التوتر السياسي ينفجر في البرلمان اللبناني... وتحذير من «فتنة»

رئيس «الكتائب» يتهم المعاون السياسي لبري بـ«المس بالمقدسات»

الجميل متوسطاً زميليه ميشال معوض (يمين) وسليم الصايغ بعد الجلسة (موقع البرلمان اللبناني)
الجميل متوسطاً زميليه ميشال معوض (يمين) وسليم الصايغ بعد الجلسة (موقع البرلمان اللبناني)
TT

التوتر السياسي ينفجر في البرلمان اللبناني... وتحذير من «فتنة»

الجميل متوسطاً زميليه ميشال معوض (يمين) وسليم الصايغ بعد الجلسة (موقع البرلمان اللبناني)
الجميل متوسطاً زميليه ميشال معوض (يمين) وسليم الصايغ بعد الجلسة (موقع البرلمان اللبناني)

انتقل التوتر السياسي الذي يشهده لبنان منذ أيام على خلفية ما بات يعرف بـ«التوقيتين» إلى داخل البرلمان، حيث اجتمع النواب أمس في جلسة للجان النيابية المشتركة للبحث في عدد من اقتراحات القوانين بينها الانتخابات البلدية، فتحوّلت النقاشات إلى سجالات عالية السقف، ووصلت إلى حد «المس بالمقدسات» وفق ما أعلن رئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل. وهذه الأجواء المتشنجة أدت إلى رفع الجلسة وإصدار توصية كي يحسم وزير الداخلية والحكومة القرار بشأن الانتخابات البلدية، في إشارة إلى الإطاحة بالجلسة التشريعية التي كان يسعى رئيس البرلمان نبيه بري لعقدها للبحث في عدد من اقتراحات القوانين إضافة إلى الانتخابات البلدية، نظرا للمعارضة التي يلقاها من قبل عدد من الكتل النيابية.
وفيما لم يكشف عن تفاصيل الإشكال، أشارت المعلومات إلى أن السبب مرتبط بالانتخابات البلدية وكيفية تمويلها، إضافة إلى معارضة عقد جلسات تشريعية، وهو ما أدى إلى سجال بين رئيس حزب «الكتائب اللبنانية» النائب سامي الجميل والمعاون السياسي لرئيس البرلمان نبيه بري، النائب علي حسن خليل، ووصل إلى حد الكلام الطائفي، فيما سمع صراخ النواب وأصواتهم إلى خارج القاعة، بحسب ما أشارت المعلومات.
وعقدت اللجان النيابية جلسة مشتركة يوم أمس برئاسة نائب رئيس مجلس النواب إلياس بوصعب وحضور وزيري الداخلية والمالية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي ويوسف الخليل وعدد كبير من النواب وممثلين عن الإدارات المعنية.
وكان على جدول أعمال الجلسة ثمانية بنود، بينها اقتراح القانون الرامي إلى فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة بقيمة 1500 مليار ليرة لتغطية نفقات إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية لعام 2023 وناقشت اللجان هذا الاقتراح.
وبعد الجلسة قال بوصعب: «تبين أن لا أحد لديه مشكلة بأن تجرى الانتخابات، ووزير الداخلية سيدعو لها في الثالث من الشهر المقبل، ولكن هناك الكثير من الأمور التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار قبل الدعوة، إذ إنه في حال الدعوة ليس علينا التراجع بعد فترة».
وفيما لفت إلى أن «وزير الداخلية سيتوجه عند رئيس الحكومة لمناقشة الموضوع واتخاذ القرار المناسب، وأصدرنا توصية ليحسم وزير الداخلية هذا الموضوع والحكومة أيضا»، قال: «الخلاف السياسي أدى إلى رفع الجلسة لأن الجو كان متشنجا...».
وأظهرت التصريحات التي تلت الجلسة أن المواجهة داخل المجلس لا تنفصل عن تراكم الخلافات المرتبطة بقضايا عدة، أبرزها الانتخابات الرئاسية وما يرتبط بها من خلافات في مقاربة صلاحيات البرلمان وحكومة تصريف الأعمال في مرحلة الفراغ الرئاسي.
وتحدث الجميل بعد انتهاء الجلسة عما حصل داخلها، رافضا الإفصاح عن التفاصيل، لكنه أكد في الوقت عينه أنه خطير ولا يجوز أن يمرّ، فيما لفت بيان صادر عن «الكتائب» عن «وقوع نقاش حاد بين الجميل والنائب علي حسن خليل بسبب استخدام خليل تعابير لا أخلاقية، ولا ترتقي إلى مستوى التخاطب بين النواب».
وتوضح مصادر في «الكتائب» لـ«الشرق الأوسط» أنه خلال مناقشة موضوع تمويل الانتخابات البلدية طرح النائب الجميّل خيارات عدة لكيفية تمويلها دون الحاجة إلى انعقاد جلسة تشريعية لمجلس النواب التي يعتبر أنها غير دستورية بحكم الشغور الرئاسي، ومنها إمكانية التمويل من الهيئة العليا للإغاثة أو من مصرف لبنان الذي يصرف يومياً أضعاف المبلغ المطلوب لمنصة «صيرفة»، والذي يقدر بثمانية ملايين دولار، كما طرح إمكانية استعمال أموال السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي التي تستعمل اليوم لأغراض متعددة وصولاً حتى إلى تنظيف الوزارات، في إشارة إلى ما أشيع أن وزير التربية قام باستخدام جزء من هذه الأموال لتكليف إحدى الشركات بتنظيف مبنى الوزارة.
وتشير المصادر إلى أنه عندها تدخل النائب علي حسن خليل، مشيرا إلى أن أحد رؤساء الأحزاب يطرح خيارا مخالفا للدستور ويطلب من الحكومة القيام به، ليتدخل عندها النائب الجميل ويرد عليه بالقول: «أستغرب كيف أن حضرة الزميل يعطينا أمثولة في كيفية احترام الدستور والقوانين والقضاء»، فكان أن انفعل النائب خليل وردّ عليه قائلا: «أنت مجرم وابن مجرم ومن عائلة مجرمة»، لتعود بعدها وتعم الفوضى في المكان، ويعلو صراخ النواب والمواجهة فيما بينهم.
وقال الجميل في مؤتمر صحافي: «جئنا لنؤكد على أن عدم حصول الانتخابات البلدية والاختيارية سيؤدي إلى فوضى كبيرة في البلد، لافتا إلى أن هناك مائة طريقة للحكومة لإجراء الانتخابات البلدية، وأعطينا أمثلة أن مصرف لبنان يصرف يومياً 27 مليون دولار لمنصة صيرفة لتهدئة سعر الصرف»، علما بأن «المبلغ المطلوب هو 8 ملايين دولار أي ربع ما يدفعه مصرف لبنان يومياً».
وجدد الجميل موقفه لناحية اعتبار البرلمان هيئة ناخبة وليس هيئة تشريعية، أي لا يحق لها التشريع، في انتقاد واضح لرئيس البرلمان نبيه بري، وأكد في المقابل أن المسؤولية تقع على الحكومة التي لا يمكنها أن تؤمن تمويلاً للانتخابات البلدية فيما تجد تمويلا لأمور أخرى.
وكشف الجميل أن ما حصل مسّ بالمقدسات، واصفا إياه بـ«الخطير»، لكنه رفض الإفصاح عن التفاصيل، ووضعها في عهدة رئيس البرلمان الذي دعاه للاستماع إلى تسجيل الجلسة. وقال: «إذا أفصحت عما حصل فسوف أكون مساهماً بفتنة يريد البعض جرّ البلد إليها وهذا ما لا نريده... وإذا اعتبر بري أن ما حصل يمرّ فإننا نكون أمام مشكلة كبيرة لن يقبل بها أحد، وإن لم يرغب في معالجتها فسوف تكون الرسالة وصلت وسنرى مع حلفائنا كيف سنتعاطى».
ومع تأكيده أنه لم يتوجه إلى النائب خليل بأنه «مطلوب للعدالة»، (على خلفية التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت)، قال الجميل: «إن كان أحد النواب (في إشارة إلى خليل) فقد أعصابه فنحن نمر فوق ما حصل ولا مشكلة، أما إن كان هناك توجه سياسي بأن نتعاطى في البلد بهذا الشكل ونستخدم هذا المنطق وننظر للآخر بهذا الشكل، فالمشكلة كبيرة جداً».
في المقابل، عاد النائب خليل، بعد الجلسة، وانتقد معارضة بعض الجهات لعقد جلسات تشريعية، وقال: «الانفعال الذي تكلّم عنه أحد الزملاء هو ما يولّد ردود الفعل، وكان كلامي واضحاً؛ إذ قلت: نحن كمجلس نيابي لا نتحمّل مسؤولية استعمال أموال السحب الخاصة»، ليعود بعدها ويوضح أنه قصد رئيس حزب «القوات اللبنانية» بكلامه، «لكن الجميل أصرّ أنّه هو المقصود وتكلّم معي بلغة تخطّت لغة الزمالة فاستحقّ ردّة فعلي ليعلو الصراخ في المجلس». وأكد «لن أقبل بأن يكون هناك أي مسّ بكرامتنا تحت أي شكلٍ من الأشكال، ولن ننجر إلى خطاب الانقسام في البلد».
واستعاد خليل الخلاف الذي نشأ على خلفية التوقيت وقال: «(حركة أمل) قاتلت من أجل لبنان وما زالت تُناضل، وهي الحريصة على السلم الأهلي بعكس جهاتٍ رفعت شعار (لكم لبنانكم ولنا لبناننا) بسبب الساعة».
مع العلم أن المواجهات بين النواب لم تقتصر على الجميل وخليل، بل كان قد سبقها أيضا خلاف، وفق ما ذكرت وسائل إعلام لبنانية، بين اعتراض النائب في كتلة بري غازي زعيتر، والنائب ملحم خلف، على خلفية دعوة الأخير لانتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت، وهو ما نتج عنه أيضا سجال حاد وإطلاق كلمات نابية بين الطرفين.
وعلّق أمين سرّ كتلة «اللقاء الديمقراطي» النائب هادي أبو الحسن على الخلاف الذي شهدته جلسة اللجان المشتركة اليوم، وكان هو أحد النواب الذي تدخّل للتهدئة، معتبرا أن ما يحصل يكشف عن الواقع المؤسف في البلد، واصفا الجو بـ«المحتقن». وقال في حديثٍ لـ«الأنباء» الإلكترونية: «ما حصلَ في الجلسة كان صادماً، والواقع في البلد خطير إذا ما استمر على هذا النحو»، لافتاً إلى أنَّ «المطلوب أن يعلو صوت العقل في عين العاصفة».
وكان للنائب أبو الحسن مع رئيس «الاشتراكي» وليد جنبلاط دور في المسعى الذي أدى إلى إنهاء الإشكال الناتج عن القرار الحكومي بتمديد التوقيت الشتوي، ودعا أبو الحسن «المسؤولين للعودة إلى التعقل والتفكير مليّاً والبدء بالتفكير بمصلحة البلد، وهموم الناس وانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة والبدء بالإصلاحات بدل المضي في هذا المسلسل المتوتر». وأكد أبو الحسن أن «ما حصل مخيّب للآمال، ودعوتنا إلى كلّ الفرقاء للعودة إلى الحكمة والتروي والتعقّل والمنطق والحرص على المصلحة الوطنية».
ويأتي هذا الخلاف بعد أيام من التوتر السياسي - الطائفي الذي شهده لبنان إثر اتخاذ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بطلب من رئيس البرلمان، قراراً بتمديد التوقيت الشتوي، وهو ما أثار ردود فعل رافضة ومنتقدة للطريقة التي اتخذ بها قبل أن تتحول إلى طائفية ومناطقية مع إعلان الأحزاب المسيحية والبطريركية المارونية رفضها للقرار واعتماد التوقيت الصيفي، وصولا إلى عقد ميقاتي جلسة للحكومة أعلن على أثرها العودة عن قراره.


مقالات ذات صلة

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

المشرق العربي رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

رحيل الموسيقار اللبناني إيلي شويري

تُوفّي الموسيقار اللبناني إيلي شويري، عن 84 عاماً، الأربعاء، بعد تعرُّضه لأزمة صحية، نُقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة. وأكدت ابنته كارول، لـ«الشرق الأوسط»، أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن تعلم به العائلة، وأنها كانت معه لحظة فارق الحياة.

المشرق العربي القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

القضاء اللبناني يطرد «قاضية العهد»

وجّه المجلس التأديبي للقضاة في لبنان ضربة قوية للمدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، عبر القرار الذي أصدره وقضى بطردها من القضاء، بناء على «مخالفات ارتكبتها في إطار ممارستها لمهمتها القضائية والتمرّد على قرارات رؤسائها والمرجعيات القضائية، وعدم الامتثال للتنبيهات التي وجّهت إليها». القرار التأديبي صدر بإجماع أعضاء المجلس الذي يرأسه رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجار، وجاء نتيجة جلسات محاكمة خضعت إليها القاضية عون، بناء على توصية صدرت عن التفتيش القضائي، واستناداً إلى دعاوى قدمها متضررون من إجراءات اتخذتها بمعرض تحقيقها في ملفات عالقة أمامها، ومخالفتها لتعليمات صادرة عن مرجع

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

جعجع: فرص انتخاب فرنجية للرئاسة باتت معدومة

رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن فرص انتخاب مرشح قوى 8 آذار، رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، «باتت معدومة»، مشيراً إلى أن الرهان على الوقت «لن ينفع، وسيفاقم الأزمة ويؤخر الإصلاح». ويأتي موقف جعجع في ظل فراغ رئاسي يمتد منذ 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث فشل البرلمان بانتخاب رئيس، وحالت الخلافات السياسية دون الاتفاق على شخصية واحدة يتم تأمين النصاب القانوني في مجلس النواب لانتخابها، أي بحضور 86 نائباً في دورة الانتخاب الثانية، في حال فشل ثلثا أعضاء المجلس (86 نائباً من أصل 128) في انتخابه بالدورة الأولى. وتدعم قوى 8 آذار، وصول فرنجية إلى الرئاسة، فيما تعارض القوى المسيحية الأكثر

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

بخاري يواصل جولته على المسؤولين: الاستحقاق الرئاسي شأن داخلي لبناني

جدد سفير المملكة العربية السعودية لدى لبنان، وليد بخاري، تأكيد موقف المملكة من الاستحقاق الرئاسي اللبناني بوصفه «شأناً سياسياً داخلياً لبنانياً»، حسبما أعلن المتحدث باسم البطريركية المارونية في لبنان بعد لقاء بخاري بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، بدأ فيه السفير السعودي اليوم الثاني من جولته على قيادات دينية وسياسية لبنانية. وفي حين غادر السفير بخاري بكركي من دون الإدلاء بأي تصريح، أكد المسؤول الإعلامي في الصرح البطريركي وليد غياض، أن بخاري نقل إلى الراعي تحيات المملكة وأثنى على دوره، مثمناً المبادرات التي قام ويقوم بها في موضوع الاستحقاق الرئاسي في سبيل التوصل إلى توافق ويضع حداً للفراغ الرئا

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

شيا تتحرك لتفادي الفراغ في حاكمية مصرف لبنان

تأتي جولة سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا على المرجعيات الروحية والسياسية اللبنانية في سياق سؤالها عن الخطوات المطلوبة لتفادي الشغور في حاكمية مصرف لبنان بانتهاء ولاية رياض سلامة في مطلع يوليو (تموز) المقبل في حال تعذّر على المجلس النيابي انتخاب رئيس للجمهورية قبل هذا التاريخ. وعلمت «الشرق الأوسط» من مصادر نيابية ووزارية أن تحرك السفيرة الأميركية، وإن كان يبقى تحت سقف حث النواب على انتخاب رئيس للجمهورية لما للشغور الرئاسي من ارتدادات سلبية تدفع باتجاه تدحرج لبنان من سيئ إلى أسوأ، فإن الوجه الآخر لتحركها يكمن في استباق تمدد هذا الشغور نحو حاكمية مصرف لبنان في حال استحال عل

محمد شقير (بيروت)

روسيا المنخرطة في أوكرانيا... كيف تواجه معارك سوريا؟

قوات روسية في سوريا (أرشيفية)
قوات روسية في سوريا (أرشيفية)
TT

روسيا المنخرطة في أوكرانيا... كيف تواجه معارك سوريا؟

قوات روسية في سوريا (أرشيفية)
قوات روسية في سوريا (أرشيفية)

دخل الكرملين على خط المعارك الساخنة في سوريا، الجمعة، بعد مرور 3 أيام على اندلاع أوسع مواجهات تشهدها البلاد منذ ربيع عام 2020، محذراً من «الاعتداء على سيادة سوريا».

وحملت دعوة الرئاسة الروسية للحكومة السورية إلى «استعادة النظام بأسرع وقت» مؤشرات إلى أن موسكو التي راقبت بصمت تطور الوضع في مناطق المواجهة خلال الأيام الماضية، بدأت تشعر بقلق بسبب التقدم السريع لقوات المعارضة في محيط إدلب وحلب.

وربط محللون في موسكو التطورات بما وصف أنه محاولة لاستغلال الانخراط الروسي في أوكرانيا، و«فتح جبهة جديدة تضغط على موسكو، على خلفية احتدام المواجهة المباشرة مع حلف الأطلسي (الناتو)».

ووصف الناطق الرئاسي الروسي، دميتري بيسكوف، الوضع في حلب بأنه «تعدٍ على سيادة سوريا»، وأكد أن بلاده «تدعم استعادة النظام في المنطقة».

وقال للصحافيين، رداً على سؤال يتعلق بالوضع حول حلب، إن «هذا بالطبع تعدٍ على سيادة سوريا في هذه المنطقة، وندعو السلطات السورية إلى استعادة النظام بسرعة في هذه المنطقة وفرض النظام الدستوري».

اللافت في توقيت التصريح أنه جاء بعد مرور ساعات على دخول القوات الجوية الروسية على خط المواجهات، ما يعكس تحول موسكو من مراقبة الوضع إلى التدخل المباشر عسكرياً وسياسياً لدعم النظام.

وكان «مركز المصالحة الروسي» المكلف مراقبة تنفيذ الهدنة في سوريا أعلن، ليل الجمعة، أن القوات السورية «تصدت بدعم من الطيران الروسي لـ(هجوم إرهابي) في محافظتي حلب وإدلب، وكبّدت المسلحين خسائر فادحة في المعدات والقوى البشرية». وكان هذا أول إعلان مباشر من موسكو بتحريك الطيران الحربي لمساعدة القوات الحكومية على وقف الهجوم الواسع.

الانخراط في أوكرانيا

وتربط تقديرات التطورات السورية بتفاقم المواجهة المباشرة لروسيا مع حلف شمال الأطلسي، وخصوصاً لجهة سماح الغرب لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى، وما أعقبه من الردّ الروسي بتوسيع استهداف البنى التحتية والمرافق في المدن الأوكرانية الكبرى، واستخدام أحدث الأسلحة في ذلك، وبينها صاروخ «أوريشنيك» القادر على حمل رؤوس نووية، ما عدّ رسالة تحذير قوية من جانب الكرملين للغرب.

وعلى نهج التقدير السابق، نقلت وسائل إعلام روسية عن خبراء سياسيين وعسكريين أن التطورات السورية مرتبطة بالتعقيدات التي تواجهها روسيا، المنخرطة بقوة في أوكرانيا.

ورأى الخبير العسكري ألكسندر أرتامونوف أن «المواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي باتت مباشرة، وكان استخدام (أوريشنيك) في الأساس تبادلاً للضربات مع التحالف، وليس مع القوات المسلحة الأوكرانية (...) لذلك، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أننا بدأنا بالفعل مواجهة أوسع مع مجموعات عسكرية حليفة للناتو، بما في ذلك تلك الموجودة في الشرق الأوسط».

انفجار صاروخ في السماء خلال هجوم روسي على كييف (رويترز)

ويعتقد أرتامونوف أن إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن تبحث عن فرص «لإلحاق أقصى قدر من الضرر بمصالح روسيا». وقال إن سوريا تشكل منصة مناسبة لذلك، حيث توجد قاعدتان عسكريتان روسيتان هناك، والدولة نفسها تدخل في فلك المصالح الروسية.

غموض حول زيارة الأسد

ومع تسارع التطورات الميدانية في سوريا، تجنب المسؤول الإعلامي في الكرملين التعليق على تقارير تحدثت عن زيارة غير معلنة للرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو، وقال بيسكوف حرفياً عندما طلب منه ممثلو وسائل الإعلام تأكيد أو نفي هذه الزيارة: «ليس لديّ ما أقوله بشأن هذه القضية».

وكان دبلوماسي روسي أبلغ «الشرق الأوسط» أن الأسد «يزور موسكو كثيراً لمواصلة علاج زوجته»، مستبعداً بذلك أن تكون الزيارة، إذا صحّت التقارير بشأنها، مرتبطة بالوضع الميداني المتفاقم في شمال غربي سوريا.

ومقابل الصمت الرسمي لموسكو خلال الأيام الأولى للهجوم، نقلت وسائل الإعلام الحكومية الروسية تغطيات مقتضبة حول «شنّ الإرهابيين هجمات على مناطق سيطرة الحكومة السورية».

وبرز إلى جانب ذلك تحميل غير مباشر للمسؤولية عن التصعيد على عاتق تركيا، التي كتبت عنها وكالة أنباء «نوفوستي» الرسمية، أنها «المسؤولة بموجب توافقات وقف النار عن الوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب ومحيطها».

جنود من الفصائل المسلحة السورية يقفون في تشكيل بعد دخول قرية عنجارة على مشارف حلب الغربية... 29 نوفمبر 2024 (أ.ب)

لكن الأبرز في هذا الإطار الإشارات إلى أن الهجمات التي شنّتها المعارضة استغلت «تراجع قوة القوات المدعومة من إيران» في مناطق عدة، ما أعطى إيحاء بأن الهجوم الواسع تم تنسيقه مع الولايات المتحدة، وربما مع تركيا، لـ«تعزيز الضغط على الإيرانيين والقوات النظامية»، وكذلك لتحسين الشروط التفاوضية للمعارضة.

الأثر التركي

في إطار متصل، كتب المعلق السياسي لصحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» واسعة الانتشار أن «دمشق الرسمية تواجه أقوى هجوم للجماعات المسلحة المتطرفة الموالية لتركيا في السنوات الأخيرة»، والهدف وفقاً للصحيفة «احتواء الجيش الحكومي والمسلحين الشيعة المتحالفين معه».

ورأى أن «تزامن تفعيل القوات الموالية لتركيا مع تجميد النزاع المسلح في لبنان المجاور وجمود المفاوضات بين أنقرة ودمشق بشأن تطبيع العلاقات الثنائية يوجّه رسائل عدة بأن التطورات تم التخطيط لها بعناية».

وبرغم أن الصحيفة نقلت تأكيدات مصدر استخباراتي تركي على أن أنقرة «تحاول منع العملية لتجنب مزيد من تصعيد التوترات في الشرق الأوسط، خاصة في ظل الجبهة المفتوحة في قطاع غزة»، فإنه استنتج أن «محاولات استخدام قنوات الاتصال لم تسفر عن نتائج»، خصوصاً أن «الهجوم الذي كانت موسكو تتوقع في البداية أنه لن يزيد عن كونه عملية محدودة، سرعان ما توسع نطاقه، عندما بدأت القوات النظامية السورية التخلي عن مواقعها، كما انهارت دفاعات القوات الموالية لها».

مقاتلون سوريون موالون لتركيا يستعدون لقصف مواقع تابعة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» شمال شرقي البلاد (أ.ف.ب)

ولعل التحليل السابق، يشرح بصورة غير مباشرة أسباب الصمت الروسي في أيام الهجوم الأولى، إذ يبدو أن موسكو سعت إلى درس الموقف، ومعرفة ما إذا كانت تركيا تقود التحرك، أم أنه جرى بدفع من الولايات المتحدة لاستغلال لحظة الضعف لدى الحكومة والحلفاء الإيرانيين.

كما أن موسكو ربما أرادت فهم حجم المعركة ومستوى اتساعها ومداها الزمني، ما يعني أن التدخل الروسي الحالي جاء بعد تفاقم المخاوف من أن تخرج الأمور عن سيطرة دمشق، وأن تنهار الدفاعات بشكل قوي، ما يسمح للمعارضة بالسيطرة على مدن كبرى استراتيجية، مثل حلب.

وبرغم أن التقديرات الأولية تشير إلى أن «أنقرة تبدو حتى الآن المستفيد الرئيسي من التصعيد»، فإن الفهم الروسي ينطلق من أن التطورات السورية بمثابة ضربة لموسكو أولاً، في سياق المواجهة مع الغرب، وربما تهدف إلى وضع خرائط جديدة تستبق الرؤية الأميركية بالانسحاب من سوريا، بعد تولي الرئيس المنتخب دونالد ترمب السلطة في يناير (كانون الثاني) المقبل.

خيارات محدودة

لا يستبعد خبراء أن تُصعّد موسكو التي فوجئت بقدرة قوات المعارضة على التقدم سريعاً من ضرباتها على مواقع التحرك والإمداد، بهدف وقف هذا التقدم، وإفساح المجال أمام تحسين الدفاعات في المناطق، وخصوصاً مدينة حلب.

في الوقت ذاته، نشّطت موسكو اتصالاتها، وفقاً لمصادر مع الجانب التركي، لضبط تحرك الفصائل السورية المسلحة، والعودة إلى خط الهدنة، مع الإشارة إلى أن موسكو لا ترغب بتدخل عسكري واسع النطاق، قد تحتاج معه لإعادة زجّ قوات إضافية، ما قد يضرّ بالعلاقة مع الجانب التركي.

لذلك تبدو الخيارات أمام موسكو محدودة للتحرك الميداني. ووفقاً لخبراء، فهي تفضل التوصل إلى «صيغة سريعة للتهدئة» تعيد إنتاج التوافقات مع تركيا، ربما بطريقة جديدة، تدفع الحكومة إلى التجاوب سريعاً مع جهود التقارب مع أنقرة.