أوضاع إنسانية وراء اللكمات القوية في أفلام الملاكمة

بدأت مع السينما الصامتة ولا تزال تحظى بالإعجاب

سيلفستر ستالون وتاليا شاير في «روكي» (يونايتد آرتستس)
سيلفستر ستالون وتاليا شاير في «روكي» (يونايتد آرتستس)
TT

أوضاع إنسانية وراء اللكمات القوية في أفلام الملاكمة

سيلفستر ستالون وتاليا شاير في «روكي» (يونايتد آرتستس)
سيلفستر ستالون وتاليا شاير في «روكي» (يونايتد آرتستس)

بخروج فيلم «كريد 3» (Creed 3) إلى العروض حالياً، يتأكد أن أفلام الملاكمة لم تخسر جولاتها بعد وُلدت مع السينما الصامتة، وأَمَّها عديد من الممثلين بينهم الكوميديان بستر كيتون وتشارلي تشابلن في هزل مضحك، واستمرت عبر العقود على منوال غالب: ملاكم ضد آخر. حلبات الصراع للفوز. خلفيات اللاعبين ومن ثم انتصاراتهم أو هزائمهم.
باعتبار أن «كريد 3» أنجز ضعف تكلفته في عشرة أيام (أخرجه مايكل ب. جوردان بميزانية 75 مليون دولار وجلب للآن 190 مليوناً) لا يبدو أن الجمهور ملّ من هذه الأفلام. هو معها ما دام هناك ما ترويه لجانب المنازلات وما دام الملاكمون إما ممثلون مشهورون أو أن الفيلم ينتمي لمخرج معروف قرر أن الوقت حان لكي يساهم في نقل حكاية أخرى من حكايات الملاكمة إلى الشاشة.

طموحات غير منجزة
لا ننسى أن هذه الرياضة لها أتباع كثيرون. لها منظمّات ومؤسسات وترتيبات كحال العديد من الرياضات الأخرى. في بعضها (على الأقل) هناك رهانات كبيرة ورشاوى وكلها تجني، بالتأكيد، أرباحاً طائلة لقاء من يكيل اللكمات للآخر إلى أن يفقد ذاك قدرته على النهوض والمواصلة. وكما يرد في هذا الفيلم، وسبق وأن ورد في أفلام أخرى، هناك مستويان لهذه اللعبة: واحد للمحترفين الكبار الحالمين ببطولة العالم، وآخر للاعبي المباريات غير المرخّصة للراضين ببطولة الحي الذي ينتمون إليه. هذا، إلا إذا ما طمح أحدهم في الخروج من مباريات الحارة إلى مباريات المحترفين.

معركة ساخنة في «كريد 3» (مترو - غولدوين - ماير)

أحد هؤلاء هو دياموند (جوناثان ماجورز) الذي كان صديقاً لكريد (يؤديه المخرج جوردان) منذ سنوات بعيدة قبل أن يدخل السجن. حين ينال حريّته من جديد يتواصل وكريد ويعرب له عن رغبته في دخول عالم الملاكمة المحترفة.
هذا ما يقود الأحداث إلى مواقف حرجة لكريد، الذي بات رجل عائلة بعد انتزاع بطولة العالم. لكن تحت إلحاح أندرسن (وتبعاً لسيناريو ينشد الوصول إلى الذروة) يوافق على مباريات صعبة ضد صديق الأمس المشهور بعنفه وعداوته وقوّة ضرباته.
إنها «الفورميلا» ذاتها لكن مع شحنات من الطروحات الاجتماعية التي يريد الفيلم منحها حيّزاً مهماً لولا أن الخط التقليدي حول من سيفوز وكيف يبدد الكثير من سهامها.
«كريد 3» يأتي في أعقاب فيلمين سابقين من السلسلة التي تأتي، بدورها، تكملة لسلسلة «روكي». تلك التي بدأت بسيلفستر ستالون في أسفل سلم الطامحين قبل أن يجسّد الحلم الأميركي الكبير في فيلم «روكي» (جون أ. أفيلدسن، 1976) ثم ينجزه تكراراً في خمسة أفلام أخرى أخرج ستالون بعضها.
لأسباب عديدة، فإن «روكي» الأول بقي في ذاكرة هواة أفلام الملاكمة كما هواة أنواع أخرى أكثر من أي من الأجزاء اللاحقة. فالسيناريو أمسك جيداً بشخصية رجل مُهمّش ليس لديه سوى حلمه وعمل غير ثابت. قلبه مُعلّق بفتاة خجولة مثله (تاليا شاير). شقيقها (بيرت يونغ) يرمي لأن يكون شريك روكي، الذي تحدّى ثم فاز على عدوّه الأسود كارل ويذرز. أنجز «روكي» ثلاثة أوسكارات من بينها أفضل فيلم.
وهناك أفلام ملاكمة أخرى نالت أوسكارات وهي «هنا يأتي مستر جوردان» (1941) و«جسد وروح» (1947) و«ثور هائج» (1980) و«مليون دولار بايبي» (2004) و«المقاتل» (The Fighter) سنة 2010. طبعاً تلك التي ترشّحت ولم تفز أكثر عدداً وأفضلها فيلم منسي لجون هيوستن بعنوان Fat City («مدينة سمينة، 1972).
مما يجعل ذلك الفيلم مهماً ليس مشاهد الحلبة، فهي قليلة، بل عن بعض لاعبيها. لدينا في هذه الدراما أن أحدهما (ستايسي كيتش) كان ملاكماً ثم تقاعد ويريد العودة إلى الحلبة مدرّباً. طريقته في ذلك تبني شاب لديه موهبة تحتاج إلى تدريب. وتقديم (جف بردجز). كلاهما يخفق في النهاية. لا الملاكم السابق عاش حياة الحلبة من جديد، ولا الشاب استطاع أن يبلور نفسه للفوز بالفرصة التي كان يحلم بها.

أفلام إنسانية
في المدار الإنساني نفسه، لكن على نسيج أكثر سوداوية حقق مارتن سكورسيزي أحد أفضل أفلامه لليوم. «الثور الهائج» (Ragin Bull) سنة 1980. سيرة حياة الملاكم جاك لاموتا، كما مثّلها روبرت دي نيرو ونال عليها لقب أوسكار استحقه.
هناك مشاهد ملاكمة قاسية وعنيفة في هذا الفيلم، لكن اهتمام المخرج تبدّى في الحياة الشخصية لبطله. غيرته المتنامية. شعوره بالإحباط. وعدائيته الكبيرة في الحلبة وخارجها. فيلم سكورسيزي مجبول بالقتامة لكنه مصنوع باحتراف يمنح تلك القتامة أسبابها.
قبل هذين الفيلمين قام روبرت رايان، سنة 1949 ببطولة فيلم بعنوان «الفخ» (The Set - Up) الذي دار حول ملاكم عند آخر السلّم يكتشف أن مديره يقبض رشاوى لكي يخسر الملاكم جولاته. وعلى هذا الصعيد الإنساني أيضاً فيلم «قدّاس لملاكم من الوزن الثقيل» (Requiem for a Heavyweight لرالف نلسون (1962) الذي حكى بدوره عن الرشاوى التي تشهدها حلبات الملاكمة على حساب ملاكمين يكتشفون اللعبة متأخراً. رغم أن هذين الفيلمين، «الفخ» و«قدّاس لملاكم...»، لم يشهدا الكثير من الرواج، فإنهما من بين تلك المفضّلة لمن أراد معرفة خلفيات الحلبة وما يدور حولها. هذا إلى جانب أداء رائع من روبرت رايان في الفيلم الأول وآخر لا يقل روعة لأنطوني كوين في الفيلم الثاني.
قفزة إلى الأمام تضعنا أمام عدة أعمال تستحق الاهتمام في هذا الشأن. فيلم «عندما كنا ملوكاً» (When We Were Kings) تسجيلي حول الملاكم محمد علي كلاي، (1996) و«سواد غير قابل للتسامح» (Unforgivable Blackness) حول الملاكم جاك جونسون (2004) الذي كان أول أفرو - أميركي ينجز درع البطولة في هذه الحلبة و«مليون دولار بايبي» لكلينت ايستوود (2004) الذي عالج فيه هذا المخرج حياة امرأة (هيلاري سوانك) تطمح لأن تلاكم فوق الحلبة.
مرّة أخرى الشعور الإنساني طاغٍ في هذه الأفلام، وهذا غائب بالكثافة ذاتها في سلسلة «كريد». البديل الذي نلاحظه إحلال الاستعراض والصراع لأجل الفوز محل المشاكل الخاصة التي تعايشها تلك الشخصيات. الاندفاع صوب الفوز كغاية، وليس تحليل البنية الاجتماعية التي على البطل الموعود النفاذ منها قبل أن يُمنح الفرصة لإثبات قدراته.
هناك نحو 100 فيلم أميركي تحدّث عن هذه الرياضة على نحو مباشر. وكثير منها كان صادقاً في محاولته منح الرياضة وجهيها السلبي والإيجابي وتوفير نظرة على القناع الذي على الملاكم أن يرتديه أمام جمهوره والحقيقة المؤلمة التي يعيشها لسبب أو لآخر. وفي غضون ذلك، هناك تلك السير الشخصية التي اقتربت أكثر من نجومها كما الحال في فيلم «علي» (2001) عن حياة الملاكم محمد علي كما أدّاه ول سميث تحت إدارة مايكل مان.
محمد علي وجاك جاكسون ليسا الوحيدين اللذين تناولتهما السينما من ذوي الأصول الأفريقية. ممثلون آخرون شخّصوا حكايات نضال من النوع ذاته بينهم سامويل ل. جاكسون (في «الأمل الأبيض الكبير» (1996) و«تايسون» كما أداه الملاكم مايك تايسون نفسه (2008) ووسلي سنايبس وفينغ راميز في «من دون منازع» (2002).
ولا ننسى هنا أن كل أفلام «روكي» احتوت على ممثلين سود تلبية لما يتماشى مع واقع هذه الرياضة الصعبة.


مقالات ذات صلة

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين بمسابقة أفلام البحر المتوسط رفقة المخرج يسري نصر الله (إدارة المهرجان)

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

اختتم مهرجان الإسكندرية السينمائي دورته الـ40، وهي الدورة التي عدّها نقاد وصناع أفلام «ناجحة» في ظل ظروف صعبة تتعلق بالميزانية الضعيفة والاضطرابات الإقليمية.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق ‎⁨تضم النسخة الثانية معرضاً يجمع «سلسلة القيمة» في أكثر من 16 مجالاً مختلفاً ومؤتمراً مختصاً يتضمن 30 جلسة حوارية⁩

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

بعد النجاح الكبير الذي شهده «منتدى الأفلام السعودي» في نسخته الأولى العام الماضي 2023، تستعد العاصمة السعودية الرياض لانطلاقة النسخة الثانية من «المنتدى».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ياسمين رئيس مع أسماء جلال في مشهد من الفيلم (حسابها على «فيسبوك»)

فنانون مصريون يتجهون للإنتاج السينمائي والدرامي

انضمت الفنانة المصرية ياسمين رئيس لقائمة الممثلين الذين قرروا خوض تجربة الإنتاج السينمائي من خلال فيلمها الجديد «الفستان الأبيض».

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يخرج آرثر فليك (واكين فينيكس) من زنزانته، عاري الظهر، بعظام مقوّسه، يسحبه السجانون بشراسة وتهكّم...

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق يشجّع المهرجان الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما (الشرق الأوسط)

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

الأثر الأهم هو تشجيع الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما، ليس فقط عن طريق الإخراج، وإنما أيضاً التصوير والسيناريو والتمثيل. 

إيمان الخطاف (الدمام)

شاشة الناقد: سيرة حياة وهجرة

«غير قابل للتوقف» (ريلي غود هوم بيكتشرز)
«غير قابل للتوقف» (ريلي غود هوم بيكتشرز)
TT

شاشة الناقد: سيرة حياة وهجرة

«غير قابل للتوقف» (ريلي غود هوم بيكتشرز)
«غير قابل للتوقف» (ريلي غود هوم بيكتشرز)

UNTSTOPABLE ★★★☆

* سيرة حياة رياضي تكاد لا تُصدّق

* عروض مهرجان تورونتو | الولايات المتحدة، 2024

هناك «كليشيهات» متعدّدة في الأفلام الرياضية: مثل مشاهد لصعود الرياضي من العدم، العقبات التي تواجهه، المشاكل النفسية التي يعاني منها، شكوك البعض من أنه سينجز النجاح المرتقب وفي النهاية النجاح المرتقب يقع فعلاً و«البطل» ينجز ما حلم به.

هذه وصفة «رامبو» وما قبله وبعده، وفيلم «لا يمكن إيقافه» لا يخلو منها. المميَز الوحيد هو أن هذا الرياضي هو المصارع الشاب أنطوني (جارل جيروم) الذي وُلد بساق واحدة. الكل، من مطلع الفيلم، لا يصدق أنه سينتصر في جولاته باستثناء والدته جودي (جنيفر لوبيز) التي تعلم كم عانى أنطوني في حياته وجهد لكي يدخل الحلبة رغم عاهته. بداية من أن زوج والدته (بوبي كاناڤالي) احتقره وأساء معاملته منذ كان أنطوني ولداً صغيراً.

تنضم صورة الأب (والفيلم مأخوذ عن كتاب وضعه أنطوني روبلز عن حياته) إلى صور متعددة لرياضيين عانوا من سطوة آبائهم من بينها «The Warrior» لكيڤن أوكونور عام 2011، و«The Iron Claw» لشون دوركن 2023. لكن بسبب هذه المتاعب يزداد إصرار أنطوني على التحدي والفوز في مبارياته متّبعاً أسلوباً خاصاً به يحوّل عاهته إلى ميزة. تأثيرها على المُشاهد هو مزيج من التأييد والخوف عليه (هكذا أيضاً موقف والدته). الممثل جيروم لم يقم بتأدية مشاهد الحلبة بل جيء بالرياضي روبلز ليؤدي تلك المَشاهد.

هذا هو الفيلم الأول لوليام غولدنبيرغ الذي اشتغل سابقاً وراء طاولة التوليف (المونتاج) وهو يدمج حكاية تراجيدية في أصلها ومواقفها الصّعبة بخيط من الرغبة في الوصول إلى الجمهور الواسع الذي سيجد أن بطولة روبلز تستحق المشاهدة.

ANYWHERE, ANYTIME ★★★

* دراما عن أفريقي آخر يعاني من ويلات الهجرة الأوروبية

* عروض مهرجاني ڤينيسيا وتورونتو | إيطاليا - 2024

المخرج ميلاد تنغشير إيراني المولد، ترك البلاد وهاجر إلى أوروبا ونجح في تحقيق بضعة أفلام مرّت تحت الرادار. فيلمه الجديد يختلف في أنه يستقطب اهتماماً لا بأس به حالياً.

بعض هذا الاهتمام ربما يعود إلى أن حبكة فيلمه تمشي بخط موازٍ مع ذلك الذي اعتمده المخرج الإيطالي الواقعي ڤيتوريو دي سيكا عندما حقق فيلمه الأشهر «سارقو الدرّاجات» في عام 1948. ذلك لأن دراجة بطل هذا الفيلم التي هي سبيل معيشته الوحيد سُرقت منه خلال العمل، كما سُرقت دراجة الأب في الفيلم السابق. لا ينتهي التشابه عند هذا الحد لأن الفيلمين يجولان في الأسلوب الواقعي رغم اختلاف الحكاية.

من «أي مكان، أي وقت» (ڤيڤو فيلمز)

بطل هذا الفيلم عيسى (إبراهيم سامبو) سنغالي مهاجر إلى إيطاليا بلا أوراق شرعية. يُطرد من عمل مؤقت لهذا السبب. يحاول صديقه مساعدته عبر شراء دراجة هوائية يستخدمها في تسليم الأطعمة حسب الطلب. هذا ما يؤدي بنا في الفيلم لحالة تشابه أخرى مع فيلم «قصة سليمان»، الذي تناولناه بتاريخ التاسع من الشهر الماضي. ذاك أيضاً كان عن أيام من حياة مهاجر أفريقي إلى فرنسا حققه بوريس لوبكينو بجدارة ونجاح في الإمساك بما يجعل من العمل إيقاعاً جيداً وأداءات معبّرة. أمران لا يحسنهما الفيلم الجديد.

عيسى يعمل في مهنة تسليم الأطعمة في تلك الشوارع المزدحمة، وقد تتوقع أن يقع له حادث ما خلالها لأن المخرج تنغشير يجيد رصد الحركة تاركاً المجال لوقوع أي شيء. الأمر الأول الذي يقع عاطفي حيث يتعرّف عيسى على فتاة أفريقية أيضاً (سوكيس إدماكيوتا) كخطوة أولى صوب حياة عاطفية. الأمر الثاني سرقة دراجته دافعاً بعيسى لمأزق حياة غير متوقع ويتقاطع مع آماله بأن يستطيع التغلب على مشاكله المادية والعاطفية.

هذا فيلم لديه نوايا جيدة معظمها يصل إلينا في الدقائق الأولى وبعضها يبقى، لكنه كان يحتاج إلى مناخ أثرى ومعالجة مختلفة أكثر حدة.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز