«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟

ميكروبات الأمعاء تتلاعب بخيارات الإنسان من الأطعمة

«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟
TT

«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟

«الشهوات الغذائية»... كيف تتولد؟

تفرض تريليونات الميكروبات التي تعيش في أمعائنا حاجاتها الغذائية بطرائق كثيرة.
أحاسيس الجوع والشبع

لا تسألوا كيف يؤثّر نظامكم الغذائي على ميكروبيوم (الوسط الميكروبي) الأمعاء لديكم؛ بل كيف يؤثر الميكروبيوم على نظامكم الغذائي. ترجّح مجموعة كبيرة من الدراسات أنّ الميكروبات الموجودة في الأمعاء لا تنظّم شهيّة الإنسان فحسب؛ بل تتلاعب بخياراته الغذائية أيضاً؛ لأنّ هذا التلاعب هو ببساطة طريقتها لضمان تلبية حاجاتها الخاصة.
الجوع محرّكٌ قوي جداً يتغذّى من مسارات بيولوجية كثيرة بمنطقة «تحت المهاد» في الدماغ hypothalamus (التي تحتوي أيضاً على مراكز التحكم في الجوع والعطش). ويعتمد الوجود البشري في النهاية على عاملٍ أساسي يتلخّص في الحصول على القدر الكافي من الطاقة والأغذية.
تولّد الهرمونات التي ينتجها الدماغ أحاسيس الجوع وتنشّط استهلاك الطعام، بينما تعمل هرمونات أخرى تنتُجها الأمعاء على حثّنا لتناول الطعام. تنشّط خلطة غنيّة أخرى من الهرمونات –بعضها يُنتج في الدماغ، وبعضها تنتجها خلايا الدهون (حيث تُخزّن الطاقة الإضافية)، والجزء الأكبر منها يُنتج في الأمعاء والأعضاء المرتبطة بها– أحاسيس الشبع وتكبح التغذية. وتؤكّد آليات الإشارة المتنوّعة أنّ الجوع يعبّر عن نفسه بعدّة أشكال من الانزعاج -أبرزها صرير المعدة، والمزاج المعكّر، والدوار- تدفعنا جميعها لتناول الطعام.
وتوجد أيضاً حوافز كثيرة لتناول الطعام (أو عدم تناوله) والتي تتجاوز الجوع الفسيولوجي وتؤثّر على الشهية، مثل منظر البيتزا الساخنة، ورائحة الخبز الطازج، والتوتّر الناتج عن مهلة مهمّة، والملل.

الوسط الميكروبي المعوي
إضافة إلى جميع هذه الإشارات التي توجّه ماذا ومتى تضعون في فمكم، أضيفوا واحداً آخر: النشاط اليومي لتريليونات البكتيريا التي تستوطن المجرى الهضمي، والتي تُعرف مجتمعة باسم الميكروبيوم المعوي. تفوق جينات هذه الميكروبات الجينات البشرية عدداً بمعدّل 100 جين لكلّ جين بشري، ما يمنحها القوّة لتغيير سلوكنا الغذائي بما يصبّ في مصلحتها. فقد أظهرت إحدى الدراسات مثلاً أنّ الفئران الخالية من الجراثيم التي استوطنها ميكروبيوم قوارض بريّة تتّبع استراتيجيات تغذية طبيعية مختلفة كليّاً –بعضها نباتي وبعضها لا– تبنّت أنماط الاستهلاك الغذائي التي تتبعها القوارض صاحبة الميكروبيوم الدخيل.
عبر أفعالها المباشرة، ومنتجاتها الأيضية (نواتج التمثيل الغذائي)، والرسائل التي ترسلها عبر العصب المبهم من الأمعاء إلى الدماغ، وحتّى عبر منافستها الدارونية للسيطرة، تهندس ميكروبات الأمعاء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ما تأكلونه، ويُعتقد أيضاً أنّها تلقّن جسدكم شهواته الغذائية لتناول: صدر دجاج غني بالبروتين، أو شطيرة برغر دسمة بالجبن.
محاكاة هرمونية

تولّد بكتيريا الأمعاء الشهوات الغذائية، من خلال التلاعب بمتلقّيات التذوّق لديكم، فتغيّر الإحساس بالأغذية وتذوّقها. على سبيل المثال، تستطيع البكتيريا تخفيف الحساسية للنكهات الحلوة والدهنية، لتدفع بذلك الحاجة لزيادة كثافة هذه المحفّزات. وتساهم الأمعاء الغنية بالبكتيريا العصية اللبنية Lactobacilli، الضرورية لمراقبة البكتيريا المسببة للأمراض، في تراجع الحساسية للطعم الحامض، وتستطيع بكتيريا الأمعاء أيضاً زيادة الحساسية تجاه الطعم المرّ؛ الأمر الذي قد يفسّر عدم تقبّل النّاس لطعم البروكلي.
تعدّل مكوّنات البكتيريا، أو منتجاتها الثانوية الأيضية، عبر مسارات الإشارات الحسيّة الكيميائية، تعبير خلايا متلقّيات الطعم في الأمعاء والفم، ولو أنّ الوسائل التي تستخدمها لهذه الغاية ليست واضحة بعد. ومع ذلك، يمكن للتغييرات التي تطرأ على البيئة الميكروبية في الأمعاء أن توجه خيار الطعام، من خلال التأثير بشكلٍ كبير على تلقّي الطعم؛ الدافع الأبرز خلف تناوله.
تؤثر بكتيريا الأمعاء أيضاً على خيارات الطعام، من خلال السيطرة على الدوائر العصبية الكيميائية في منطقة تحت المهاد. تنتج الميكروبات بروتينات تتشاطر التسلسلات الجزيئية مع بعض هرمونات الجوع والشبع، وتستطيع التنكّر لتشبه هرمونات مشابهة، لتتدخّل في تنظيم الشهية الطبيعية. وتستطيع أيضاً أن تلتحم مع مستقبلات هرمونات وتمدّد فعاليتها، أو تلعب دور العدو، وتعترضها. ووجد الباحثون أيضاً أنّ ميكروبات الأمعاء تستطيع تخفيف حساسية الدماغ للِّبتين، وهو هرمون أساسي مسؤول عن تثبيط الجوع تفرزه دهون الجسم.
ولكنّ التنكّر ليس لعبة ميكروبات الأمعاء الوحيدة، إذ تلعب مكوّنات ومستقلبات ميكروبية متنوّعة دور جزيئات ترسل إشارات مرتبطة بالشهية. تتخلّص البكتيريا في حياتها وغذائها وموتها، من المكوّنات الخلوية (كعديد السكاريد الشحمي lipopolysaccharides مثلاً) الذي ينشّط إنتاج هرمون الشبع المعروف باسم كوليسيستوكينين الذي تولده وتفرزه خلايا تحيط ببطانة الأمعاء الدقيقة. يثبط الكوليسيستوكينين استهلاك الطعام من خلال التفاعل مع اللّبتين، ومن خلال الوصول مباشرة إلى الدماغ وحثّ الوطاء على إحباط الشهية.
التنوّع الدفاعي

تُعدّ الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة مساراً مختلفاً للتأثير. تؤدّي هذه المواد الحيوية وظائف مهمّة كثيرة، وتُنتَج في القناة الهضمية بفعل نشاط أنواع عدّة من البكتيريا المعوية (البيفيدوبكتيريا، واللاكتوباسلاي، وروزيبوريا) على الأطعمة الغنية بالألياف التي يصعب هضمها بطريقة أخرى.
تحافظ هذه الأحماض على سلامة جدار الأمعاء، وتنظّم حمضيّة الأمعاء للوقاية من فرط نموّ أنواع البكتيريا المرضية، وتنشّط المناعة، وتحسّن الصحّة النفسية من خلال تنشيط اللدونة العصبية في الدماغ، وتلعب دوراً مهماً في السيطرة على الشهية. تثبط الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة من نوع «أسيتات» مثلاً مواد كيميائية عصبية في منطقة تحت المهاد، قد تعزز الشهية وتضعف الاستقلاب، بينما تؤدّي الأحماض الدهنية القصيرة السلسة من نوع «بوتانويك» عملاً رائعاً في تنظيم الشهية؛ لأنّها تؤثّر على استقلاب الدهون بأشكال عدّة تكبح استهلاك الطعام، وتطول نشاط عدّة هرمونات مرتبطة بالجوع.
ولكنّ نوع بكتيريا «روزيبوريا» التي تنتج «البوتانويك»، والبكتيريا الأخرى التي تنتج الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة، لا تستطيع القيام بأدوارها المهمّة من دون تناول أطعمة غنية بالألياف. بدورها، تملك تريليونات البكتيريا الأخرى أطعمتها المفضّلة أيضاً، فالخميرة مثلاً تطلب السكريات، بينما تفضّل البريفوتيلّا النشويات. ولهذا السبب، يؤدّي غياب الأغذية الأساسية إلى تغيير توازن الميكروبات في الأمعاء، وتفاوت الطلب على الأغذية من قبل الأنواع الصامدة.
إضافة إلى ذلك، تعزّز الأحماض الدهنية القصيرة السلسلة التنوّع الميكروبي، من خلال تغذية كثير من أنواع البكتيريا الأخرى بشكلٍ أساسي؛ حيث اتّضح أنّ الحفاظ على التنوّع الميكروبي هو الطريقة الأمثل لإبقاء الشهية تحت السيطرة. يتّسم التنوّع المتناقص بالبروز المتزايد لأنواع على حساب أخرى، ولهذا السبب تسهّل المنافسة المقيّدة على البكتيريا فرض وجباتها المفضّلة.
بشكلٍ عام، يرتبط تراجع التنوّع في ميكروبات الأمعاء بالجوع، بينما يرتبط اكتمال الأنواع البكتيرية بالشبع. إذ تشير دراسات أجريت على الحيوانات إلى أنّ غنى الأمعاء بالميكروبات يعزّز إشارات اللبتين للشبع، ويقي من الإفراط في تناول الطعام. يعتقد المختصون اليوم أنّ جراحات علاج البدانة التي تُعرف أيضاً بجراحة المجازة المعديّة، المصممة لمساعدة الأشخاص المفرطي السمنة على التخلّص من الوزن، لا تنجح لأنّها تحدّ من كميّة الطعام التي يستهلكها النّاس؛ بل لأنّها تغيّر تركيبة الميكروبيوم إلى الأفضل.
وأخيراً فإن خيارات تأسيس ميكروبيوم صحي تشمل جراحة المجازة المعديّة، وهي وسيلة قاسية لتأسيس ميكروبيوم صحيح. وتوجد طبعاً وسائل أخرى غير جراحية لتحقيق الهدف نفسه، أكثرها وضوحاً ومباشرة هو اعتماد نظام غذائي متنوّع غني بالفواكه والخضراوات، أي الأطعمة التي تغذّي كثيراً من البكتيريا المفيدة. ويمكنكم تأسيس هذا الميكروب بطريقة أخرى أيضاً، وهي تناول مكمّلات غذائية من البروبيوتيك المعزّز بالألياف والمدعّم بالبكتيريا الصحيحة.
* «سايكولوجي توداي»
- خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

هل سيؤدي تغير المناخ إلى ازدهار صناعي في القطب الشمالي؟

شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
TT

هل سيؤدي تغير المناخ إلى ازدهار صناعي في القطب الشمالي؟

شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي
شكل تصوّري للشحن في القطب الشمالي

يُحدث تغير المناخ تحولاً في المشهد المتجمد للقطب الشمالي بمعدلات مذهلة. ورغم ما يُلحقه من دمار بالحياة البرية والمجتمعات التي تعيش هناك، فإن الحكومات والشركات تُدرك وجود فرصة سانحة، كما كتبت مادلين كاف (*).

ثروة قطبية

تتمتع المنطقة بثروة من الموارد، بما في ذلك احتياطيات غير مستغلة من الوقود الأحفوري ومعادن أساسية ضرورية. وقد تنافست دول القطب الشمالي على السيطرة على هذه الموارد لعقود، وبعض عمليات الاستغلال - وبخاصة استخراج الوقود الأحفوري في القطب الشمالي الروسي - جارية بالفعل.

وبحلول نهاية العقد، قد يصبح المحيط المتجمد الشمالي خالياً من الجليد خلال فصل الصيف؛ ما يسمح للسفن بالسفر مباشرة فوق القطب الشمالي لأول مرة. هذا الذوبان السريع يجعل المنطقة أكثر سهولة من أي وقت مضى؛ ما يُغذي توقعات النمو الصناعي السريع في القطب الشمالي. منذ توليه منصبه في يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب صراحةً رغبته في الاستيلاء على غرينلاند، وهي إقليم دنماركي، بالإضافة إلى كندا. لكن هل سيُحدث تغير المناخ طفرة صناعية حقيقية في القطب الشمالي؟

مصالح مادية

* النفط والغاز. لا شك أن المنطقة تزخر بموارد قيّمة، بما في ذلك نحو 90 مليار برميل من النفط ونحو 30 في المائة من احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي غير المكتشفة، وفقاً لتقييم أجرته هيئة المسح الجيولوجي الأميركية عام 2012.

* المعادن الأرضية النادرة. كما تتوافر المعادن الأرضية النادرة بكثرة. ويُعتقد أن غرينلاند وحدها تمتلك احتياطيات كافية من معادن مثل النيوديميوم والديسبروسيوم، التي تُستخدم في تصنيع توربينات الرياح والمركبات الكهربائية، لتلبية ربع الطلب العالمي المستقبلي على الأقل. كما أنها تفخر بوجود كميات كبيرة من الكوبالت والنحاس والغرافيت والنيكل.

ويتزايد الطلب على هذه المواد بسرعة في جميع أنحاء العالم مع تسارع وتيرة التحول في مجال الطاقة. تُهيمن الصين الآن على سلاسل التوريد العالمية، بينما تتسابق مناطق أخرى - أبرزها أوروبا - لتأمين إمدادات بديلة.

غرينلاند فخورة بثرواتها

تقول آن ميريلد من جامعة ألبورغ في الدنمارك: «هناك اهتمام متزايد من (شركات التعدين متعددة الجنسيات) باستكشاف ورسم خرائط الرواسب في القطب الشمالي؛ نظراً للحاجة إلى مواد خام بالغة الأهمية في أوروبا».

قضت ميريلد طفولتها في غرينلاند ولا يزال لديها عائلة تعيش هناك. وتقول إن اهتمام الولايات المتحدة قد «صدم» السكان، لكنه عزز أيضاً عزمهم على تطوير موارد الجزيرة لدعم قضيتها من أجل الاستقلال. وتضيف: «سكان غرينلاند شعب فخور جداً. إن تطوير مواردنا هو إحدى الطرق لتعزيز اقتصادنا، وتمهيد الطريق للمضي قدماً».

لكن على الرغم من الضجيج، فإن صناعة التعدين الفعلية في غرينلاند ضئيلة. ولا يوجد في الجزيرة سوى منجمَين نشطين، وبينما أصدرت نحو 100 ترخيص تعدين، معظمها للاستكشاف، فإن الأمر سيستغرق سنوات عدّة قبل أي انتقال إلى المشروعات التجارية.

الوصول إلى ثروات القطب

هذه ليست قضية جديدة؛ يعرف الجيولوجيون منذ عقود الثروات الكامنة في القطب الشمالي. لكن المشكلة تكمن في الوصول إليها.

يغطي الجليد البحري الكثيف معظم مساحة القطب الشمالي، ويغطيه معظم أيام السنة. ولكن على الرغم من أن هذا الغطاء الجليدي آخذ في التناقص والتراجع، فإن التنقيب عن النفط والغاز في المياه المفتوحة وحفر الآبار لا يزال مسعًى باهظ التكلفة وخطيراً للغاية، ولا يعدّ مبرراً إلا إذا كان سعر النفط مرتفعاً بما يكفي. وتجدر الإشارة إلى أن استخراج الوقود الأحفوري البري أكثر تكلفة في القطب الشمالي، حيث تزيد تكلفته بنسبة 50 في المائة إلى 100 في المائة بألاسكا عنه في تكساس، على سبيل المثال.

حساسية بيئية

هناك أيضاً مخاطر تتعلق بالسمعة والمال في حال حدوث أي مشكلة. تقول ميريلد: «بيئة القطب الشمالي قاسية، لكنها في الوقت نفسه معرَّضة للخطر؛ إنها هشة. النباتات والحيوانات حساسة، وتستغرق إعادة بنائها وقتاً طويلاً في حال تضررها».

على سبيل المثال، تحذر شركات النفط الغربية من العمل في منطقة حساسة بيئياً كهذه، حيث قد تكون الأخطاء مكلفة. في عام 1989، اصطدمت ناقلة النفط «إكسون فالديز»، المملوكة لشركة «إكسون» للشحن، بشعاب مرجانية قبالة سواحل ألاسكا؛ ما أدى إلى تسرب ما يقرب من 23 مليون لتر من النفط إلى المحيط في غضون ساعات قليلة. وتسببت تلك الكارثة في نفوق آلاف الطيور البحرية، وثعالب الماء، والنسور الصلعاء، والحيتان القاتلة، وغيرها من الحيوانات البرية، وتدمير الموائل البحرية لمئات الكيلومترات، ولا تزال آثارها واضحة حتى بعد عقود. واضطرت «إكسون» إلى إنفاق نحو 202 مليار دولار على تنظيف التسرب ودفع مليار دولار إضافية تعويضات.

وبالنسبة لعمليات التنقيب عن المعادن المهمة، التي تعني في المقام الأول التعدين البري، اضطرت الشركات تاريخياً إلى التعامل مع قشور جليدية ضخمة أو تربة جليدية دائمة. وغالباً ما تكون البنية التحتية المحلية، مثل الطرق والموانئ، شحيحة، والقوى العاملة المتاحة محدودة.

ذوبان الجليد

يُخفف الذوبان السريع بعض هذه المشاكل، لكنه يُنشئ أيضاً مشاكل جديدة. إذ يُحسّن ذوبان التربة الصقيعية إمكانية الوصول إلى المواد الحيوية، لكنه يُزعزع استقرار البنية التحتية القائمة ويزيد من خطر الكوارث البيئية.

في عام 2020، انهار خزان وقود في محطة طاقة روسية تُشغّلها شركة تابعة لشركة المعادن العملاقة «نوريلسك نيكل»؛ ما أدى إلى غمر الأنهار المحلية بما يصل إلى 21 ألف طن من زيت الديزل. وقد أُلقي باللوم جزئياً على التسرب، الذي تسبب في أضرار بيئية بقيمة 1.5 مليار دولار، على انهيار أساسات الخزان بسبب ذوبان التربة الصقيعية.

يقول فيليب أندروز - سبيد من معهد أكسفورد لدراسات الطاقة: «سيُصعّب ذوبان التربة الصقيعية الحياة بشكل كبير». ويشير إلى أن بناء بنية تحتية جديدة - مثل المنازل والمباني التشغيلية والطرق القادرة على تحمل ذوبان الجليد - أكثر تكلفة بكثير.

في الوقت نفسه، في غرينلاند، حيث تُركّز الولايات المتحدة اهتمامها، كشف ذوبان الأنهار الجليدية عن آلاف الكيلومترات من سواحل جديدة. لكن هذه الأرض الجديدة هشة، وعرضة للانهيارات الأرضية التي قد تُسبب موجات تسونامي هائلة.

يقول فيليب شتاينبرغ من جامعة دورهام بالمملكة المتحدة: «إذا كانت لديك بنية تحتية على الأرض، للتعدين أو الحفر أو البناء مثلاً، فربما تُفضل وجود تربة صقيعية، حيث يُمكنك التنبؤ بمدى استقرار الأرض، بدلاً من التوجه إلى سطح أكثر دفئاً يذوب في نصف الوقت». ويضيف: «لا يُمثل تغير المناخ دائماً، على الأقل، النعمة الاقتصادية لاستخراج المعادن في القطب الشمالي كما يُصوَّر».

رأي السكان الأصليين

يمكن لمجتمعات السكان الأصليين في القطب الشمالي أيضاً أن يكون لها رأي في مدى نشاط التعدين. غالباً ما تُبدي هذه المجتمعات معارضة شديدة لمقترحات التطوير؛ خوفاً من أن تُلحق الأنشطة الصناعية الجديدة الضرر بالبيئة المحلية وتقطع مسارات هجرتهم التقليدية.

في عام 2023، حددت شركة التعدين السويدية «LKAB» رواسب ضخمة من خام الحديد والفوسفور في القطب الشمالي السويدي، التي تقول إنها قد تُلبي 18 في المائة من احتياجات أوروبا من المعادن النادرة، لكن شعب السامي الأصلي يُعارض تطوير المنجم.

ويتوقع أندروز - سبيد أن مثل هذه الاشتباكات ستعيق الصناعة في أجزاء من القطب الشمالي؛ ما يحد من دور المنطقة في تعزيز الإمدادات العالمية من المعادن الأساسية اللازمة للتحول في مجال الطاقة. ويضيف: «سواءً كنا ننظر إلى كندا أو شمال أوروبا، فإن السكان الأصليين في القطب الشمالي سيُبطئون الأمور، على أقل تقدير».

تغير المناخ - نقمة اقتصادية؟

لا يُمثل تغير المناخ دائماً النعمة الاقتصادية لاستخراج المعادن في القطب الشمالي كما يُصوَّر.

بالنظر إلى المخاطر المادية والبيئية والاجتماعية لتطوير الأنشطة الصناعية في القطب الشمالي مجتمعةً، فإن هذه المخاطر ستُثني الكثير من الشركات، على الرغم من الذوبان السريع للجليد في المنطقة.

يقول شتاينبرغ: «لن تكون المنطقة بيئة تشغيلية سهلة للتعدين، والحفر، وحتى الشحن». ويضيف: «ستمضي المشروعات قدماً، لكنها لن تُحدث فرقاً كبيراً، باستثناء حالة أو حالتين صغيرتين. سيتجلى الفرق الكبير في أجزاء أخرى من العالم، حيث تكون ممارسة الأعمال التجارية على نطاق واسع أرخص وأسهل».

ازدهار الشحن في القطب الشمالي

مع تراجع الجليد البحري في القطب الشمالي، تُفتح طرق شحن جديدة؛ ما يسمح بنقل البضائع والسلع إلى المنطقة وعبرها وخارجها.

تشير البيانات التي جمعتها منظمة حماية البيئة البحرية في القطب الشمالي (PAME)، وهي جزء من المجلس الدولي للقطب الشمالي، إلى أن عدد السفن الفريدة التي تدخل القطب الشمالي قد ارتفع بنسبة 37 في المائة بين عامي 2013 و2024. وتُعدّ قوارب الصيد أكثر أنواع السفن شيوعاً في القطب الشمالي، ولكن هناك زيادةً كبيرة في عدد ناقلات النفط الخام وناقلات الغاز وسفن الرحلات البحرية وناقلات البضائع السائبة، وفقاً للبيانات.

وتشير منظمة «PAME» إلى أن ارتفاع عدد السفن التي تنقل البضائع والوقود الأحفوري يؤكد زيادة النشاط الصناعي في القطب الشمالي، حيث زادت المسافة التي تقطعها ناقلات البضائع السائبة بنسبة 205 في المائة بالسنوات الـ13 الماضية.

وتشير آن ميريلد من جامعة ألبورغ في الدنمارك إلى أن تغير المناخ يُسهّل «نقل المواد من منطقة القطب الشمالي وإليها». لكن ربما يكون ظهور طرق تجارية جديدة عبر القارات، مثل الممر عبر القطب الشمالي، هو ما يضع القطب الشمالي على خريطة أنشطة الشحن العالمية.

* مجلة «نيو ساينتست»، خدمات «تريبيون ميديا»

حقائق

90

مليار برميل من النفط يُحتمَل وجودها في القطب الشمالي

حقائق

30 %

نسبة احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي غير المكتشفة التي يُحتمَل وجودها في القطب الشمالي