يعود تاريخ فن الرسم بتقنية «ميكسد ميديا» إلى عام 1912، عندما لجأ إليه الفنانون التشكيليون، أمثال بابلو بيكاسو وجورج براك، فأضافوا على لوحاتهم فن اللصق الذي تطور مع الوقت ليتخذ أشكالاً مختلفة، حسب رؤية كل رسام يتبع هذه التقنية.
ويقدم الفنان التشكيلي منصور الهبر بدوره، وضمن معرضه «لو بو نيغاتيف» (السلبي الجميل)، أسلوباً جديداً لهذه التقنية. وانطلاقاً من عنوان معرضه الذي يُقام في «غاليري أرت أون 56» بالجميزة، يلمس زائره رغبة الهبر في الخروج عن المألوف.
وأنت تتنقل في هذا المعرض الذي يستمر لغاية 18 مارس (آذار) الحالي، تلفتك موضوعات لوحات الهبر، فتكتشف أن قراءتها عن قرب تختلف عن الذي تمارسه عن بُعد.
ومع كثير من الارتجالية النابعة من اللاوعي عنده، تتصفح أدوات فنية لا تشبه غيرها؛ فهو أراد من خلالها أن يبرز جمال السلبي، لأنه أيضاً يملك ما يميزه عن غيره. ولذلك ركن إلى أنامله كي يخرج صوراً عفوية تتوالد عنده عندما يبدأ بالرسم؛ فمع الريشة قد تتخذ اللوحة أشكالاً محددة من السهل توليفها في ذهنك. ومن خلال بصمات يديه المغطسة بألوان زاهية، ولكنها غير فرحة، تلحق بأفكاره السابحة في فضاء لا حدود له. «قد ألجأ إلى الريشة، ولكن في مرات قليلة، لأن تفاعل اللوحة مع أناملي يأخذني إلى مطارح أجمل».
ويوضح لـ«الشرق الأوسط»: «في لوحاتي نوع من الفنون غير تقليدي وبعيد عن المألوف. وتكمن جمالية هذا الأسلوب في استبدال جمالية غير متوقعة بأخرى».
حتى الأسماء التي اختارها الهبر للوحاته لم تأتِ بالصدفة، كما يقول؛ فهي تعبر عن فكر خيالي يتعلق مباشرة بالسلبي الجميل. وهذه العناوين تتراوح بين «لا ينتسى» و«جيو بارادي» و«المستحيل» و«الليل الذهبي» و«الفارغ» وغيرها.
مساحات كبيرة وأخرى صغيرة ملونة تحتويها لوحات منصور الهبر. وعمد فيها إلى استخدام الزاهية منها، مثل الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر. وعلى الرغم من ذلك، تتوشح اللوحات بالأسود ومشتقاته من بني وزيتي، كلها تبرق من بعيد بفعل استعماله مادة لماعة فوقها تزينها (فرنيش). ومرات أخرى يستخدم خلفية اللوحة كما هي لإحياء مساحات مضيئة. وتلفتك أيضاً الألوان الجلدية، فتشعر وكأنك أمام لوحة من لحم ودم اعتمدها بدل الوجوه والأجساد بصورها العادية.
وفي إحدى اللوحات، «جيو بارادي»، يبهرك الزهري السائد فيها فيعود معها ناظرك إلى عالم الطفولة. ويعلق الهبر، وهو أستاذ في جامعة «ألبا» للفنون الجميلة: «انظري إلى هذه الجراح التي تجتاح الزهري للتعبير عن تراجيديا معينة؛ فهذه هي الحياة في الواقع، تتراوح بين الحلو والمر، يتداخلان عن غير قصد».
وفي لوحة «امبرسونيل» منظر طبيعة خلابة فيها الشلالات المائية وصخور بيضاء ومشهدية مشبعة بالعذرية. وعندما تقترب منها تغيب عنها هذه التفاصيل لتكتشف أخرى مبهمة. «هذا التناقض الذي ألعب عليه في لوحاتي وليد السلبية الجميلة التي أتحدث عنها في معرضي؛ فحتى هذه المشهدية ثلاثية الأبعاد ولدت معي ارتجالياً، وليس عن سابق تصور وتخطيط؛ فعندما أبدأ برسم لوحتي أشبه نفسي بقائد الأوركسترا الذي يعرف وحده كيف يوزع المهام على فرقته. وهذا التوالد للأفكار غير المتوقع والمتناقض في آن يؤلف هذه المشهدية الغامضة؛ فأنا لستُ بحاجة إلى أشكال معينة كي أترجم مشاعري من خلال ملامح وجه أو صورة واضحة».
كل ما تراه في لوحات منصور الهبر يأتي من الأعماق، لأن طبيعة عمله تميل نحو الداخل أكثر من الخارج الذي نصادفه كل يوم. «لقد أخذت هذا الخارج إلى عالمي الداخلي، وقدمته عبر اللاوعي الذي يقودني خلال رسمي للوحاتي. وهذه المهمة تُعدّ صعبة، نسبة إلى غيرها، تضع إطارها الريشة ببساطة ولا تتطلب منا الكثير لاستيعابها. ولذلك لدي النية دائماً في الارتجال من خلال حواسي مجتمعة مع عقلي، وهو عمل مبني على اللاوعي الذي سبق أن تحدثت عن أهميته في أعمالي».
فهذا الجمال المتعارف عليه الذي يمكننا تحديد عناصره بسرعة أزاحه منصور الهبر عن الواجهة مستغلاً تقنية «ميكسد ميديا»، كي يغني لوحاته بعناصر جمة؛ فالمشاعر على أنواعها، من حزن وفرح وقلق وحب وغيرها، تحضر ضمن الفن التجريدي في صور إبداعية. ويتمسك الهبر بتحريرها من قيود مختلفة؛ فيكسرها بأنامله الثائرة بصمت.
«لو بو نيغاتيف» لمنصور الهبر... الهروب من المألوف بأسلوب ارتجالي
يتضمن نحو 16 لوحة بتقنية «ميكسد ميديا»
«لو بو نيغاتيف» لمنصور الهبر... الهروب من المألوف بأسلوب ارتجالي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة