شارل أزنافور يفتتح «مهرجانات البترون الدولية» بصوت صادح وقامة منتصبة

رغم تجاوزه 90 عامًا.. رقص وغنى وتحدث لجمهور غفير فاق 6 آلاف

شارل أزنافور على مسرح «مهرجانات البترون الدولية 2015»
شارل أزنافور على مسرح «مهرجانات البترون الدولية 2015»
TT

شارل أزنافور يفتتح «مهرجانات البترون الدولية» بصوت صادح وقامة منتصبة

شارل أزنافور على مسرح «مهرجانات البترون الدولية 2015»
شارل أزنافور على مسرح «مهرجانات البترون الدولية 2015»

على مدى ساعتين متتاليتين، صدح صوت شارل أزنافور في «مهرجانات البترون الدولية»، فغنّى ورقص وتحدّث إلى الحضور دون أن يأخذ أي وقت للاستراحة.
فعلى مسرح ميناء البترون الواقع وسط البلدة على شمال الساحل اللبناني، وفي ديكور مزج بين الأصالة؛ إذ أحاط بالمسرح مبنى قديم يتزين بالمندلون على شرفته، والحداثة نظرا لهندسة المسرح المعدني، وفي ظلّ أجواء طقس حار ورطب، زحفت حشود من اللبنانيين لمتابعة أحد أعرق المغنيين في العالم، الذي رغم تجاوزه 90 عاما، فإنه قدّم استعراضا فنيّا أدّى فيه مجموعة كبيرة من أغانيه الجديدة والقديمة، وقد رافقه 6 عازفين ومغنية كورال واحدة.
استهل الحفل بالنشيد الوطني اللبناني، ليطلّ بعدها مباشرة المغني الفرنسي الأرمني الأصل شارل أزنافور، بقامته المنتصبة أبدا ليلقي التحية على الجمهور، وهو يرتدي بدلة سوداء يطالعك تحتها «ساسبندر» حمراء (حزام إنجليزي)، مبتدئا الحفل بأغنية «les emigrants». ومن ثم توجّه إلى الحضور بالقول: «أنا سعيد بعودتي إلى لبنان؛ هذا البلد الذي أعرفه منذ نحو 60 عاما، فلا تنسوا أنني تجاوزت التسعين عاما، ولكني ما زلت أحبّ أن أزور هذا البلد الجميل، لا سيما أصدقائي الموجودين فيه، ألا وهم أنتم بالذات».
صفّق الجمهور لكلام أزنافور طويلا ليقاطعهم بالقول: «لم أعد أرى جيدا، كما أن سمعي خفّ، وبدأت ذاكرتي تخونني فأنسى كلمات أغاني، لذلك أستعين بالقارئ أمامي، وهو أمر، على فكرة، تعتمده غالبية الفنانين، إلا أنها لا تعترف بذلك علنا كما أفعل الآن».
لم تتسم بداية الحفل بالأجواء الحماسية التي كان ينتظرها الحضور في ملاقاتهم للمغني العملاق، الذين جاءوا لمشاهدته من كلّ حدب وصوب وربما للمرة الأخيرة (نظرا لتقدمه في العمر)، فمعظم الأغاني التي أدّاها في الربع الأول من وقت الحفلة كانت هادئة، وقد اختارها من ألبوماته الجديدة التي لم يحفظها اللبناني بعد. إلا أن الأجواء ما لبثت أن اختلفت تماما، عندما راح يلوّن القسم الثاني من السهرة الغنائية هذه بأغانيه المعروفة مثل «mourir d’aimer». ولوحظ انسجامه تماما في أداء أغانيه وهو الذي كان يغنّي بسلاسة وبصوت غير جهوري، على إيقاع توزيع موسيقي حديث طال غالبية أغانيه القديمة. فقدّمها بحلّة جديدة غلبت عليها آلات العزف الإلكترونية والنمط السريع، بحيث تعذّر على المستمعين معرفتها من نوتاتها الأولى.
«برأيي أن الأغنية ترتكز على نصّ محبوك جيدا، ولذلك كتبت معظم أغاني. ولكن لا يمكن أن ننسى فضل الموسيقى على نجاحها أيضا، الذي يؤلّف العنصر المساند لنجاحها وليس الأساسي لذلك». بهذه الكلمات شرح شارل أزنافور قواعد الأغنية المميزة بنظره وهو صاحب خبرة فنيّة تفوق 70 عاما.
بعدها قدّم لأغنيته التالية: «Judas» قائلا: «هناك بعض الناس يرافقوننا ليس حبّا بنا أو بشخصيتنا، بل لمصلحة في نفس يهوذا، فيجلسون معنا لمقاسمتنا طبق الكافيار وليدخنوا معنا السيجار الفاخر ليس أكثر، وهؤلاء أسميّهم (الطفيليات)، ولذلك كتبت لهم هذه الأغنية، فاسمعوها جيدا».
حاول شارل أزنافور طيلة وقائع الحفلة الغنائية التي يحييها أن يكون قريبا من جمهوره، إن من خلال محاورته مباشرة بعبارات بسيطة ورصينة في آن، أو بحركات استثنائية في قيادته للأوركسترا الموسيقي المرافق له، أو في القيام بتابلوهات راقصة كلاسيكية أحيانا ومن نوع الفلامنغو والخطوات السريعة أحيانا أخرى.
فتأبّط كتفه وكأنه يراقص شخصا آخرا أثناء أغنيته الإنجليزية والرومانسية بامتياز «she»، وقدّم عرضا خفيف الظلّ لوّنه بنقلات إيقاعية على طريقة راقصي أميركا اللاتينية عندما غنّى «les deux guitars»، ودار على نفسه وقام بقفزات متواضعة فرقص كغزال شارد على مسرح على وقع أغنيتهemmene» –moi».
ولم ينس أن يعتذر من جمهوره العريض الذي حضر الحفلة والذي فاق عدده 6 آلاف شخص وغالبيته من أصول أرمنية، عندما قرر خلع سترته بسبب الحر الشديد الذي ساد الطقس، كما لم يتوان عن أخذ استراحات لم تتعدّ الثواني القليلة عندما كان يجلس على كرسي من القماش (شبيه بكرسي المخرجين السينمائيين) وسط المسرح، وليعود بحيويته المعتادة ليكمل أداءه بحماس كبير.
انسجم جمهور أزنافور في مهرجانات البترون الدولية مع أدائه الخبير، ورغم أن شريحة كبيرة منهم كانت من جيل الخمسينات والستينات التي تابعت مسيرته الفنيّة منذ بداياته، فإن حضورا لافتا من الشباب الجامعي كان هناك، فردّد أغانيه وتوجّه بها إلى الحبيب أو الزوج أو الزوجة بهذه السهرة مباشرة، ليحضنه تارة أو يلامس وجهه بحنان تارة أخرى مترجما كلام أغاني أزنافور بالفعل وعلى أرض الواقع.
وبعد مرور نحو 80 دقيقة على الحفلة انسحب شارل أزنافور من على المسرح، ليصرخ الجمهور «إلى أين شارل؟»، فعاد أدراجه بسرعة ليشير إليه بأنه كان يمازحه بحركة انسحابه الوهمية هذه، وليكمل الغناء مع باقة من أجمل أعماله مثل «Ave Maria» و«je n’ai rien oublie» و«desormais» و«plaisirs demodes» و«La mama» ولينهيها بأغنيتي «La boheme»، و«emmene - moi» اللتين شكّلتا مسك ختام الحفلة.
انتهت الحفلة في نحو الحادية عشرة والنصف، وأبى اللبنانيون مغادرة المكان بسرعة ممنين النفس بعودة أخيرة لشارل أزنافور على المسرح. وبعد أن تأكدوا من عدم رجوعه؛ إذ كان قد ألقى تحية سريعة عليهم اختصرها بكلمة «شكرا» بالفرنسية وبانحناءة احترام لهم، غادروا المسرح وهم يرددون أغنيته الأخيرة على المسرح «emmene - moi» ويعلّقون بالقول: «هو أسطورة بالفعل.. لم يتغيّر لا أداؤه ولا شكله الخارجي وكأننا لم نفارقه كلّ تلك الفترة».
أمضى شارل أزنافور ثلاثة أيام في بيروت، حرص خلالها على أن يتجوّل في شوارعها وأن يتناول طعام الغداء في أحد منتجات البترون السياحية (سان ستيفانو)، وأمضى نهار السبت المقرر لإقامة حفلته في أحياء وأزقّة المدينة الساحلية المذكورة، وليتوجّه بعد ذلك إلى المسرح في الرابعة بعد الظهر لإجراء تجاربه وتمارينه الغنائية.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».