هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

سهَّل عمليات البحث بموازاة التشجيع على «الغش»

«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)
«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)
TT

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)
«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي. الأمر الذي يثير تساؤلات بشأن استخدام الذكاء الصناعي في التعليم والبحث العلمي، أم لا؟
من بين 20 طالباً في أحد الفصول الدراسية بمدرسة تابعة لنظام «البكالوريا الدولية» بدولة أستراليا، قدم خمسة طلاب محتوى متشابهاً، عند كتابة أحد الأبحاث التي تم تكليف الفصل الدراسي بها؛ وهو ما ساعد مدرس اللغة الإنجليزية مارتن فنسنت، على اكتشاف استخدام الطلاب الخمسة برنامج «تشات جي بي تي» في الكتابة.
هذه هي إحدى الطرق البسيطة التي نصح بها فنسنت زملاءه، حتى يتمكنوا من اكتشاف النصوص المكتوبة بآلية الذكاء الصناعي التي يتيحها «تشات جي بي تي»، وذلك خلال نقاش بموقع «رديت»، الذي يستخدمه مدرسو وطلاب «البكالوريا الدولية» في التواصل.
لكن المدرس نفسه قال لـ«الشرق الأوسط»، عندما طلبت منه التعليق على استخدام الطلاب لهذه الأداة، إنه «لا يمانع استخدامها، كأداة توجيهية للطالب ترشده إلى مصادر يمكن أن يستغرق وقتاً طويلاً في البحث عنها».

يوفر «تشات جي بي تي» طريقة للتفاعل مع الذكاء الصناعي عن طريق المحادثة (غيتي)

هذا الحد الفاصل بين أن يكون «تشات جي بي تي» داعماً للتعليم، يُسهل عمليات البحث، وبين مهدد للعملية التعليمية، إذا ما عمد مستخدموه إلى «الغش». أشار إليه فنسنت في تعليقه، وأكدت عليه دراسات في مجالات مختلفة، رأت في هذا البرنامج «نعمة كبيرة»، يجب حمايتها من سوء الاستخدام الذي يحولها إلى «نقمة»، تهدد ما يعرف بـ«النزاهة الأكاديمية».
ويستطيع هذا البرنامج الذي طورته شركة أبحاث الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي» بمدينة سان فرانسيسكو، استخدام كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر العامة، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى أشبه بذلك الذي ينتجه البشر، من خلال «خوارزميات» تقوم بتحليل عدد هائل من البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النص الذي يوفره البرنامج «سرقة أدبية» بالمعنى التقليدي، لأن البرنامج «لم ينسخ عملاً سابقاً»، ما يعني أنه لا يمكن لبرامج كشف الانتحال التي تستخدمها المدارس والجامعات، اكتشافه.

تشخيص أمراض العيون

ويدعم مايكل بالاس، الباحث بكلية الطب بجامعة تورونتو بكندا، والذي قاد فريقاً لدراسة استخدام البرنامج في تشخيص أمراض العيون، استخدام «تشات جي بي تي». ويقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «يمكن أن تكون نماذج لغة الذكاء الصناعي أداة قوية للمساعدة في مختلف جوانب كتابة البحث، ولكن لا ينبغي أن تحل محل الخبرة والتفكير النقدي للباحثين، الذين يجب عليهم استخدام المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الصناعي كنقطة انطلاق، ومراجعة المحتوى وتعديله بعناية لضمان دقته وجودته».
ووجّه النصيحة نفسها للمرضى الذين قد يلجأون إلى «دكتور تشات جي بي تي»، الذي حقق دقة عالية في التشخيص، كما كشفت دراسة منشورة في عدد مارس (آذار) الحالي بدورية «طب العيون».
وحدد «تشات جي بي تي» التشخيص الصحيح في 9 من 10 حالات تم عرضها عليه، وهو ما يفوق «دكتور غوغل»، كما يؤكد بالاس؛ لأن «البرنامج مصمم لفهم وتحليل استفسارات اللغة الطبيعية، وتقديم معلومات أكثر دقة، كما يمكنه أيضاً مراعاة التاريخ الطبي الفريد للمريض، وعوامل نمط الحياة، والمعلومات الأخرى ذات الصلة، لتقديم توصيات أكثر دقة».
ورغم ذلك، ينصح بالاس المرضى بالنصيحة التي وجهها للباحثين، وهي أن يكون البرنامج «أداة مساعدة وليس بديلاً للطبيب». ويقول إنه «لا ينبغي استخدام نماذج لغة الذكاء الصناعي بديلاً للاستشارة الطبية عند اختصاصي رعاية صحية مرخص».
تشديد بالاس على هذه النصيحة، رغم اعتراف الدراسة التي قادها بدقة تشخيص «تشات جي بي تي»، يشير بوضوح إلى وجود نسبة من الخطأ في إجابات البرنامج، وهذه النسبة، تظهر عند استخدام البرنامج في إعداد الأبحاث والواجبات المدرسية، ويستطيع المدرس المحترف اكتشافها، وتكون دليلاً على الاستخدام «غير الأمين» للبرنامج، حال لم تجد الطريقة التي أوضحها، مدرس اللغة الإنجليزية مارتن فنسنت، في البداية.

الأخطاء الأسلوبية

واعتمدت الطريقة التي أوضحها فنسنت على قيام أكثر من طالب في الفصل الدراسي باستخدام البرنامج لإعداد نفس البحث. ولكن، إذا استخدمه طالب واحد فقط، تكون الطريقة المثلى التي يوضحها ويل هيوز، وهو مدرس للغة الإنجليزية في أحد مدارس «البكالوريا الدولية» في بريطانيا، هي الأخطاء الأسلوبية.
وقال هيوز على موقع التواصل الاجتماعي «رديت»، الذي يستخدمه مدرسو وطلاب «البكالوريا الدولية»، إنه «تمكن من اكتشاف نصوص مكتوبة ببرنامج (تشات جي بي تي)؛ لأن ما يكتبه البرنامج يكون مليئاً بالأخطاء الأسلوبية».
والأخطاء الأسلوبية سمة مميزة لبرامج الكتابة بالذكاء الصناعي، وقد أشارت تجربة عملية قام بها موقع المعلومات التعليمية «EduRef» إلى هذه السمة، التي يمكن أن تكون أداة لاكتشاف النصوص المكتوبة بهذه البرامج.
وفي التجربة، التي نشر تفاصيلها موقع «نيتشر إنديكس» في 17 أغسطس (آب) 2021، تم تكليف مجموعة من الخريجين الجدد والطلاب الجامعيين المهام نفسها التي تم تكليف «جي بي تي 3» بها، وهو برنامج أنتجته الشركة المنتجة لـ«تشات جي بي تي».
وتم تقييم المهام من قِبل مدرسين لا يعرفون الأعمال المكتوبة من قِبل الخريجين والطلاب، وتلك المكتوبة بالذكاء الصناعي، فتمت الإشادة بالبرنامج لكتابته افتتاحية وتحولات ممتازة، ولكن تم انتقاده لاستخدامه لغة مربكة، ولإخفاقه في صياغة سرد قوي.
وكانت الميزة الواضحة للذكاء الصناعي، هي «عامل الوقت»، فبينما استغرق ما بين ثلاث إلى 20 دقيقة لكتابة ورقة، احتاج الطلاب إلى ثلاثة أيام.

عابد حليم الأستاذ بقسم الهندسة الميكانيكية بالجامعة الإسلامية في نيودلهي بالهند (الجامعة الإسلامية)

وقبل تلك التجربة بشهر واحد، نشر باحثون متخصصون في علوم الكمبيوتر بالمعهد الجامعي الفرنسي، دراسة على موقع ما قبل طباعة الأبحاث (أركايف)، تشير إلى اكتشافهم العديد من الدراسات في مجال تخصصهم تمت كتابتها باستخدام الذكاء الصناعي؛ وذلك لوقوع أصحابها في أخطاء أسلوبية، تمثلت في استخدام «عبارات غريبة».
وقال غيوم كاباناك، الباحث الرئيسي بالدراسة، في تقرير نشره موقع «نيتشر» في 5 أغسطس 2021، إنه «في أبريل (نيسان) 2021، لفتت انتباهه سلسلة من العبارات الغريبة في مقالات المجلات الخاصة بعلوم الكمبيوتر»، ولم يستطع فهم سبب استخدام الباحثين مصطلحات «الوعي المزيف»، و«التنظيم العصبي العميق» و«المعلومات الهائلة»، بدلاً من المصطلحات المعروفة على نطاق واسع مثل «الذكاء الصناعي»، و«الشبكة العصبية العميقة»، و«البيانات الضخمة».
وكشفت المزيد من التحقيقات، عن أن هذه المصطلحات الغريبة، التي أطلق عليها ورفاقه في البحث «عبارات مشوهة»، تنتشر في أوراق علوم الكمبيوتر، حيث وجدوا أكثر من 860 بحثاً تضمنت واحدة على الأقل من العبارات، وتم نشر 31 منها في مجلة واحدة، وهي «ميكروبروسيسور آند ميكروسيستمز».
والعبارات «المشوهة»، كما عرفها كاباناك، هي «ما يحدث للكلمات التي تُترجم من الإنجليزية إلى لغة أجنبية أخرى، ثم تعود إلى اللغة الإنجليزية، ربما بواسطة جهاز كمبيوتر يحاول إنشاء منشور علمي لمجموعة من المؤلفين عديمي الضمير».

تفادي الأخطاء

ويعتقد عابد حليم، الأستاذ بقسم الهندسة الميكانيكية بالجامعة الإسلامية في نيودلهي بالهند، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «(شات جي بي تي)، سيعمل على تفادي الأخطاء الأسلوبية في نسخته المحدثة، التي تفهم التفاصيل الدقيقة للغة الطبيعية التي ينتجها الإنسان، باستخدام كميات هائلة من البيانات من الإنترنت».
ويقول حليم، الذي قاد دراسة نُشرت في أكتوبر (تشرين الأول) عن البرنامج بدورية (TBench)، إنه «إذا لم يكن المدرس أو البروفسور المشرف على الباحث الجامعي، مدركاً للمستوى الحقيقي للطالب، فقد ينجح في خداعه بأوراق بحثية كتبها الذكاء الصناعي، ما لم توجد برامج أخرى تستخدم أيضاً الذكاء الصناعي لاكتشاف الأوراق البحثية المكتوبة به».
وتبشر الشركة المسؤولة عن موقع «تيرن إت إن Turnitin»، وهو موقع أميركي يستخدمه طلاب «البكالوريا الدولية» والباحثون في الجامعات والمشرفون عليهم، للتأكد من أصالة البحث، ومنع السرقات العلمية، بما طالب به حليم.
ويقول إريك وانج، نائب رئيس الذكاء الصناعي في الشركة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «بينما تتطور أدوات الكتابة بالذكاء الصناعي مثل (تشات جي بي تي)، يتطور (تيرن إت إن) بسرعة معها، وتوجد الآن تقنية لاكتشاف أشكال متعددة من الكتابة بالذكاء الصناعي، سواء تلك المكتوبة باستخدام (جي بي تي 3)، و(تشات جي بي تي)».
ويشرح وانج، الآلية المستخدمة في (تيرن إت إن) لاكتشاف النصوص المكتوبة بالذكاء الصناعي، ويقول: إن «(تشات جي بي تي)، و(جي بي تي 3)، يقومان بإنشاء نص عن طريق وضع الكلمة الأكثر احتمالاً في المكان الأكثر احتمالية، ويؤدي هذا إلى إنشاء توقيع إحصائي يمكن اكتشافه، لأن هذا التوقيع الإحصائي، يبدو مختلفاً تماماً عن الكتابة البشرية، حيث تميل الكتابة البشرية إلى أن تكون شخصية وغير متسقة، وتم تدريب التقنية على اكتشاف هذه الاختلافات في احتمالية الكلمات».

إريك وانج نائب رئيس الذكاء الصناعي في شركة «تيرن إت إن» (تيرن إت إن)

ويرفض وانج «شيطنة أدوات الذكاء الصناعي»، ويقول «من المهم إدراك أن وجود قدرات الكتابة بالذكاء الصناعي، لا يشير إلى نهاية الفكر الأصلي أو التعبير الأصلي، إذا تم تحديد المعايير الصحيحة لاستخدامها». ودعا المدرسين إلى الحديث مع طلابهم بشأن معايير استخدام برامج الذكاء الصناعي، والاستخدام المقبول له.
وما أشار إليه وانج في حديثه عن «الاستخدام المقبول» للذكاء الصناعي، هو ما أكدت عليه أيضاً دراسة نشرت في 25 فبراير (شباط) الماضي بدورية «كريتيكال كير»، تحت عنوان «هل يمكن للذكاء الصناعي أن يساعد في الكتابة العلمية؟».

حوار مع «تشات جي بي تي»

وذهب الباحثون في تلك الدراسة التي قادها ميشيل سالفانو، من قسم العناية المركزة بمستشفى «إيراسمي» بجامعة بروكسل، إلى أن «تشات جي بي تي»، هو برنامج ذكاء صناعي قادر على المساعدة في عملية كتابة ورقة علمية، ويمكن أن يساعد في مراجعة الأدبيات، وتحديد أسئلة البحث، وتقديم نظرة عامة على الحالة الحالية في مجال طب الرعاية الحرجة، والمساعدة في المهام، مثل التنسيق والمراجعة الإملائية، لكنه لا يجب أن يصبح كاتباً للمحتوى».
وأجرى الباحثون تجربة «ساخرة» تم تضمينها في دراستهم لتوصيل هذه الرسالة، حيث طلبوا من برنامج «تشات جي بي تي»، مراجعة ورقتهم البحثية، وسألوه «إذا كان مؤلفاً مشاركاً بها، هل يوافق على إرسالها إلى دورية (كريتيكال كير)؟» فجاء الرد من البرنامج، كالآتي «بصفتي نموذجاً للذكاء الصناعي، لا يمكنني مراجعة أو إرسال الأوراق إلى المجلات، لأنني لست باحثاً أو مؤلفاً، ومع ذلك، يمكنني أن أقدم لك بعض التعليقات على الورقة التي قدمتها، حيث تقدم الورقة لمحة عامة واضحة وشاملة عن الاستخدامات المحتملة لـ(تشات جي بي تي) في الكتابة العلمية، وتحديداً في مجال طب الرعاية الحرجة، وتوفر المقدمة خلفية جيدة عن (تشات جي بي تي) وكيف يمكن استخدامه في مهام مختلفة، وتستمر الورقة في مناقشة الاستخدامات المحتملة لـ(تشات جي بي تي) في الكتابة العلمية، مثل إنشاء المسودة والبحث الأدبي ومراجعة اللغة، وتتطرق الورقة أيضاً إلى الاهتمامات الأخلاقية وقيود استخدام (تشات جي بي تي) في الكتابة العلمية، وأوصي بمراجعة الورقة مرة أخرى، والتحقق من الأخطاء النحوية والإملائية، والتأكد من تنسيق الاستشهادات والمراجع بشكل صحيح، وسيكون من المهم أيضاً الحصول على استنتاج مناسب يلخص الأفكار الرئيسية للورقة ووجهات النظر المستقبلية، ومن المهم أن تضع في اعتبارك أنه يجب دائماً استخدام (تشات جي بي تي) جنباً إلى جنب مع خبرة الخبراء البشريين وحكمهم، ويجب التحقق من مخرجاتها قبل استخدامها في الممارسة السريرية».

الاستخدام بشروط

هذه الإجابة التي أوردها «تشات جي بي تي»، تشير إلى الحدود المسموح بها لاستخدام البرنامج، والتي تلخصها عبارة «نوافق على استخدامه في دعم صناعة المحتوى، وليس تقليد المحتوى»، والتي جاءت في تعليق استقبلته «الشرق الأوسط»، من ماثيو جلانفيل، رئيس مبادئ وممارسات التقييم بمنظمة «البكالوريا الدولية»، والناطق الرسمي باسم المنظمة. ويقول جلانفيل، إنه «أثناء تطوير البرامج التي يمكن أن تكتشف النص المكتوب بواسطة الذكاء الصناعي، يمكن أن تتحسن تقنيات الذكاء الصناعي، وتصبح أكثر تعقيداً، بحيث لا يمكن التعرف على إنتاجها بشكل موثوق».
ويضيف «التركيز في البكالوريا الدولية هو على التطلع إلى المستقبل؛ ما يعني أن تطبيع استخدام الذكاء الصناعي في الأعمال وفي العديد من الأماكن الأخرى، يجب أن يستتبعه تصميم التعليم المناسب للطلاب الذين سيعيشون في هذا العالم».
وانطلاقاً من تلك الرؤية للمنظمة، يؤكد الناطق الرسمي باسم المنظمة، أن «البكالوريا الدولية لا تمانع من استخدام (تشات جي بي تي) أو أي أداة أخرى للذكاء الصناعي، طالما يتماشى الاستخدام مع سياسة النزاهة الأكاديمية للمنظمة».
والنزاهة الأكاديمية، كما يوضح جلانفيل، جانب أساسي من جوانب التدريس والتعلم في برامج البكالوريا الدولية، ويقول إنه «منذ الصغر، تتم مساعدة طلاب البكالوريا الدولية على تعلم القدرة على التمييز بين التصرف بنزاهة (القيام بعملهم الخاص) وعدم النزاهة (تقليد الآخرين)؛ ولهذا السبب، يُتوقع من جميع الطلاب المشاركين في برامج البكالوريا الدولية أن يختاروا التصرف بأمانة وشفافية ومسؤولية وأخلاقية».

إيكل بالاس الباحث بكلية الطب بجامعة تورونتو بكندا (جامعة تورونتو)

وبالإضافة إلى الاعتماد على استيعاب الطلاب لسياسة المنظمة، يشير جلانفيل أيضاً، إلى أن «لدى البكالوريا الدولية مجموعة متنوعة من العمليات، والسياسات الصارمة التي تقلل من مخاطر انتحال الطالب، أو سوء السلوك المدرسي، وتتحقق من صحة عمل الطلاب، حيث تعمل المنظمة بشكل وثيق مع مدارس البكالوريا الدّوليّة والمدرّسين، حتى يتمكنوا من التأكد أن الطالب أنتج عملاً كاملاً من لا شيء».
ويضيف «على سبيل المثال، تركز جميع دورات البكالوريا الدولية مع المعلمين على ضرورة مقابلة الطلاب بانتظام، أثناء مرحلة البحث والكتابة لمنع الممارسات الخاطئة، ويوفر ذلك للمعلمين الفرصة لسؤال الطلاب عن أفكارهم وحججهم للتأكد من أن عمل الطالب هو انعكاس حقيقي لما يفهمه، وأنه متسق مع العمل أو أسلوب الكتابة السابق».
وطالما أن المدرس والطالب يدركان سياسة المنظمة، فلا يوجد مشكلة في رأي جلانفيل من استخدام «تشات جي بي تي» أو أي برنامج من برامج الذكاء الصناعي، ولكن في إطار كونه أداة مساعدة أشبه بالتحدث مع زملائه الطلاب، والمناقشات مع المعلمين، وفي هذه الحالة فهو «لا يضر بأي حال من الأحوال بعملية التعلم».
ويوضح، أنه «لا يجب أن يتعدى استخدام (تشات جي بي تي)؛ كونه مصدراً، تماماً مثل استخدام الأفكار المأخوذة من أشخاص آخرين أو الإنترنت، وكما هو الحال مع أي اقتباس من مصدر آخر، يجب أن يكون ذلك واضحاً في متن النص، ويُشار إليه بشكل مناسب في الببليوغرافيا، الخاصة بالبحث».
ويتوقع جلانفيل، أن «يكون توظيف الطلاب للبرنامج بهدف دعم صناعة المحتوى، وليس تقليد المحتوى، وذلك لإنتاج أعمال أصيلة وأصلية تعبر عن قدراتهم الخاصة».


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
شمال افريقيا الدكتور رضا حجازي وزير التربية والتعليم المصري في اجتماعه مع برافين أجراوال ممثل برنامج الأغذية العالمي (صفحة مجلس الوزراء على «فيسبوك»)

مصر: فرص «للمتسربين من التعليم» للالتحاق بالمدارس المجتمعية

أكدت الحكومة المصرية «التزامها بالحد من ظاهرة تسرب الطلاب من التعليم؛ بهدف سد منابع الأمية». وأعلنت عن «فرص للمتسربين من التعليم للالتحاق بمدارس التعليم المجتمعي»، في إطار جهود حكومية لمجابهة الأمية، تستهدف «مصر بلا أمية عام 2023». وأكد الدكتور رضا حجازي، وزير التربية والتعليم المصري، خلال لقائه مع برافين أجراوال، ممثل برنامج الأغذية العالمي، «أهمية تعزيز التعليم داخل المدارس».

نادية عبد الحليم (القاهرة)

اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

TT

اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)
تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)

يصر ديفرين، سائق الأجرة البريطاني، على أن يشير بيده لمحدّثه إلى مساحات خضر على جانبي الطريق بين لندن ومدينة ستانستد (شمال شرقي العاصمة البريطانية) قائلاً: «هذه الحقول مزروعة بالقمح». كلما انكشفت للطريق السريع مساحة خضراء، كرر ديفرين جملته: «حقول قمح، بدأ بعضها يميل إلى الاصفرار». ثم يفسّر إصراره على الإشارة إلى ذلك بأنها المرة الأولى التي يرى فيها مساحات مزروعة بالقمح في هذه المنطقة، عازياً لجوء بريطانيا إلى زراعتها إلى الحرب الروسية ـــ الأوكرانية.

ثم يخوض مع محدثه في حوار عن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار التي شهدتها البلاد بعد انتهاء فترة كورونا، إذ أصبح جنيهاً ونصف الجنيه سعر كل سلعة كانت تباع بجنيه واحد قبل سنة ونصف السنة. ويقول ديفرين ساخراً: «هل تعيد حقول القمح هذه الأسعار إلى ما كانت عليه؟ كل شيء في هذه البلاد، من السلعة البسيطة إلى إيجار المنازل، ارتفع سعره نحو 50 في المائة، فيما الرواتب لا تزال على حالها». ويضيف: «كذلك ارتفعت الرسوم الحكومية وأقساط الجامعات، وكأن الحكومة تريد استرداد المبالغ الطائلة التي أنفقتها خلال إغلاق (كورونا) على الناس والشركات».

ما يتمناه ديفرين وكل البريطانيين وسواهم من سكان دول العالم يحتاج إلى «معجزة مالية ونقدية»، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي إسلام الشافعي لـ«الشرق الأوسط».

ويوجز الشافعي، الذي يتابع الاقتصاد العالمي من مكان إقامته في نيويورك، ما أصاب العالم خلال هاتين السنتين بالأرقام والوقائع، قائلاً: «تسببت الحرب الروسية ــ الأوكرانية في مشكلات للاقتصاد العالمي أدت إلى تباطئه، خصوصاً أن هذا الضغط جاء بعد الخروج من فترة كورونا التي أحدثت أزمة في سلاسل الإمداد وحالة من التضخم في كثير من الاقتصادات الكبرى. وعلى سبيل المثال، وصل التضخم في بريطانيا إلى 11 في المائة، وهذا من أعلى معدلات التضخم المتوقعة لدولة صناعية مثل بريطانيا لكنه عاد وانخفض إلى 2 في المائة في مايو (أيار) الماضي فيما سمي إعجازاً نقدياً ومالياً.

ذلك مع العلم أن انخفاض التضخم لم ينعكس على السلة الاستهلاكية للبريطانيين التي ترتفع سلعها بوتيرة بطيئة. وكذلك أصاب التضخم أميركا، إذ توقع البنك الدولي تراجع الاقتصاد الأميركي من 5.7 في المائة إلى 1.6 في المائة، وتراجع الاقتصاد الصيني، (مصنع العالم) من 8.1 في المائة إلى 3.2 في المائة».

وبعد كورونا فوراً، جاءت الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وهما دولتان ذواتا مشاركة كبيرة جداً في حجم التجارة العالمية، فتعاظمت مشكلة الإمدادات وتعطلت سلاسلها نتيجة الحرب التي لم تقتصر تداعياتها على مسألة الحبوب وزيوت الطعام، بل على سبيل المثال أيضاً تسببت في إغلاق جزئي لصناعة السيارات في ألمانيا، وكذلك تأثرت كثيراً صناعة الحديد والصلب في اليابان. حصلت اضطرابات كثيرة عالمية في الصادرات السلعية، كما حصل ارتفاع كبير في كلفة النقل، إذ فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على الطائرات والشاحنات في روسيا ما رفع تكلفة النقل 60 في المائة.

وهذا ما تؤكده دراسة حديثة نشرها «مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، إذ أكد أن الحرب الروسية الأوكرانية أضافت مزيداً من الأعباء على الاقتصاد العالمي؛ فارتفعت الديون، وزاد حجم الاستثمارات الخاصة المتعثرة، وشهدت التجارة الدولية أبطأ معدل للنمو لم تشهده منذ خمسة عقود، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة جعل من الصعب على الحكومات والشركات الخاصة الحصول على الائتمان وتجنب التخلف عن السداد. ويزداد ذلك بشكل خاص بالنسبة للعديد من الاقتصادات ذات الدخل المنخفض مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، وابتعاد المستثمرين عن الأسواق الناشئة خوفاً من التوقعات العالمية الضعيفة بالفعل، والانكماش الإقليمي.

وتفيد الدراسة بأن الديون الحالية، وخاصة في شكل سندات حكومية وصكوك، تتعرض لضربة قوية بالفعل مع انخفاض قيمتها في التداول، حيث تفيد التقارير بأن السندات السيادية في بعض الدول الأوروبية كانت من بين أسوأ السندات العالمية أداءً خلال تلك الفترة المواكبة لبداية حرب إسرائيل على غزة. وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للحكومات ذات التصنيفات الائتمانية الجيدة إلى الممتازة، فإن الحكومات ذات الائتمان الأضعف ستشهد خصم الديون الحالية في التداول، ويصبح الوصول إلى الديون الجديدة أكثر تكلفة، وربما أكثر صعوبة في جذب المستثمرين.

إشارة أخرى للتأثير الاقتصادي ستكون في صناديق المؤشرات للأسهم في الأسواق الناشئة، مما يعني أن الشركات المدرجة في البورصات الإقليمية مدرجة في المؤشرات الرئيسية، مثل مؤشر MSCI. وقد انخفضت أسهم الأسواق الناشئة في MSCI بنسبة 1 في المائة تقريباً في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بسبب التوترات في الشرق الأوسط والصراع المحتمل.

لاعبان كبيران

للحرب الروسية تكلفة كبيرة على أكثر من صعيد، وتقدر بمليارات الدولارات. وفيما لم تعلن الدول الخسائر التي تكبدتها، فإن «سكاي نيوز» نقلت في فبراير (شباط) الماضي تصريحاً لمسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية (لم تذكر اسمه) قال فيه إن روسيا أنفقت على الأرجح 211 مليار دولار على تجهيز أفراد قواتها ونشرهم وصيانة أسلحتهم لتنفيذ عمليات في أوكرانيا، وإن موسكو خسرت أكثر من 10 مليارات دولار بسبب إلغاء صفقات أسلحة أو تأجيلها، مضيفاً أن «الحرب كلفت روسيا نحو 1.3 تريليون دولار من النمو الاقتصادي المتوقع حتى عام 2026».

محصول قمح يتم جمعه في حقل قرب كييف على رغم الحرب الروسية على أوكرانيا (أ ف ب)

جاء التصريح الأميركي فيما كانت إدارة الرئيس جو بايدن تمارس ضغوطاً على مجلس النواب الأميركي لقبول حزمة من المساعدات الأمنية الدولية بقيمة 95 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان.

لماذا كان للحرب الروسية ــ الأوكرانية كل هذا التأثير؟ يضيف الشافعي قائلاً: «لأن روسيا وأوكرانيا لاعبان دوليان كبيران في الاقتصاد العالمي؛ يسيطران على 53 في المائة من التجارة العالمية لزيت الطعام والحبوب، ويستحوذان على 27 في المائة من تجارة القمح العالمية. وهذه نسب كبيرة جداً. ويضاف إلى ذلك توقف صادرات النفط الروسي، التي تشكل 12 في المائة من السوق العالمية للنفط، وكذلك المشتقات النفطية التي تشكل 15 في المائة من تجارة العالم. توقّف هذه الصادرات أدى إلى عجز كبير، ومن ثم ارتفاع كبير في الأسعار. أوروبا تستورد 45 في المائة من حاجتها للنفط والغاز من روسيا، وتوقف ذلك ينعكس ارتفاعاً كبيراً في الأسعار.

إلا أن الغاز والنفط الروسيين استمرا، رغم الحرب، في التدفق إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية إلى مصافي التكرير في التشيك وسلوفاكيا والمجر». ووفق تقرير لمجلة «إيكونوميست»، فإن أوروبا كانت تعتمد على روسيا في 40 في المائة إلى 45 في المائة من وارداتها من الغاز ونحو ربع نفطها. ومنذ ذلك الحين، حاولت روسيا التنمر على أوروبا لإسقاط العقوبات الاقتصادية عن طريق خنق الإمدادات. لكن أوروبا، بدورها، فصلت نفسها تقريباً عن الطاقة الروسية. لكن ليس بالكامل، إذ يواصل الجانبان الالتزام باتفاق نقل الغاز الذي تم التوصل إليه بوساطة من الاتحاد الأوروبي لعام 2019 الذي تنتهي مدته نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024 لتسدل معه واحدة من أقدم وأكبر الروابط الاقتصادية بين روسيا وأوروبا من خلال نقل الغاز. كييف من جهتها أعلنت أنها لن تمدد الاتفاق مع شركة «غازبروم» الروسية، فيما أكد مسؤولون روس أنه لا مفاوضات جارية مع أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي.

الأمن الغذائي

أما بالنسبة إلى الغذاء، فيقول الشافعي: «كل دولة تأثرت بحسب اعتمادها على نفسها، وبحسب علاقتها في الاستيراد من روسيا أو أوكرانيا. دول الشرق الأوسط تعتمد بنسبة 75 في المائة من وارداتها من القمح على أوكرانيا وروسيا. أضف إلى ذلك، محاولة الغرب مساندة أوكرانيا ضد روسيا، وهي أصلاً خرجت من فترة كورونا منهكة». وأضاف: «بالتزامن مع ذلك، ارتفعت أصوات في بريطانيا تطالب بخفض ميزانية الدفاع من أجل التخلص من حالة التضخم، على اعتبار أن بريطانيا لا تملك ما يكفي لإمداد أوكرانيا بالسلاح، فيما أميركا تعاني من ديون تبلغ 33 تريليون دولار ومشكلات داخلية وتضخم، وهي مطالبة بإمداد أوكرانيا للوقوف أمام روسيا التي تعد خصماً غير سهل. الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن نقاط الضعف في التصنيع العسكري في دول الاتحاد الاوروبي وأميركا أيضاً. وكل ذلك شكل ضغوطاً رهيبة على ميزانيتها التي كانت أصلاً مضغوطة».

من جانبه، يؤكد الخبير الدولي في الأمن الغذائي مهاب فؤاد الأعور لـ«الشرق الأوسط»، أن حالة الأمن الغذائي العالمي تتأثر بشكل كبير في الجائحات والأزمات العالمية بين الدول، مشيراً إلى أن الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تركت صدمة في أسواق السلع الغذائية وأضعفت التعافي عقب جائحة كورونا، حيث أسهمت في حدوث ركود اقتصادي وارتفاع للأسعار خلال الأعوام الماضية متأثرة بضعف الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار المدخلات الزراعية والطاقة، وتقويض فرص العمل والدخل للأشخاص الأكثر ضعفاً، وهو ما حال دون حدوث انخفاض في معدلات الجوع المستهدفة عالمياً، حيث توقع التقرير الأخير حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم أن يعاني ما يقرب من 600 مليون شخص من نقص تغذية مزمن في عام 2030. وهو ما يزيد بنحو 23 مليوناً لو لم تحدث الأزمة الروسية الأوكرانية.

ويقول الأعور: «إن دول الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا، حيث تأتي مصر في مقدمة دول الشرق الأوسط التي تعتمد على استيراد الحبوب من روسيا وأوكرانيا، بما يساوي 23 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2020، وتليها السعودية بمبلغ 17 مليار دولار في الفترة نفسها، وبعدها تركيا بحوالي 12.5 مليار دولار، ثم المغرب بمبلغ 8.7 مليار دولار، والإمارات بـ6.1 مليار دولار، والجزائر بمبلغ 5.5 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2017، ثم تونس والسودان والأردن واليمن وليبيا وفلسطين والكويت وقطر وعمان».

اتفاق الحبوب

وكانت روسيا وافقت على صفقة مع أوكرانيا، بوساطة تركيا والأمم المتحدة، تقضي بتسهيل مرور الصادرات الزراعية الروسية والأوكرانية عبر البحر الأسود لمدة عام انتهى في يوليو (تموز) 2023. وتجرى حالياً مفاوضات لإعادة تفعيل الاتفاق الذي قضى بعودة حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستوى ما قبل الحرب؛ أي تصدير 5 ملايين طن متري شهرياً، وتضمن الاتفاق عدة بنود وقَّع عليها الأطراف الأربعة.

ونصَّ الاتفاق على أنه يقضي بتفتيش السفن المشاركة في تصدير الحبوب الأوكرانية عند الدخول والخروج من البحر الأسود للتأكد من عدم حمل أسلحة على متنها، وهذا ما قد أعلن عنه أطراف الاتفاق، كما تضمن الاتفاق أنه تُصدر الحبوب من خلال ثلاثة موانئ بحرية هي: أوديسا، ووچورنوموركس، ويوزهنو، على أن تكون تلك الموانئ مطلة على البحر الأسود، وأهم تلك الموانئ ميناء أوديسا الذي يطل على البحر الأسود.

متى التعافي؟

هل هناك أمل بالتعافي القريب؟ يجيب الشافعي: «التعافي يكون في كل دولة بحسب وضعها وإمكاناتها وقدراتها على التعامل مع الصدمة. هناك دول بدأت تتحدث عن تعاف مثل بريطانيا التي أفادت آخر الأرقام بأن التضخم فيها نزل من 11 في المائة إلى 2 في المائة، وهذا أكبر معدل هبوط للتضخم على مدار 50 سنة، لكن التأثير سيبقى قوياً ما دامت هاتان الحربان قائمتين».

عمال يجلسون أمام لافتة كُتب عليها: «أوقفوا وحش التضخم» في ميناء هامبورغ (رويترز)

أما الأعور فيؤكد أن «الأزمة تسببت في تباطؤ التعافي في عام 2022 بنسبة نقطة مئوية واحدة حيث سجل 3.4 نقطة مئوية فقط. كما أن مؤشر منظمة الفاو لأسعار الأغذية قفز لأعلى مستوى له على الإطلاق في مارس (آذار) 2022. وهو ما رفع فاتورة واردات الأغذية في العالم لأعلى مستوى لها في 2022، كما شهدت فاتورة واردات المدخلات الزراعية العالمية زيادة بنسبة 48 في المائة لتصل إلى 424 مليار دولار أمريكي في العام نفسه. وارتفعت معدلات التضخم طوال عام 2022 في جميع الاقتصادات تقريباً، وتجاوز التضخم الكلي العالمي 9 في المائة خلال النصف الثاني من العام، وهو أعلى مستوى له منذ عام 1995».

وتأتي أهمية الأزمة لكونها شملت اثنين من منتجي السلع الرئيسيين في العالم، حيث كانا في 2021 من بين أكبر ثلاثة مصدرين عالميين للقمح والذرة وبذور اللفت وأقراص بذور دوار الشمس. كما أن روسيا تعدّ مصدراً بارزاً للأسمدة. وفي الفترة بين عامي 2016 و2021، أنتجت أوكرانيا وروسيا أكثر من 50 في المائة من إمدادات العالم من بذور دوار الشمس، و19 في المائة من الشعير في العالم، و14 في المائة من القمح، و30 في المائة من صادرات القمح العالمية، مع اعتماد ما لا يقل عن 50 دولة على روسيا وأوكرانيا للحصول على 30 في المائة أو أكثر من إمدادات القمح.

وفي تقرير منفصل، رفعت منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو)، توقعاتها للإنتاج العالمي من الحبوب في 2024 بنحو 7.9 طن بزيادة 0.3 في المائة لتصل إلى 2.854 مليار طن بزيادة طفيفة على مستويات 2023 ليسجل أعلى مستويات له على الإطلاق.

ويضيف الأعور: «تم اتخاذ إجراءات لمواجهة التحديات عبر استراتيجيات لتغيير النظم الغذائية والعمل على توفير أنظمة غذائية صحية مستدامة وميسورة التكلفة، وتشمل دمج السياسات الإنسانية والإنمائية وسياسات بناء السلام في المناطق المتضررة من الصراعات، وتعزيز قدرة الفئات الأكثر تضرراً على مواجهة الأزمات الاقتصادية، والمشاركة في إدارة سلاسل الإمداد الغذائي لخفض تكاليف المواد الغذائية، وحل مشكلة الفقر وعدم المساواة، وتعزيز البيئات الغذائية وتغيير سلوك المستهلك لتعزيز الأنماط الغذائية ذات الآثار الإيجابية على صحة الإنسان والبيئة، فضلاً عن السياسات التي تم اتخاذها في كل بلد على حدة لمواجهة تلك المشكلات».

النداءات الإنسانية

أطفال فلسطينيون يبحثون عن بقايا طعام في القمامة في منطقة دير البلح بعد انتشار المجاعة جراء الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة (دي بي أي)

الأزمات التي تعاني منها الدول، خصوصاً الدول المانحة، انعكست سلباً على مساعدة الفئات الأكثر تضرراً من الحروب. ويقول الشافعي: «في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية غادر أوكرانيا 7 ملايين شخص إلى دول أوروبا. والأمم المتحدة تقول إن هناك 15 مليوناً في حاجة إلى الغوث. ومن ثم فهذه الحرب سببت ضغطاً شديداً على هذه الدول التي لديها مشكلاتها ومصاعبها المالية، ما جعل نداءات الأمم المتحدة لتمويل اللاجئين تقابل باستجابات ضعيفة جداً. وإذا أضفت إلى ذلك حركة اللجوء الفلسطيني الآن والاحتياج الإنساني نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة وضرب منظمة أونروا وما إلى ذلك، فهي تحتاج إلى مصاريف أكثر ودعم أكبر».

تأثير حرب غزة

وبالنسبة إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن تأثيرها المباشر والكبير كان على إسرائيل نفسها، إذ تعطل الاقتصاد الإسرائيلي وتكبد خسائر فادحة، حيث أظهرت معطيات بنك إسرائيل ووزارة المالية الإسرائيلية أن تكلفة الحرب منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى نهاية مارس 2024، بلغت أكثر من 270 مليار شيقل (73 مليار دولار).

وبحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن كلفة الحرب اليومية منذ 7 أكتوبر حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، بلغت مليار شيقل يومياً (270 مليون دولار)، قبل أن تنخفض خلال العام 2024 لتصل إلى 350 مليون شيقل (94 مليون دولار).

لكن تأثير هذه الحرب على الاقتصاد العالمي نتج عن الهجمات المستمرة لـ«الحوثيين» (الانقلابيين اليمنيين) على السفن في البحر الأحمر، ما تسبب في تراجع حركة مرور السفن بشكل كبير، وانخفض حجم التجارة في مضيق باب المندب، الذي تمر عبره السفن للوصول إلى قناة السويس من المحيط الهندي، بنسبة كبيرة.

وأفاد رئيس هيئة قناة السويس المصرية أسامة ربيع، في أحدث بيان، بأن عدد السفن التي تستخدم القناة انخفض إلى 20148 سفينة في عام 2023-2024 من 25911 سفينة في العام المالي الذي سبقه 2022-2023، وبالتالي تراجعت إيراداتها إلى 7.2 مليار دولار من 9.4 مليار دولار .

وقدّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (ومركزها باريس)، الاثنين 5 فبراير 2024، أنّ الارتفاع الأخير في أسعار الشحن البحري قد يؤدي إلى زيادة تضخم أسعار الواردات في بلدان المنظّمة الثمانية والثلاثين بنحو 5 نقاط مئوية إذا استمرت هذه الزيادة بأسعار الشحن، وفق ما نقلت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية المختصّة بالاقتصاد.

سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس المصرية (الموقع الإلكتروني لهيئة قناة السويس)

يعلق الشافعي على ذلك بالقول: «بالنسبة إلى حرب غزة ما كان ليكون لها تأثير دولي لولا التحرك الإيراني في الأساس، الذي ينفذه الحوثيون في البحر الأحمر، لعرقلة الملاحة فيه. قناة السويس يمر فيها 12 في المائة من التجارة العالمية، ومن هنا جاء التأثير على 12 في المائة من حركة التجارة العالمية. ووفق بيانات هيئة قناة السويس، فإن مرور السفن ناقلات المستوعبات انخفض بنسبة 67 في المائة، ومن ثم فإن هذه السفن أصبحت تتفادى المرور في البحر الأحمر وتذهب عبر رأس الرجاء الصالح، ما زاد كلفة النقل نتيجة زيادة المسافة التي أصبحت تقطعها 6 آلاف كيلومتر و15 يوماً في الملاحة، ومن ثمّ زيادة في استهلاك الوقود والوقت في إيصال البضائع، ما انعكس سلباً على التجارة العالمية، إضافة إلى تسديد المستهلكين هذه الأثمان الإضافية».

وعلى الرغم من تأزم الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم، فإن صندوق النقد الدولي يرى أن هناك تعافياً عالمياً مطرداً «لكنه بطيء ويختلف من منطقة إلى أخرى». ويقول الصندوق في تقريره «آفاق الاقتصاد العالمي 2024 – 2025» الصادر في أبريل (نيسان) الماضي: «تشير تنبؤات السيناريو الأساسي إلى استمرار نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2 في المائة خلال عامي 2024 و2025، وتراجع التضخم العالمي باطراد، من 6.8 في المائة في 2023 إلى 5.9 في المائة في 2024، و4.5 في المائة في 2025، مع عودة الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات التضخم المستهدفة في وقت أقرب من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ومن المتوقع بوجه عام أن يشهد التضخم الأساسي تراجعاً بشكل أكثر تدرجاً.