يصح وصف النسخة الأحدث لتدخل مصرف لبنان المفتوح في أسواق القطع بالاختبار الأصعب، ليس للسلطة النقدية كمؤسسة مرجعية فحسب، بل لشخص الحاكم رياض سلامة وللتجربة التي يتعذر استنساخها مجدداً؛ سعياً إلى التقاط مهمة استعادة الدور المحوري في إدارة المبادلات النقدية والتحكم بالسعر السوقي لصرف الليرة وهوامش تقلباته، بعدما أحكم تجار العملات والأزمات والصرّافون سيطرتهم في الميدان النقدي. فالحاكم الخارج للتو من جلسات «استماع» قضائية أوروبية متخمة باتهامات «الجرائم» المالية، والمقبل على تحقيقات في القضايا عينها مع جهات قضائية محلية، يدرك تمام الإدراك بأن فشل التدخل الأحدث سيبدّد ما تبقى من الرصيد الشخصي لحرفيته ولمصداقيته قبيل أشهر قليلة من انتهاء ولايته السادسة، وسيفضي بالتوازي إلى تعظيم الفوضى والمضاربات على سعر الصرف، بحيث يتحول حاجز المائة ألف ليرة لكل دولار، محطة استراحة تسبق «الارتطام» النقدي الكبير، وما يصاحبه من تداعيات كارثية على مجمل الأوضاع المعيشية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي ظل خشية مصرفية ومالية من تداعيات أكبر حجماً تنتجها هذه المواجهة المشهودة في الميدان النقدي بين السلطة النقدية و«أشباح» الأسواق الموازية الذين يتكفلّون الاستحواذ على الدولارات المعروضة بأي وسيلة ومهما ارتفعت الكميات المعروضة، ينشد الاهتمام إلى محتوى التدابير الردعية أو الوقائية التي يتوقع اعتمادها من قِبل حاكمية مصرف لبنان. كذلك توضيحاته بشأن تعهده «المحافظة على قيمة الودائع بالدولار المحلي». ومن الواضح، بحسب خبراء وناشطين في أسواق النقد، أن المعوقات التي تصطدم بها سياسات مصرف لبنان وتدابيره التقنية للحدّ من انحدار سعر صرف الليرة، لا تقتصر على الغموض السياسي غير البنّاء الذي يطغى على مجمل الاستحقاقات الدستورية والملفات الحيوية العالقة في شرك الشلل الحكومي والتشريعي، بل هي تستمد صلابتها وقدرتها على جبه التوجهات من وقائع المؤشرات المؤثرة مباشرة في التدفقات النقدية.
في الخلفية، بحسب قراءة مسؤول مصرفي كبير، فإن قرار التدخل المغطى سياسياً بموافقة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير المال يوسف الخليل، لا يشكل، ولا يؤسس، لمبادرة مكتملة العناصر وتندرج ضمن بنود خطة حكومية وتشريعية للإنقاذ والتعافي تتلاقى مع مقتضيات «الاتفاق – البرنامج» الموعود مع صندوق النقد الدولي، إنما هو «عزف منفرد» وتحرك طارئ، مسبوق بزخم استثنائي للفوضى النقدية وبتفلّت غير مسبوق في وتيرة انهيار سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي، أفضى إلى حصيلة تماثل 10 أضعاف السعر الرسمي الجديد الذي تم اعتماده أول الشهر الماضي عند مستوى 15 ألف ليرة لكل دولار.
بذلك، يشدّد المسؤول المصرفي، على حساسية المعادلة المحدثة التي أرساها مصرف لبنان بالعرض الجديد والمفتوح لبيع الدولار النقدي من الأفراد والشركات بسعر 90 ألف ليرة بدءاً من 21 مارس (آذار) الحالي، والمتبوعة بتأكيد سلامة «أن القرار الذي اتخذناه جاء لسحب كل الليرات اللبنانية من السوق ومصرف لبنان لديه القدرة على ذلك»، والمسبوقة أيضاً بفشل التدخل السابق الذي أطلقه مطلع الشهر المنصرم، بعرض مماثل لبيع الدولار بسعر 70 ألف ليرة، قبل أن تلزمه الضغوط السوقية برفع السعر تباعاً ليصل إلى 83.5 ألف ليرة في آخر العمليات عبر منصة صيرفة.
ومع ضرورات استمرار الأنفاق العام وصرف الرواتب، بموازاة تناقص قدرات مصرف لبنان من العملات الأجنبية بعد انحدارها المرتقب إلى نحو 9 مليارات دولار، يخشى أن يتكفّل الحجم الاستثنائي لتجارة العملات وتسخين المضاربات في الأسواق الموازية مجدداً، بتشتيت استهدافات التحرك الأحدث للعروض المفتوحة للمبادلات النقدية عبر منصة صيرفة، وفرملة تدخل مصرف لبنان وسقوفه في إدارة عمليات العرض والطب. وتدعم القرائن الموضوعية والدلائل السوقية هذه الخشية بما لا يتناسب مع الترقبات المتفائلة لنجاح التجربة المستجدة في ضبط الفوضى النقدية العارمة. فوفق تحليل المصرفي، يزخر السجل بنتائج عقم المبادرات الوقائية التي يكررها مصرف لبنان في ظل الفجوات المشهودة التي تكتنف دور الدولة وحضورها، مجسداً بواقع الشلل التشريعي والتنفيذي في منظومة الحكم تحت مظلة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية. ومن دون أي لبس أو اشتباه، يجزم المصرفي بأن هذا «الغياب» الرسمي، أفضى ضمن باقات تداعياته المؤلمة، إلى تعميم الفراغات لتشمل أسواق القطع، ومنح تالياً الفرص المواتية لتزخيم المضاربات النقدية، والتي تتغذى أساساً من تعميق حال عدم اليقين، وتستظل حديثاً عوامل اضطراب مستجدة ذات صلة بملفات قضائية بأبعاد محلية وخارجية.
واستتباعاً، تقلص الدور المفترض لمصرف لبنان الذي الزمته السلطة والحكومة السابقة بتبديد نحو 20 مليار دولار من موجوداته السائلة بالعملات الأجنبية، من صانع رئيس لأسواق الصرف والتحكم بإدارة السيولة النقدية، إلى حارس المرمى «السياسي» المكلف بشراء الوقت لصالح السلطات والصد غير المتكافئ لسيل الهجمات الشرسة على سعر الليرة. وتتطابق هذه المعطيات مع تحليل أورده الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، ولفت فيه إلى أن حاكم مصرف لبنان واقعٌ بين «السندان» و«المطرقة»، حيث لا يستطيع ترك الساحة في هذه الفوضى، وهو يتمتّع بتاريخ كبير بتدخّلاته وتنظيمه لسوق القطع. في حين أن الجوّ العام لا يرحمه ولا يساعده ولا يعترف له بهذا التاريخ، كما أن إمكاناته الحالية أصبحت بسيطة جداً. ولذا؛ فإن هذه الآلية، لا يمكن إلا أن تكون «مؤقتة»، وما يؤكّد على ذلك بإجماع الجميع، هو أن الحاكم في حدّ ذاته «مؤقّت» مع اقتراب موعد انتهاء ولايته بنهاية شهر يوليو (تموز) المقبل.
وفي المقاربة التقنية، فإن أي عاقل، وفق حمود، لا يُعلن أنه يريد أن يجفّف السوق من الليرة التي يطبعها ويدفع الدولار الأميركي كي يشتريها. فالدولار ليس مِلكه الخاص بل مِلك الغير؛ لأنه لا يوجد احتياطيات صافية. فلو كان لديه فائض في ميزان المدفوعات تستطيع عندها البنوك المركزية التدخّل لضخّ عملة أجنبية في السوق، لكنها تعود لتملأها بفائض في ميزان المدفوعات. كذلك، فإنه مع تدخل مصرف لبنان لبيع الدولار والتخفيف من الكتلة النقدية بالليرة، على الحاكم أن يدرك أن هذه الدولارات لن تذهب إلى منازل اللبنانيين وجيوبهم أو للادّخار، بل إلى الاستهلاك والاستيراد فقط. وبالتالي، فإن الحاجة إلى الدولارات ستظل مستمرة. والسؤال البديهي، بحسب حمود، إلى أي متى سيتمكّن المصرف من الاستمرار في ضخّها في السوق، في حين أن كتلة العملة الوطنية ستعاود الانتفاخ لتغطية رواتب ومعاشات القطاع العام، كما أن بعض القطاع الخاص لا يمكنه الاستغناء عن الليرة، وإذا تم توقيف التعامل بالليرة فيخسر الحاكم توقيعه عليها. إذا لا حول له إلا في حال تأمين فائض في ميزان المدفوعات لدعم احتياطه ويستطيع بالتالي تنظيم السوق.
حاكم مصرف لبنان يخوض تجربة «العرض» الأخير لحماية الليرة
حاكم مصرف لبنان يخوض تجربة «العرض» الأخير لحماية الليرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة