مرة أخرى، نزل مئات الآلاف من الفرنسيين إلى الشوارع في سابع يوم من التعبئة النقابية والشعبية للاحتجاج على مشروع قانون إصلاح النظام التقاعدي، الذي يواصل مجلس الشيوخ مناقشة بنوده.
وما زاد من نقمة النقابات التي نجحت في المحافظة على تماسكها ووحدتها، رفض الرئيس إيمانويل ماكرون الالتقاء معها، الأمر الذي اعتبرته نوعاً من العجرفة والفوقية والتسلط، خصوصاً إنكار وجود حركة الاحتجاج التي لم يلن عودها منذ انطلاقتها قبل عدة أشهر.
وأظهر استطلاع للرأي أُجري لصالح الشبكة الإخبارية «بي إف إم» ونشرت نتائجه أمس، أن 70 في المائة من الفرنسيين يعارضون تعديل نظام التقاعد، بارتفاع بواقع 3 نقاط عن أسبوع سابق. وقال 54 في المائة من 1003 بالغين شاركوا في استطلاع عبر الإنترنت في 9 و10 مارس (آذار) الجاري، إنهم يؤيدون الإضرابات وعرقلة بعض القطاعات لمعارضة تغيير النظام التقاعدي.
وتوقعت مصادر وزارة الداخلية مشاركة نحو مليون شخص في مظاهرات الأمس التي شملت، كما يوم الثلاثاء الماضي، العاصمة باريس والمدن الكبرى والمتوسطة.
ولا يبدو رهان الحكومة على انكفاء الحركة الاحتجاجية والتعب من تواصل المظاهرات وأيضاً الإضرابات التي تطول قطاعات رئيسية مثل النقل على أنواعه والكهرباء والغاز والمشتقات النفطية ورفع القمامة مصيباً.
وفي الأيام الأربعة الماضية، تحولت شوارع مناطق واسعة من العاصمة ومنها أحياؤها الراقية إلى «مزبلة» مفتوحة، حيث تتراكم آلاف الأطنان من القمامة بسبب إضراب عمال النظافة العاملين مع بلدية باريس.
ومنذ ما قبل أمس، قررت النقابات يوم احتجاج لاحق سيحل في 15 الجاري موعد التئام اللجنة المشتركة المشكلة من مجلسي النواب والشيوخ لتصويت أخير على مشروع القانون، وهي المرحلة الأخيرة من مسيرته التشريعية قبل أن يصدر عن رئيس الجمهورية ويتحول إلى قانون نافذ.
ولا يُستبعد أن تلجأ الحكومة، في حال رغبت في تقصير المناقشات، إلى طرحه للتصويت في البرلمان بموجب البند 39 (الفقرة الثالثة) الذي يربط بين نتيجة التصويت وسقوط الحكومة.
ويعد هذا الإجراء بمثابة السيف المسلط على رقبة النواب لأنه سبق للرئيس ماكرون الذي لا تتمتع حكومته بالأكثرية المطلقة في مجلس النواب أن حذر من أن أي خذلان للحكومة في البرلمان سيعني حله، الأمر الذي يتيحه له الدستور.
وتراهن الحكومة على الدعم الذي سيوفره لها حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي لتوفير الأكثرية النسبية (النصف زائد واحد) لتمرير مشروع القانون الخلافي. وثمة من يعتقد من بين المحللين والخبراء السياسيين أن الحركة الاحتجاجية سوف تنطفئ بعد أن يتم تبني القانون، فيما تبدو بعض النقابات مصممة على مواصلة الاحتجاجات حتى بعد إقرار القانون. والاعتقاد الراجح اليوم في الوسط السياسي والإعلامي الفرنسي بأن ماكرون «يريد الاستعجال» وقلب صفحة ملف التقاعد للاهتمام بشؤون وإصلاحات أخرى.
من هنا، ومنذ أن أقر مشروع القانون في مجلس الوزراء ونقل إلى مجلسي النواب والشيوخ، بقي ماكرون في الصفوف الخلفية، مفسحاً المجال لرئيسة الحكومة إليزابيث بورن ووزير العمل أوليفيه دوسوبت لإدارة هذا الملف المتفجر.
ولأن ماكرون يصم أذنيه عن صيحات الشارع، فإن قادة النقابات الذين يحظون بدعم أحزاب اليسار والخضر، دعوا الرئيس الفرنسي إلى إجراء استفتاء لاستشارة الشعب بشأن النظام التقاعدي بدل التلطي وراء البرلمان بمجلسيه. وقال فيليب مارتينيز، أمين عام الكونفدرالية العامة للعمل، القريب من الحزب الشيوعي، إنه «إذا كان ماكرون واثقاً من نفسه، فليعمد إلى الشعب وسنرى ما سيكون جوابه»، مضيفاً أن رفض ماكرون استقبال المسؤولين النقابيين «قد أدخلنا في مرحلة جديدة وضاعف غضبنا».
وفي السياق عينه، قال لوران بيرجيه، أمين عام الفيدرالية الديمقراطية للشغل، القريب من الحزب الاشتراكي والمعروف عادة باعتداله، إنه «يتعين بلا شك الذهاب نحو استشارة الشعب» لتقرير مصير المشروع الإصلاحي. وناشد بيرجيه السلطات الخروج من حالة «إنكار» وجود وواقع الحراك الاجتماعي.
أما فرديريك سويو، أمين عام نقابة «القوة العمالية»، وهي إحدى النقابات الثماني المشرفة على الحراك، فقد نبّه إلى «مخاطر تفاقم» الحراك، مؤكداً أن نقابته ستدعو إلى ثلاثة أيام من التعبئة والمظاهرات والإضرابات لثني الحكومة عن استمرار السير بمشروعها ودفعها إلى سحبه من التداول.
بيد أن هذه الدعوة لا يبدو أنها تلقى إجماعاً. وكان من المقرر أن يلتقي مسؤولو النقابات ليلاً لرسم صورة الحراك للأيام المقبلة وللخطط البديلة.
من جانبه، فإن بونوا تيست، من الفيدرالية النقابية المتحدة، حذر من «الانقلاب الديمقراطي» المتمثل باللجوء إلى المادة 49 ــ الفقرة الثالثة من الدستور، معتبراً أنه «سيؤجج التعبئة». ومنذ البداية، يتهم ممثلو الأحزاب المعارضة في مجلسي النواب والشيوخ الحكومة بـ«تجنب المناقشة الديمقراطية».
هكذا يبدو الوضع في فرنسا بحيث توجد حالة من الانقطاع بين الحكومة والمعارضة، إن في البرلمان أو في الشارع. ولأنه على ما هو عليه، فإن الحراك مستمر. ويوم أمس، شهدت فرنسا مظاهرات وتجمعات في نحو 220 مدينة من جميع الأحجام. وأبرز المظاهرات كانت في باريس حيث شارك قادة النقابات والكثير من النواب وقد انطلقت المظاهرة من ساحة «لا باستيل» إلى ساحة «لا ناسيون».
وبالتوازي مع المظاهرات والإضرابات، واصل مجلس الشيوخ مناقشة بنود المشروع الحكومي ويفترض به أن ينتهي منها منتصف الليل المقبل. ورداً على شكوى المعارضة من أن الحكومة لا تفسح المجال كفاية، لمناقشة بنود المشروع والنظر في التعديلات التي تطرحها المعارضة، قال أوليفيه دوسوبت إن مجلس الشيوخ شهد 74 ساعة من النقاشات، وإنه «مع كل مادة، أصبحت العرقلة خياراً منهجياً» من جانب المعارضة التي طرحت آلاف التعديلات. وبالنظر للازدحام، لم يعطِ كل عضو في المجلس سوى دقيقتين من وقت للكلام.
تبقى الإشارة إلى أن ماكرون ليس في وارد التراجع عن مشروعه الذي يشكل أحد أركان مشروعاته الإصلاحية وقد جاء في برنامجه الانتخابي الرئاسي الربيع الماضي. ويرى المحللون أن تراجعه سيعني فقدان رصيده السياسي. من هنا، حزمه ورفضه استمرار النقاش والجدل. وفي رسالته التي رد فيها على النقابات، عرض مطولاً للمحطات التي قطعها المشروع، معتبراً أن الزمن الحالي لم يعد للمشاورات وإنما للعمل البرلماني التشريعي.
وشهدت المظاهرة الكبيرة في باريس عدداً من المناوشات بين مجموعات ممن يسمون أنفسهم «بلاك بلوك» والقوى الأمنية: من جهة، رشق بالحجارة والقناني الزجاجية وبما توافر بين أياديهم. ومن جهة ثانية، استخدمت القوى الأمنية القنابل الدخانية والمسيلة للدموع والهراوات للرد على هذه المجموعات. ويعترف الجميع بأن النقابات نجحت في المحافظة على الانتظام وسلمية المظاهرات التي تحاول المجموعات الفوضوية استغلالها لاستهداف القوى الأمنية.
عودة التعبئة ضد مشروع إصلاح نظام التقاعد في فرنسا
مئات الآلاف في الشوارع مجدداً... والحكومة ترفض التراجع
عودة التعبئة ضد مشروع إصلاح نظام التقاعد في فرنسا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة