«الأفق الأعلى»... سيرة لحياة الموت

السعودية فاطمة عبد الحميد ألبسته دور الراوي

«الأفق الأعلى»... سيرة لحياة الموت
TT

«الأفق الأعلى»... سيرة لحياة الموت

«الأفق الأعلى»... سيرة لحياة الموت

إن كنت من أولئك الذين يبحثون عن دهشة خاطفة تسترعي انتباههم، وتعتقلهم فور وقوفهم على عتبات النص، أو ممن تستدرجهم الوتيرة التصاعدية للأحداث ذات الحبكة المعقدة، ربما لن تناسبك رواية «الأفق الأعلى»، للكاتبة السعودية فاطمة عبد الحميد.
السرد في حكاية سليمان علي الريس، وزوجته وأبنائه، وجارته، وبقية أبطال الرواية، هادئ منصهر في الاعتيادية، يزحف بشكل أفقي، متخففاً من الدهشة والتصاعد، والمنعطفات الحادة المَلأى بالمفاجآت التي يمكن لها أن تربك سير الأحداث اليومية، أو أن تعيد بناءها لإيضاح ملامحها المتخفية.
لكن بمحاذاة تلك التُؤَدَة التي اتسمت بها أحداث الرواية، كان هناك أيضاً صوت مربك، يتسرب من تلك اليوميات، ويظل يتموج داخل القارئ على هيئة «مونولوغ»، يتكفل بطرد تلك الاعتيادية ويسهم في إرباك أفقية السرد، وخلق دهشة نوعية، دهشة مصبوغة بالقلق، مبعثُها صور لا نهائية تتشكل داخل القارئ عن صاحب ذلك الصوت المربك، الذي آثر أن يستعير صوت القارئ عوضاً عن ظهوره بصوته الحقيقي، معللاً ذلك بأن صوته لن يكون الصوت الذي يرغب القارئ في سماعه.
يقول صاحب ذلك الصوت، «وإن كنت أحدثك مباشرة بصوتك أنت، فلأن صوتي لن يكون مستساغاً. ستتأكد من هذا حين نلتقي وجهاً لوجه».
بهذه النبرة الواثقة يتحدث ذلك قاطعاً بيقين لقائه الذي لا مناص عنه، كل شكوك القراء في مصداقية أسباب تواريه.
صاحب ذلك الصوت، كان «الموت» الذي تلبس دور الراوي في رواية «الأفق الأعلى». واستطاع صوت الموت الذي دسَته الكاتبة في حنجرة القارئ على امتداد الرواية، أن يزجّ بالقارئ في عوالم لا يعرف عنها شيئاً إلا بقدر ما يحمله من وصفات إيمانية أو مرويات رائجة شكلّها مخياله الديني أو الشعبي.
وحين يقرر ذلك الصوت أن يمنح القارئ بعض أسراره، أو أن يشرح له شيئاً عن خصائصه، كأن يخبره مثلاً أنه ينزعج كثيراً من أولئك الذين يقحمون اسمه في المجاز: «لعل أكثر ما يثيرني هو أن أراقب شخصاً يموت على غير يديَ... كالموت حباً، والموت غربة ووحدة»، أو حين يخلع قلبه وهو يصف مشهد مغادرته بأرواح شفّت من أجسادها... «عبرنا وحيدين، أنا وهي سقف الغرفة متجهين إلى قبة السماء»، أو حين يكشف للقارئ عن أمنيات تيبّست على عتبات الغيب قبل أن ترتقي لمرحلة الواقع، كما حدث مع السيدة نبيلة التي يقول على لسانها: «لكم كنت أود لقاءك حين كان زوجي طفلاً، وكنت مجبرة على لمسه في كل مكان ليصبح رجلاً»، وعندما يقول: «لا يزعجني البتة أن تسموا نجاتكم مني انتصاراً، فبغض النظر عن كونه انتصاراً مؤقتاً، أنا لا أملك ما أخسره ولا يعنيني اكتمال القصص أو نهايتها قبل أوانها»، نافياً انزعاجه وعدم اكتراثه لمن يصفون النجاة منه مؤقتاً بالانتصار، وحين يقرر أن يضع القارئ على خط المواجهة مع أقسى مخاوفه بشكل مباشر ومستفز ليزيد من عدم طمأنينته، فيهمس له بكل هدوء «كل ما عليك أن تدركه أنني اللمسة الأخيرة».
أقول حين يتشارك القارئ كل تلك التفاصيل المتوارية ويتفحص تلك السيناريوهات الغيبية لا بد أنه غادر واقعه، والحقيقة أن صاحب ذلك الصوت المربك لم يزجّ به فقط في تلك العوالم، بل سدد له لكمة قاسية على خاصرة ثقته بالحياة التي طالما توهم أنه يعرفها.
ورغم كل ذلك تتمخض فكرة الاقتران، أو لنقل الصداقة الجبرية التي عقدتها الكاتبة بين القارئ والموت، ومحاولة استنساخها مسودة المهام اليومية للموت وكشفها للقارئ، عن وعي جديد بالحياة يمنحها إطاراً ملموساً، وبلفظ آخر تجعل القارئ يستوعب أن الحدود الفاصلة بينه وبين الموت لا تكاد تكون واضحة لفرط دقتها.
ربما لم تكن الكاتبة سباقة لفكرة استنطاق الموت، واستحضاره بهذه الصورة المراوغة، فهي حاضرة في رواية «سارقة الكتب» لـلأسترالي ماركوس زوساك، وقد تندرج تحت نظرية «السرد المستحيل» التي تَعُدُ هذا النوع من السرد انتهاكاً لقوانين السرد، وخرقاً لميثاق القراءة الضمني المبرم بين الكاتب والقارئ، الذي يكفل منطقية السرد للقارئ، لا سيما إن كانت الرواية خارج تصنيف الفانتازيا، لأنه ينطوي على نية خداع مبَيّتة، كما يرى الناقد العراقي حسن سرحان.
إلا أنها في رأيي تظل خديعة محمودة، حتى وإن جاز إدراجها ضمن النظرية آنفة الذكر، لأنها في رأيي استلّت النص ببراعة من سياقه المألوف وحقنته بالارتباك الذي انتزعه من أفقيته، دون أن ينتزعه من واقعيته.
وسيكتشف القارئ لاحقاً أن الكاتبة لم تتخل تماماً عن تلك الخدعة السردية، لكن يبدو أنها لم ترد استنزاف دهشة القارئ من خلال ركضه في منحنيات حبكة معقدة، ربما قد يطغى حضورها على حضور الموت، العنصر الأقوى في الرواية وبطلها المحوري وفقاً لثنائية المركز والهامش.
كما أنها استعاضت بخدعة سردية أخرى، دعونا نسميها خدعة الوخز المستمر، المتمثلة في الإطلالات المستمرة لصاحب ذلك الصوت، التي ستضمن بقاء القارئ يقضاً قلقاً طيلة الرواية، بل حتى بعد الخروج منها.
هناك أيضاً المأزق الآيدلوجي في الرواية، المتمثل في الحديث عن الموت، فغالباً لا يمكن للحديث عن الموت أن يأتي منزوعاً من السياقات الدينية وتمثلاتها الغيبية، لكن الكاتبة آثرت المسير بمحاذاة الأديان دون أن تتقاطع معها، واقفة على المسافة نفسها من الجميع، دون أن تُجَير مرحلة ما بعد الموت لأي ديانة أو ملّة، تاركة تلك الخانة فارغة للقارئ يملؤها بما يعتقد.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

علاج فعّال يساعد الأطفال على التخلص من الكوابيس

العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)
العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)
TT

علاج فعّال يساعد الأطفال على التخلص من الكوابيس

العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)
العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)

كشفت دراسة أميركية أن علاجاً مبتكراً للأطفال الذين يعانون من الكوابيس المزمنة أسهم في تقليل عدد الكوابيس وشدّة التوتر الناتج عنها بشكل كبير، وزاد من عدد الليالي التي ينام فيها الأطفال دون استيقاظ.

وأوضح الباحثون من جامعتي أوكلاهوما وتولسا، أن دراستهما تُعد أول تجربة سريرية تختبر فاعلية علاج مخصصٍ للكوابيس لدى الأطفال، ما يمثل خطوة نحو التعامل مع الكوابيس كاضطراب مستقل، وليس مجرد عَرَضٍ لمشكلات نفسية أخرى، ونُشرت النتائج، الجمعة، في دورية «Frontiers in Sleep».

وتُعد الكوابيس عند الأطفال أحلاماً مزعجة تحمل مشاهد مخيفة أو مؤلمة توقظ الطفل من نومه. ورغم أنها مشكلة شائعة، فإنها تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية والجسدية للأطفال، إذ تُسبب خوفاً من النوم، والأرق، والاستيقاظ المتكرر، وهذه الاضطرابات تنعكس سلباً على المزاج، والسلوك، والأداء الدراسي، وتزيد من مستويات القلق والتوتر.

ورغم أن الكوابيس قد تكون مرتبطة باضطرابات نفسية أو تجارب مؤلمة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، فإنها لا تختفي بالضرورة مع علاج تلك المشكلات، ما يتطلب علاجات موجهة خصيصاً للتعامل مع الكوابيس كاضطراب مستقل.

ويعتمد العلاج الجديد على تعديل تقنيات العلاج المعرفي السلوكي واستراتيجيات الاسترخاء وإدارة التوتر، المستخدمة لدى الكبار الذين يعانون من الأحلام المزعجة، لتناسب الأطفال.

ويتضمّن البرنامج 5 جلسات أسبوعية تفاعلية مصمّمة لتعزيز فهم الأطفال لأهمية النوم الصحي وتأثيره الإيجابي على الصحة النفسية والجسدية، إلى جانب تطوير عادات نوم جيدة.

ويشمل العلاج أيضاً تدريب الأطفال على «إعادة كتابة» كوابيسهم وتحويلها إلى قصص إيجابية، ما يقلّل من الخوف ويعزز شعورهم بالسيطرة على أحلامهم.

ويستعين البرنامج بأدوات تعليمية مبتكرة، لتوضيح تأثير قلّة النوم على الأداء العقلي، وأغطية وسائد، وأقلام تُستخدم لكتابة أفكار إيجابية قبل النوم.

وأُجريت التجربة على 46 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً في ولاية أوكلاهوما الأميركية، يعانون من كوابيس مستمرة لمدة لا تقل عن 6 أشهر.

وأظهرت النتائج انخفاضاً ملحوظاً في عدد الكوابيس ومستوى التوتر الناتج عنها لدى الأطفال الذين تلقوا العلاج مقارنة بالمجموعة الضابطة. كما أُبلغ عن انخفاض الأفكار الانتحارية المتعلقة بالكوابيس، حيث انخفض عدد الأطفال الذين أظهروا هذه الأفكار بشكل كبير في المجموعة العلاجية.

ووفق الباحثين، فإن «الكوابيس قد تُحاصر الأطفال في دائرة مغلقة من القلق والإرهاق، ما يؤثر سلباً على حياتهم اليومية»، مشيرين إلى أن العلاج الجديد يمكن أن يُحدث تحولاً كبيراً في تحسين جودة حياة الأطفال.

ويأمل الباحثون في إجراء تجارب موسعة تشمل أطفالاً من ثقافات مختلفة، مع دراسة إدراج فحص الكوابيس بوصفها جزءاً من الرعاية الأولية للأطفال، ما يمثل خطوة جديدة في تحسين صحة الأطفال النفسية والجسدية.