«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟

ميكروبات الأمعاء تتلاعب بخيارات الإنسان من الأطعمة

«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟
TT

«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟

«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟

تفرض تريليونات الميكروبات التي تعيش في أمعائنا حاجاتها الغذائية بطرائق كثيرة.
أحاسيس الجوع والشبع

لا تسألوا كيف يؤثّر نظامكم الغذائي على ميكروبيوم (الوسط الميكروبي) الأمعاء لديكم؛ بل كيف يؤثر الميكروبيوم على نظامكم الغذائي. ترجّح مجموعة كبيرة من الدراسات أنّ الميكروبات الموجودة في الأمعاء لا تنظّم شهيّة الإنسان فحسب؛ بل تتلاعب بخياراته الغذائية أيضاً؛ لأنّ هذا التلاعب هو ببساطة طريقتها لضمان تلبية حاجاتها الخاصة.
الجوع محرّكٌ قوي جداً يتغذّى من مسارات بيولوجية كثيرة بمنطقة «تحت المهاد» في الدماغ hypothalamus (التي تحتوي أيضاً على مراكز التحكم في الجوع والعطش). ويعتمد الوجود البشري في النهاية على عاملٍ أساسي يتلخّص في الحصول على القدر الكافي من الطاقة والأغذية.
تولّد الهرمونات التي ينتجها الدماغ أحاسيس الجوع وتنشّط استهلاك الطعام، بينما تعمل هرمونات أخرى تنتُجها الأمعاء على حثّنا لتناول الطعام. تنشّط خلطة غنيّة أخرى من الهرمونات –بعضها يُنتج في الدماغ، وبعضها تنتجها خلايا الدهون (حيث تُخزّن الطاقة الإضافية)، والجزء الأكبر منها يُنتج في الأمعاء والأعضاء المرتبطة بها– أحاسيس الشبع وتكبح التغذية. وتؤكّد آليات الإشارة المتنوّعة أنّ الجوع يعبّر عن نفسه بعدّة أشكال من الانزعاج -أبرزها صرير المعدة، والمزاج المعكّر، والدوار- تدفعنا جميعها لتناول الطعام.
وتوجد أيضاً حوافز كثيرة لتناول الطعام (أو عدم تناوله) والتي تتجاوز الجوع الفسيولوجي وتؤثّر على الشهية، مثل منظر البيتزا الساخنة، ورائحة الخبز الطازج، والتوتّر الناتج عن مهلة مهمّة، والملل.

الوسط الميكروبي المعوي
إضافة إلى جميع هذه الإشارات التي توجّه ماذا ومتى تضعون في فمكم، أضيفوا واحداً آخر: النشاط اليومي لتريليونات البكتيريا التي تستوطن المجرى الهضمي، والتي تُعرف مجتمعة باسم الميكروبيوم المعوي. تفوق جينات هذه الميكروبات الجينات البشرية عدداً بمعدّل 100 جين لكلّ جين بشري، ما يمنحها القوّة لتغيير سلوكنا الغذائي بما يصبّ في مصلحتها. فقد أظهرت إحدى الدراسات مثلاً أنّ الفئران الخالية من الجراثيم التي استوطنها ميكروبيوم قوارض بريّة تتّبع استراتيجيات تغذية طبيعية مختلفة كليّاً –بعضها نباتي وبعضها لا– تبنّت أنماط الاستهلاك الغذائي التي تتبعها القوارض صاحبة الميكروبيوم الدخيل.
عبر أفعالها المباشرة، ومنتجاتها الأيضية (نواتج التمثيل الغذائي)، والرسائل التي ترسلها عبر العصب المبهم من الأمعاء إلى الدماغ، وحتّى عبر منافستها الدارونية للسيطرة، تهندس ميكروبات الأمعاء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ما تأكلونه، ويُعتقد أيضاً أنّها تلقّن جسدكم شهواته الغذائية لتناول: صدر دجاج غني بالبروتين، أو شطيرة برغر دسمة بالجبن.
محاكاة هرمونية

تولّد بكتيريا الأمعاء الشهوات الغذائية، من خلال التلاعب بمتلقّيات التذوّق لديكم، فتغيّر الإحساس بالأغذية وتذوّقها. على سبيل المثال، تستطيع البكتيريا تخفيف الحساسية للنكهات الحلوة والدهنية، لتدفع بذلك الحاجة لزيادة كثافة هذه المحفّزات. وتساهم الأمعاء الغنية بالبكتيريا العصية اللبنية Lactobacilli، الضرورية لمراقبة البكتيريا المسببة للأمراض، في تراجع الحساسية للطعم الحامض، وتستطيع بكتيريا الأمعاء أيضاً زيادة الحساسية تجاه الطعم المرّ؛ الأمر الذي قد يفسّر عدم تقبّل النّاس لطعم البروكلي.
تعدّل مكوّنات البكتيريا، أو منتجاتها الثانوية الأيضية، عبر مسارات الإشارات الحسيّة الكيميائية، تعبير خلايا متلقّيات الطعم في الأمعاء والفم، ولو أنّ الوسائل التي تستخدمها لهذه الغاية ليست واضحة بعد. ومع ذلك، يمكن للتغييرات التي تطرأ على البيئة الميكروبية في الأمعاء أن توجه خيار الطعام، من خلال التأثير بشكلٍ كبير على تلقّي الطعم؛ الدافع الأبرز خلف تناوله.
تؤثر بكتيريا الأمعاء أيضاً على خيارات الطعام، من خلال السيطرة على الدوائر العصبية الكيميائية في منطقة تحت المهاد. تنتج الميكروبات بروتينات تتشاطر التسلسلات الجزيئية مع بعض هرمونات الجوع والشبع، وتستطيع التنكّر لتشبه هرمونات مشابهة، لتتدخّل في تنظيم الشهية الطبيعية. وتستطيع أيضاً أن تلتحم مع مستقبلات هرمونات وتمدّد فعاليتها، أو تلعب دور العدو، وتعترضها. ووجد الباحثون أيضاً أنّ ميكروبات الأمعاء تستطيع تخفيف حساسية الدماغ للِّبتين، وهو هرمون أساسي مسؤول عن تثبيط الجوع تفرزه دهون الجسم.
ولكنّ التنكّر ليس لعبة ميكروبات الأمعاء الوحيدة، إذ تلعب مكوّنات ومستقلبات ميكروبية متنوّعة دور جزيئات ترسل إشارات مرتبطة بالشهية. تتخلّص البكتيريا في حياتها وغذائها وموتها، من المكوّنات الخلوية (كعديد السكاريد الشحمي lipopolysaccharides مثلاً) الذي ينشّط إنتاج هرمون الشبع المعروف باسم كوليسيستوكينين الذي تولده وتفرزه خلايا تحيط ببطانة الأمعاء الدقيقة. يثبط الكوليسيستوكينين استهلاك الطعام من خلال التفاعل مع اللّبتين، ومن خلال الوصول مباشرة إلى الدماغ وحثّ الوطاء على إحباط الشهية.
التنوّع الدفاعي

تُعدّ الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة مساراً مختلفاً للتأثير. تؤدّي هذه المواد الحيوية وظائف مهمّة كثيرة، وتُنتَج في القناة الهضمية بفعل نشاط أنواع عدّة من البكتيريا المعوية (البيفيدوبكتيريا، واللاكتوباسلاي، وروزيبوريا) على الأطعمة الغنية بالألياف التي يصعب هضمها بطريقة أخرى.
تحافظ هذه الأحماض على سلامة جدار الأمعاء، وتنظّم حمضيّة الأمعاء للوقاية من فرط نموّ أنواع البكتيريا المرضية، وتنشّط المناعة، وتحسّن الصحّة النفسية من خلال تنشيط اللدونة العصبية في الدماغ، وتلعب دوراً مهماً في السيطرة على الشهية. تثبط الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة من نوع «أسيتات» مثلاً مواد كيميائية عصبية في منطقة تحت المهاد، قد تعزز الشهية وتضعف الاستقلاب، بينما تؤدّي الأحماض الدهنية القصيرة السلسة من نوع «بوتانويك» عملاً رائعاً في تنظيم الشهية؛ لأنّها تؤثّر على استقلاب الدهون بأشكال عدّة تكبح استهلاك الطعام، وتطول نشاط عدّة هرمونات مرتبطة بالجوع.
ولكنّ نوع بكتيريا «روزيبوريا» التي تنتج «البوتانويك»، والبكتيريا الأخرى التي تنتج الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة، لا تستطيع القيام بأدوارها المهمّة من دون تناول أطعمة غنية بالألياف. بدورها، تملك تريليونات البكتيريا الأخرى أطعمتها المفضّلة أيضاً، فالخميرة مثلاً تطلب السكريات، بينما تفضّل البريفوتيلّا النشويات. ولهذا السبب، يؤدّي غياب الأغذية الأساسية إلى تغيير توازن الميكروبات في الأمعاء، وتفاوت الطلب على الأغذية من قبل الأنواع الصامدة.
إضافة إلى ذلك، تعزّز الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة التنوّع الميكروبي، من خلال تغذية كثير من أنواع البكتيريا الأخرى بشكلٍ أساسي؛ حيث اتّضح أنّ الحفاظ على التنوّع الميكروبي هو الطريقة الأمثل لإبقاء الشهية تحت السيطرة. يتّسم التنوّع المتناقص بالبروز المتزايد لأنواع على حساب أخرى، ولهذا السبب تسهّل المنافسة المقيّدة على البكتيريا فرض وجباتها المفضّلة.
بشكلٍ عام، يرتبط تراجع التنوّع في ميكروبات الأمعاء بالجوع، بينما يرتبط اكتمال الأنواع البكتيرية بالشبع. إذ تشير دراسات أجريت على الحيوانات إلى أنّ غنى الأمعاء بالميكروبات يعزّز إشارات اللبتين للشبع، ويقي من الإفراط في تناول الطعام. يعتقد المختصون اليوم أنّ جراحات علاج البدانة التي تُعرف أيضاً بجراحة المجازة المعديّة، المصممة لمساعدة الأشخاص المفرطي السمنة على التخلّص من الوزن، لا تنجح لأنّها تحدّ من كميّة الطعام التي يستهلكها النّاس؛ بل لأنّها تغيّر تركيبة الميكروبيوم إلى الأفضل.
وأخيراً فإن خيارات تأسيس ميكروبيوم صحي تشمل جراحة المجازة المعديّة، وهي وسيلة قاسية لتأسيس ميكروبيوم صحيح. وتوجد طبعاً وسائل أخرى غير جراحية لتحقيق الهدف نفسه، أكثرها وضوحاً ومباشرة هو اعتماد نظام غذائي متنوّع غني بالفواكه والخضراوات، أي الأطعمة التي تغذّي كثيراً من البكتيريا المفيدة. ويمكنكم تأسيس هذا الميكروب بطريقة أخرى أيضاً، وهي تناول مكمّلات غذائية من البروبيوتيك المعزّز بالألياف والمدعّم بالبكتيريا الصحيحة.
* «سايكولوجي توداي»
- خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

تنبؤات المستقبل... التاريخ يثبت صعوبة طرحها

مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة
مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة
TT

تنبؤات المستقبل... التاريخ يثبت صعوبة طرحها

مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة
مسيرة الإنسان نحو المستقبل... اتجاهات وتوجهات مبهمة

عام 1974، نشرت مجلة «ساترداي ريفيو - Saturday Review» الأميركية الرصينة، التي كانت في عامها الـ50 آنذاك، عدة إصدارات بمناسبة ذكراها السنوية، تناولت كيف أدى القرن إلى حاضر قاتم من الحرب النووية الحرارية الوشيكة، والطفرة السكانية التي سرعان ما ستتجاوز قدرة الكوكب على إطعام سكانه، ونضوب الطاقة القابلة للاستغلال، وغيرها من التعثرات التي تهدد العالم.

الاكتظاظ السكاني وندرة النفط... تنبؤات ما قبل 50 عاماً

في الختام، قدمت المجلة إصداراً خيالياً غير معتاد مليئاً بالتنبؤات والمقترحات الخيالية والمعقدة أحياناً للعالم، لما بعد نصف قرن من الزمان في المستقبل. وكان أحد إصدارات الذكرى السنوية في عام 1974 مخصصاً بالكامل للطرق التي يمكن للعالم من خلالها استعادة ثقته. وأشرف على إصدار الإصدارات محرر المجلة نورمان كوزينز، وهو نفسه مثقف عام غزير الإنتاج وكان ذات يوم أشهر شخصية متفائلة في البلاد.

كان كوزينز وصف في عام 1979، كتابه الأكثر مبيعاً «تشريح المرض كما يراه المريض» كيف نجح في علاج نفسه، جزئياً، بعد تشخيص حالته بمرض مميت، من خلال التمتع بأفلام كوميدية مجنونة وضحكات عالية.

«مستقبليون» سابقون مشهورون

جمع كوزينز قائمة من كبار الشخصيات المشهورين على مستوى العالم، مثل أندريه ساخاروف، ونيل أرمسترونغ، وجاك كوستو، وإسحاق أسيموف، وكلير بوث لوس (المرأة الوحيدة).

وقد تراجعت بعض المشاكل التي كانوا يأملون أن يتمكن العالم من إيجاد مخرج منها، وخاصة ندرة النفط والاكتظاظ السكاني. وسواء كان ذلك بحكمة أو بغير حكمة، فقد حلت محل هذه المخاوف نقيضاتها الظاهرية الحالية.

وباء السمنة وحطام الوقود الأحفوري

في البلدان الغنية حالياً ظهرت مشكلات أخرى، إذ تتعامل اليوم مع أوبئة السمنة و«حطام» الوقود الأحفوري المفرط في الوفرة.

ومن المفارقة أن قيمة شركة «نوفو نورديسك»، المصنعة لعقاقير إنقاص الوزن أوزيمبيك وويجغفي تأتي فقط بعد قيم شركتي النفط والغاز الكبيرتين في العالم، «أرامكو» السعودية و«إكسون».

واليوم تصاب الدول بالذعر إزاء الانحدار العالمي في معدلات المواليد وتقلص أعداد السكان وشيخوخة السكان. وقد أكون مغروراً بقدر ما أصبت في توقعاتي، ولكنني أدرك أيضاً ما أغفلته توقعاتي المستقبلية.

40 % من البالغين لا يريدون الإنجاب

لقد توقعت أن معدلات المواليد المتقلصة سوف تجتاح العالم بأسره، ولكنني لم أتوقع أن يصبح عدد البالغين الذين سوف يختارون عدم إنجاب الأطفال على الإطلاق كبيراً، ففي بعض البلدان تصل نسبتهم إلى نحو 40 في المائة. لقد توقعت بشكل صحيح أن سياسة الطفل الواحد التي تنتهجها الصين سوف تدفع الأسر الصينية إلى الاستثمار بشكل متزايد في تعليم أطفالها من أجل إعدادهم للسوق العالمية. لم أكن أتوقع أن الملايين من الشباب الصينيين المتعلمين في الجامعات والذين يعانون من الإحباط المهني سوف يفضّلون البقاء عاطلين عن العمل لسنوات بدلاً من العمل في وظائف يعدّونها أدنى من مستواهم، أو أنهم سوف يظلون معتمدين على والديهم، غير متزوجين وليس لديهم أطفال.

ازدياد أجيال من غير المتعلمين

لم أكن أتوقع بالتأكيد أن الرخاء وانخفاض معدلات البطالة في أميركا سوف يثني الشباب عن الذهاب إلى الجامعة، أو أن «غير المتعلمين» سوف يلوّحون بعدم حصولهم على الشهادات الجامعية كفضيلة سياسية ثم يتفاخرون بها وبأنهم يمثلون طليعة النهضة الأميركية العظيمة.

صدمة المستقبل

الأشياء التي فاتتني لم تكن جامحة مثل بعض الرؤى الغريبة التي تخيلها طاقم المجلة في عام 1974.

* نبوءة نيل أرمسترونغ. تنبأ نيل أرمسترونغ (رائد الفضاء الأميركي) بوجود مجموعات كاملة من البشر يعيشون في محيط من مادة الميثان اللزجة تحت سطح كوكب المشتري الذي يمكنهم البقاء عليه. سوف يعملون في وظائفهم اليومية، ويتسوّقون ويحتفلون بينما يطفون في بدلات السباحة، ولكن فقط بعد إجراء عملية جراحية لاستبدال قلوب ورئات المستعمرين بأجهزة أكسجين قابلة للزرع. ومن الغريب أن أرمسترونغ، وهو مهندس طيران، رأى هذا باعتباره رؤية وردية لعام 2024.

* نبوءة أندريه ساخاروف. كما قدم أندريه ساخاروف، والد القنبلة الهيدروجينية السوفياتية والحائز على جائزة نوبل للسلام (1975)، أفكاراً حول كيفية إخراج الناس «من عالم صناعي مكتظ وغير مضياف للحياة البشرية والطبيعة».

كان ساخاروف يعتقد أن عالم عام 2024 سوف ينقسم إلى مناطق صناعية قاتمة وأحزمة خضراء مكتظة بالسكان حيث يقضي الناس معظم وقتهم. لكن سطح الأرض لن يكون كافياً لـ«7 مليارات نسمة في عام 2024» (كان ينقصه مليار). كما توقع ساخاروف مدناً شاسعة في الفضاء ستكون موطناً للمزارع والمصانع. أعتقد أن هذا يبدو وكأنه رؤية طوباوية إذا كانت الحياة البائسة على سطح الأرض أسوأ بكثير.

* نبوءة كلير بوث لوس، المحافظة السياسية ومدمنة عقار «إل إس دي»، والتي كانت كاتبة مسرحية وممثلة في الكونغرس وسفيرة في إيطاليا وزوجة لرجال أقوياء، أن التقدم البطيء للغاية الذي أحرزته النساء تمكن رؤيته في ملامح ماضيهن.

كانت لوس تعتقد أن المساواة للمرأة سوف تأتي، لكنها ستستغرق قرناً أو أكثر. وقد كتبت: «يؤسفني أن أقول إن الصورة التي أراها هناك ليست صورة المرأة الجالسة في الغرفة البيضاوية في البيت الأبيض في عام 2024».

إيمان مستقبلي

في الآونة الأخيرة، كنت أحاول أن أرى المستقبل من خلال قضاء بعض الوقت في مواقع بناء مراكز البيانات التي تنتشر في جميع أنحاء البلاد لالتقاط ملامح الطفرة في الذكاء الاصطناعي.

إن أحد التنبؤات المذهلة التي تحرك الأموال والسياسات اليوم أن العالم سينفق أكثر من تريليون دولار لبناء البنية الأساسية للبيانات (يتوقع سام ألتمان، مؤسس شركة «OpenAI» سبعة تريليونات دولار) للحوسبة من الجيل التالي التي يمكن أن تلغي التنبؤ البشري وتستبدله بنماذج تنبؤية تديرها الآلات.

ورغم أنه لا أحد يعرف إلى أين ستقود كل هذه القوة الحاسوبية، فإن العالم يراهن عليها بشدة مع ذلك. إن هذه الطفرة تجعل خيالي - وهو شيء كنت فخوراً به للغاية - يشعر بالضآلة والإرهاق.

رؤية مفعمة بالأمل لدحر التشاؤم

لقد جاء دافع كوزينز للتنبؤ بالمستقبل أكثر من منطلقات الذكاء العاطفي له والرؤى المفعمة بالأمل له وأمثاله الذين وظّفوا معرفتهم للانفصال عن الماضي، وأقل من منطلقات رؤيته للمستقبل المستنبطة من الحقائق المعروفة في زمنه.

ومن المفارقات، كما أشار كوزينز، أن التنبؤات لا تأخذ في الحسبان التفاؤل الذي يتوقعه الناس في المستقبل.

وأضاف، في حينه، أنه إذا كان لدى عدد كافٍ من الناس إيمان بأن الجنس البشري يتمتع بالقدر الكافي من الذكاء والطاقة للعمل معاً على حل المشاكل العالمية، فإنه استخلص أن «التوقعات المتشائمة للخبراء سوف تفقد قدرتها على الشلل أو الترهيب. لذا فإن أكبر مهمة تواجه البشرية في السنوات الـ50 المقبلة سوف تكون إثبات خطأ الخبراء [المتشائمين]».

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».