وضع الأصول الأجنبية التابعة لمصرف لبنان، وقانون السرية المصرفية المعدل. لكن بيان صندوق النقد الخميس قال: إن قانون السرية المصرفية المعدل يجب تعديله مرة أخرى «لمعالجة نقاط الضعف الحرجة البارزة». ومع ذلك، قال ريغو: إن صندوق النقد «لن ينسحب أبداً» من جهود مساعدة دولة عضو، وليس هناك موعد نهائي للبنان لتنفيذ الإصلاحات.
ولا يزال لبنان بلا قانون للرقابة على رأس المال، ولم يسنّ تشريعاً لحل أزمته المصرفية وفشل في توحيد أسعار الصرف المتعددة لليرة اللبنانية، وجميعها إجراءات طلب صندوق النقد تنفيذها. ودعا صندوق النقد إلى توزيع خسائر القطاع المالي بطريقة تحافظ على حقوق صغار المودعين وتحدّ من اللجوء إلى أصول الدولة، وعارض سياسيون كبار وبنوك هذه الخطوة؛ مما أدى إلى تأخير التعافي.
- إدارة السيولة ممكنة تقنياً
> في التقديرات لدى مصرفيين وخبراء، أن كِفة «التعثر» ستبقى مرجّحة على فاعلية التدخل لوقت طويل. فمن الجانب التقني، يمكن لمصرف لبنان فعلياً ضخ نحو 500 مليون دولار لسحب نحو 45 تريليون ليرة من الكتلة النقدية بالعملة الوطنية المتداولة في الأسواق، والبالغة نحو 70 تريليوناً. وبذلك يحقق استهدافه بـ«شفط» مبالغ المضاربة، توطئة لإعادة الإمساك بالقرار المركزي لإدارة السيولة في الأسواق تحت سقف السعر الساري على منصة «صيرفة»، ولا سيما في ظل تنامي «دولرة» الأسعار في أسواق الاستهلاك؛ وما تنتجه من انكفاء موازٍ في حجم الطلب التجاري على الدولار النقدي.


مقالات ذات صلة

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

المشرق العربي رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

تُوفّي الموسيقار اللبناني إيلي شويري، عن 84 عاماً، الأربعاء، بعد تعرُّضه لأزمة صحية، نُقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة. وأكدت ابنته كارول، لـ«الشرق الأوسط»، أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن تعلم به العائلة، وأنها كانت معه لحظة فارق الحياة.

المشرق العربي القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

وجّه المجلس التأديبي للقضاة في لبنان ضربة قوية للمدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، عبر القرار الذي أصدره وقضى بطردها من القضاء، بناء على «مخالفات ارتكبتها في إطار ممارستها لمهمتها القضائية والتمرّد على قرارات رؤسائها والمرجعيات القضائية، وعدم الامتثال للتنبيهات التي وجّهت إليها». القرار التأديبي صدر بإجماع أعضاء المجلس الذي يرأسه رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، وجاء نتيجة جلسات محاكمة خضعت إليها القاضية عون، بناء على توصية صدرت عن التفتيش القضائي، واستناداً إلى دعاوى قدمها متضررون من إجراءات اتخذتها بمعرض تحقيقها في ملفات عالقة أمامها، ومخالفتها لتعليمات صادرة عن مرجع

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن فرص انتخاب مرشح قوى 8 آذار، رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، «باتت معدومة»، مشيراً إلى أن الرهان على الوقت «لن ينفع، وسيفاقم الأزمة ويؤخر الإصلاح». ويأتي موقف جعجع في ظل فراغ رئاسي يمتد منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث فشل البرلمان بانتخاب رئيس، وحالت الخلافات السياسية دون الاتفاق على شخصية واحدة يتم تأمين النصاب القانوني في مجلس النواب لانتخابها، أي بحضور 86 نائباً في دورة الانتخاب الثانية، في حال فشل ثلثا أعضاء المجلس (86 نائباً من أصل 128) في انتخابه بالدورة الأولى. وتدعم قوى 8 آذار، وصول فرنجية إلى الرئاسة، فيما تعارض القوى المسيحية الأكثر

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

جدد سفير المملكة العربية السعودية لدى لبنان، وليد بخاري، تأكيد موقف المملكة من الاستحقاق الرئاسي اللبناني بوصفه «شأناً سياسياً داخلياً لبنانياً»، حسبما أعلن المتحدث باسم البطريركية المارونية في لبنان بعد لقاء بخاري بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، بدأ فيه السفير السعودي اليوم الثاني من جولته على قيادات دينية وسياسية لبنانية. وفي حين غادر السفير بخاري بكركي من دون الإدلاء بأي تصريح، أكد المسؤول الإعلامي في الصرح البطريركي وليد غياض، أن بخاري نقل إلى الراعي تحيات المملكة وأثنى على دوره، مثمناً المبادرات التي قام ويقوم بها في موضوع الاستحقاق الرئاسي في سبيل التوصل إلى توافق ويضع حداً للفراغ الرئا

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

تأتي جولة سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا على المرجعيات الروحية والسياسية اللبنانية في سياق سؤالها عن الخطوات المطلوبة لتفادي الشغور في حاكمية مصرف لبنان بانتهاء ولاية رياض سلامة في مطلع يوليو (تموز) المقبل في حال تعذّر على المجلس النيابي انتخاب رئيس للجمهورية قبل هذا التاريخ. وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر نيابية ووزارية أن تحرك السفيرة الأميركية، وإن كان يبقى تحت سقف حث النواب على انتخاب رئيس للجمهورية لما للشغور الرئاسي من ارتدادات سلبية تدفع باتجاه تدحرج لبنان من سيئ إلى أسوأ، فإن الوجه الآخر لتحركها يكمن في استباق تمدد هذا الشغور نحو حاكمية مصرف لبنان في حال استحال عل

محمد شقير (بيروت)

السلطة الفلسطينية تطلق حملة أمنية ضد المسلحين في الضفة

عناصر من الأمن الفلسطيني في أثناء اشتباكات مع مسلحين في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)
عناصر من الأمن الفلسطيني في أثناء اشتباكات مع مسلحين في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية تطلق حملة أمنية ضد المسلحين في الضفة

عناصر من الأمن الفلسطيني في أثناء اشتباكات مع مسلحين في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)
عناصر من الأمن الفلسطيني في أثناء اشتباكات مع مسلحين في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)

أطلقت السلطة الفلسطينية حملة أمنية واسعة، في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، ضد مسلحين في المخيم الشهير، مخيم جنين، في بداية تحرك هو الأقوى والأوسع من سنوات طويلة، ويفترض أن يطول مناطق أخرى، في محاولة لاستعادة المبادرة وفرض السيادة.

وأعلن الناطق الرسمي باسم قوى الأمن الفلسطيني، العميد أنور رجب، أن الأجهزة الأمنية بدأت، فجر السبت، حملة «حماية وطن» لحفظ الأمن والسلم الأهلي، وبسط سيادة القانون، وقطع دابر الفتنة والفوضى في مخيم جنين.

وأكد رجب، في بيان، أن هدف هذه الجهود استعادة مخيم جنين من سطوة الخارجين على القانون، الذين نغصوا على المواطن حياته اليومية، وسلبوه حقه في تلقي الخدمات العامة بحرّية وأمان. وتعهد بالمضي وبلا هوادة في إنفاذ وتنفيذ القانون.

أحد أفراد قوات الأمن الفلسطينية ينظر من داخل مركبة خلال دورية وسط اشتباكات في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)

واندفعت قوات الأمن الفلسطيني إلى مخيم جنين في واحدة من المرات القليلة، قبل أن تندلع اشتباكات واسعة بين عناصر الأمن ومسلحين فلسطينيين تابعين للفصائل هناك. وأظهرت مقاطع فيديو تبادلاً للرصاص وانفجارات وحرائق ودخاناً في أزقة المخيم، قبل أن تعلن الفصائل أن السلطة قتلت أحد قادة «كتيبة جنين» التابعة لـ«الجهاد الإسلامي».

ونعت «الجهاد» يزيد جعايصة «الذي ارتقى برصاص أجهزة السلطة في جنين»، متهمة السلطة «بملاحقة المقاومين والمطلوبين للاحتلال» في استهداف متصاعد ومتعمد «يتماهى بشكل تام مع عدوان الاحتلال وإجرامه».

ودعت «الجهاد» الفصائل لاتخاذ موقف حاسم ضد السلطة، فلاقتها حركة «حماس» التي رأت «ما تنفذه أجهزة السلطة بالضفة الغربية استهدافاً واضحاً للمقاومة المتصاعدة». وطالبت «حماس» قيادة السلطة بـ«لجم سلوك أجهزتها وتصحيح بوصلتها الأخلاقية والوطنية نحو خيار الوحدة والمقاومة لردع الاحتلال وصد عدوانه».

لكن موقفي «حماس» و«الجهاد» لم يلقيا آذاناً مصغية في رام الله، باعتبار أن الحركتين متهمتان بالسعي إلى تقويض السلطة الفلسطينية.

وأطلقت السلطة حملتها على قاعدة أن ثمة مخططاً لنشر الفوضى في الضفة الغربية، وصولاً إلى تقويض السلطة وإعادة احتلال المنطقة.

وأكد مصدر أمني كبير لـ«الشرق الأوسط» أن الحملة تستهدف إنقاذ الضفة من مصير مشابه لمصير قطاع غزة. وقال: «إسرائيل تتربص بالضفة، وتدعم الفوضى حتى تبرر العالم في وقت لاحق خطتها لاستكمال ما بدأته في غزة؛ تدميراً وتهجيراً، ومن ثم تقويض السلطة الفلسطينية».

وأضاف المصدر أن السلطة على علم بمخططات إسرائيلية واضحة وصلت حد التنفيذ، لإغراق الضفة في الفوضى، مشيراً إلى أن «ما حدث في غزة لن يحدث في الضفة. لقد تعلمنا الدرس جيداً».

وبدأت الحملة الفلسطينية في جنين، التي تحولت إلى مركز للمسلحين الفلسطينيين، بعد أيام من تحذيرات إسرائيلية من احتمال تدهور الأوضاع في الضفة الغربية، تحت تأثير التطورات الحاصلة في سوريا (انهيار نظام الأسد)، ضمن وضع تعرّفه الأجهزة بأنه «تدحرج حجارة الدومينو». وقالت إذاعة الجيش الإسرائيلي إن التقديرات في أجهزة الأمن بأن تدهوراً محتملاً في الضفة قد يقود كذلك إلى انهيار السلطة. وتصف إسرائيل المواجهات في جنين بأنها «غير عادية».

أحد أفراد قوات الأمن الفلسطينية يوجه سلاحه خلال اشتباكات مع مسلحين في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)

وجاءت التقديرات الإسرائيلية الجديدة، وهي متكررة منذ سنوات، وتزايدت جديتها بعد هجوم «حماس» على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، في ذروة الاشتباكات بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومسلحي جنين.

والاشتباكات بين مسلحين وقوات أمنية فلسطينية في جنين تعد ترجمة لحرب أخرى أشرس على منصات التواصل الاجتماعي. ويمكن رصد تحريض كبير على السلطة الفلسطينية في منصة «تلغرام» بوصفها (أي السلطة) شريكاً للإسرائيليين في مواجهة المقاتلين في الضفة.

وهدد مسلحون في جنين ومناطق أخرى في الشمال قيادة وعناصر السلطة بأنهم سيدفعون ثمن «أفعالهم»، لكن السلطة أكدت أنها ماضية، بل حققت إنجازات في يومها الأول.

وفي رسالة حول جديتها هذه المرة، اجتمع رئيس الوزراء محمد مصطفى بقادة المؤسسة الأمنية في جنين، وقال مصطفى من هناك إن «هدف ما بجري إنقاذ المخيم وحماية المواطن، ووقف المعاناة... نعمل على استعادة زمام المبادرة في كافة محافظات الوطن، والنتيجة ستكون إيجابية للجميع».

وحضر مصطفى على رأس قادة الأجهزة الأمنية فيما كانت الاشتباكات مندلعة في مخيم جنين القريب.

عناصر من الأمن الفلسطيني في أثناء اشتباكات مع مسلحين في مخيم جنين بالضفة السبت (رويترز)

وقال الناطق الأمني إن عناصر الأجهزة الأمنية نجحوا في إعطاب عشرات العبوات المفخخة في شوارع مدينة جنين، واعتقلوا مسلحين، وسيطروا على مركبة مفخخة كانت مُعدّة لمهاجمتهم.

وحصلت السلطة على الدعم من «منظمة التحرير» وحركة «فتح». وأكد نائب أمين سر اللجنة المركزية لـ«ـفتح» صبري صيدم، أن المرحلة الحالية تتطلب مواجهة مظاهر الفلتان الأمني، وقطع الطريق أمام من يريد زعزعة السلم الأهلي والمجتمعي.

وأكد عضو اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير»، أحمد مجدلاني، ضرورة أن تكون هناك سلطة واحدة، وقانون واحد، وسلاح شرعي واحد. وقال: «لا للفلتان الأمني تحت شعار المقاومة».

والحملة في جنين مؤجلة منذ فترة طويلة، تجنبت فيها السلطة الدخول في مواجهات داخلية فيما هي محاصرة من قبل إسرائيل سياسياً ومالياً. لكن الحرب التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة، والتغييرات الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وضعتا السلطة على المحك.

ويعمل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، على إحداث أوسع تغيير ممكن في السلطة، استجابةً لمطالب دولية بإجراء إصلاحات وتغييرات، تمكن السلطة من تسلم قطاع غزة. وأجرى خلال الشهور الماضية تغييراً حكومياً، وعين محافظين جدداً، وأجرى تنقلات لقادة الأجهزة الأمنية، وفي السفارات الفلسطينية، وأصدر مرسوماً يحدد فيه من يتسلم منصبه في حال شغوره فجأة.

ووجدت السلطة نفسها في مواجهة مستعجلة مع المسلحين، بعدما بدأت تشعر أنهم بدأوا يدخلون إلى الفراغ، ويهددون بقاءها في أعقد ظرف ممكن. وتراقب إسرائيل ما يحدث في جنين عن كثب. وقالت «القناة الـ12» إن السلطة تلقت رسالة ساخنة من إسرائيل قبل فترة وجيزة مفادها: «ابدأوا بالتحرك وإلا فسنضطر إلى الدخول بأنفسنا». لكن السلطة لا تربط بين إسرائيل وعمليتها في جنين، والتي ستتوسع إلى مناطق أخرى لاحقاً.

وقال الناطق باسم الأجهزة الأمنية: «للأسف نواجه فئة باعت نفسها لصالح امتيازات دنيوية رخيصة، تقوم بأفعال داعشية، لا تمثل الشعب الفلسطيني»، وأضاف: «سنجتث هذه الفئات الخارجة على القانون، وأفعالها الإجرامية».

ورد مسلحون على السلطة وهددوها بدفع الثمن، وخرج أحد الملثمين من وسط مخيم جنين ملوحاً بيده صارخاً: «مقابل يزيد (الذي قتلته السلطة في اليوم الأول للاشتباكات) سيكون هناك مائة عسكري من السلطة».