عيش أنقرة أجواء سياسية شديدة السخونة على وقع الموقف الصادم لرئيسة حزب «الجيد» ميرال أكشينار، التي أعلنت رفضها ترشيح «طاولة الستة» زعيم المعارضة رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كليتشدار أوغلو للرئاسة، مرشحاً مشتركاً للمعارضة في الانتخابات المقررة في 14 مايو (أيار) المقبل.
وطوال ليل الجمعة عقدت اجتماعات مكثفة استمرت اليوم (السبت) داخل مقري حزبي «الشعب الجمهوري» و«الجيد»، وهما بالأساس طرفا «تحالف الأمة» المعارض، لبحث التعامل مع الأزمة التي فجرتها أكشينار الملقبة بـ«المرأة الحديدية»، التي اعتبرت بمثابة انفصال عملي عن «طاولة الستة»، وكذلك النداء الذي وجهته إلى رئيسي بلديتي أنقرة منصور ياواش، وإسطنبول أكرم إمام أوغلو، للقيام بواجبهما وإعلان الترشح للرئاسة، مؤكدة أنهما لا يمكن أن يرفضا هذا التكليف لأنه مطلب الشعب التركي.
وبدأت سلسلة الاجتماعات المكثفة باجتماع عقده ياواش وإمام أوغلو، ثم انضم إليهما رؤساء بلديات إزمير وأضنة ومرسين. وقدم كل من ياواش وإمام أوغلو ردهما بالرفض على دعوة أكشينار عبر تغريدتين على «تويتر». وجاء في البيان الأول من منصور ياواش، الذي كتب: «لقد ذكرنا أننا لن نتصرف ضد إرادة رئيسنا السيد كمال كليتشدار أوغلو، نحن على الخط نفسه».
بدوره، كتب إمام أوغلو: «أنا ابن حزب الشعب الجمهوري، وكذلك رئيس بلدية إسطنبول عن (تحالف الأمة)، ليس لدي أدنى شك في أن رئيسنا كمال كليتشدار أوغلو و(تحالف الأمة)، اللذين يمثلان إرادتنا على طاولة الستة، سوف ينموان من دون أن يتضاءلا... أعتقد أنهم سيظهرون لأمتنا أنهم ليسوا يائسين أو وحيدين... (تحالف الأمة) هو اتحاد سياسي تأسس مع الإرادة لجعل الدولة فعالة وديمقراطية والمجتمع سلمياً وثرياً، من خلال تحمل مسؤولية كبيرة في وقت صعب يمر به شعبنا. أعتقد أنهم سيظهرون لأمتنا أنهم ليسوا عاجزين أو يائسين أو وحيدين».
رسالة قوية
صباح السبت عقد كليتشدار أوغلو اجتماعاً مع رؤساء 11 بلدية ينتمون إلى الحزب، بينهم ياواش وإمام أوغلو، تأكيداً لوحدة الصف داخل «الشعب الجمهوري».
في الوقت ذاته، يعقد المجلسان التنفيذيان لحزبي «الشعب الجمهوري» و«الجيد» اجتماعين بمقر الحزبين، لتدارس الموقف على ضوء تحرك أكشينار الأخير، الذي وصف من جانب المحللين بأنه «زلزال سياسي» سحب الاهتمام من الحدث الأكبر، وهو كارثة الزلزال التي تعيشها تركيا منذ 6 فبراير (شباط) الماضي.
وكان كليتشدار نشر فيديو عبر حسابه على «تويتر» في ساعة متأخرة من ليل الجمعة، حمل رداً على موقف أكشينار، شبه فيه «طاولة الستة» بأنها مثل «مائدة الخليل إبراهيم» تتسع للجميع، منتقداً أسلوب أكشينار، التي نعتت «طاولة الستة» بأوصاف صادمة، قائلاً: «الألعاب السياسية والفظاظة ولغة إردوغان (في إشارة إلى الأسلوب الهجومي الحاد للرئيس رجب طيب إردوغان ضد المعارضة) ما كان ينبغي أن يكون لها مكان على هذه الطاولة».
وكانت أكشينار قالت: «إننا لن نقبل بأن نجلس على طاولة قمار أو طاولة كاتب عدل أو مائدة تتحكم فيها الطموحات الشخصية والحسابات الصغيرة، وإننا كنا دائماً مع إرادة الأمة وسنواصل الوقوف في موقعنا».
ورد المتحدث باسم حزب «الجيد» كورشاد زورلو، على كليتشدار، قائلاً: «الالتزامات التي قطعناها على أنفسنا ولأمتنا بقولنا إن المصالحة والتشاور واختيار الشعب هي مصدر الثقة بالنسبة لنا هي ما نلتزم به... اعتراضنا الرئيسي هو على فرض وتجاهل هذه المبادئ. الحزب عازم على أن يكون مهندس الطاولة النهائية التي ستفوز بها الأمة».
وادعى «الجيد» أن أكشينار لم تغادر «طاولة الستة»، بل فرض عليها أن تغادرها، وقال نائب رئيس الحزب جيهان باششجي، الذي عاد إلى عمله بالحزب بعد أن أعلن منذ أشهر استقالته اعتراضاً على احتمال ترشح كليتشدار أوغلو للرئاسة، إن أكشينار لم تغادر الطاولة، بل فرض عليها ذلك من جانب القادة الخمسة الآخرين.
وعن احتمالات أن يدفع حزبه بمرشح رئاسي، قال باششجي إن أكشينار تملك الفرصة للفوز، لكنها أعلنت من قبل أنها لن تترشح، ولذلك لا نعلم حتى الآن ما هي الخطوة التالية.
لا ضغوط على الطاولة
وأصدر حزب «الديمقراطية والتقدم» برئاسة علي باباجان، بياناً رد فيه على تصريحات أكشينار، التي قالت إن حزبها اضطر لمغادرة «طاولة الستة» لرفضه الرضوخ لفرض الرأي، مؤكداً أنه «لم يضطر أي حزب إلى تبني موقف لا يقبله موقفه السياسي وقاعدته الحزبية، ومن الواضح أنه في مثل هذا الأسلوب القائم على الاحترام المتبادل، لن يكون هناك فرض. العبارات الاتهامية، التي لا تعكس الحقيقة ولا تستند إلى الفطرة السليمة وتفتقد إلى اللياقة، لم تكن صحيحة». وأضاف: «لقد اتخذنا خطوات مهمة خلال العمل الذي نقوم به طوال العملية برمتها، واصلنا العمل بالحكمة والتشاور والمصالحة المشتركة إيماناً منا بأنه سيحقق العدل والسلام والازدهار لأمتنا وللأجيال القادمة... لقد تصرفنا بإيمان بأن هذا هو السبيل الوحيد لشعبنا، الذي غرق في عمق الأزمة الاقتصادية، متعطشاً للعدالة بعد أن حرم من حقه في العيش بكرامة، وواجه كارثة زلزال عنيف، ليتنفس بشكل مريح... نحن نقف وراء جهودنا لجعل نهج الإدارة الديمقراطية بالكامل هو المسيطر. في هذه العملية التاريخية، تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية كبيرة. سنواصل العمل بكل قوتنا لإخراج تركيا من هذه الصورة القاتمة التي وقعت فيها وإنقاذها من الذهنية الاستبدادية».
كما أصدر رئيس حزب «المستقبل» أحمد داود أوغلو، بياناً نشره موقع الحزب، قال فيه: «مشروع السلام الاجتماعي لا يعرف الحسابات السياسية، وإن (تحالف الأمة) هو فوق كل الحسابات السياسية، إذا فاز المرشح الرئاسي، فإن الفطرة السليمة ستسود... بصفتنا حزب (المستقبل)، فإن تحالفنا هو للوطن وليس لرئاسة شخص، أو سلطة حزب أو تحالف مجموعة أحزاب، بل مشروع اجتماعي يستمد قوته من ضمير وطني عميق وتراكم وخبرة قرنين من التاريخ السياسي. إن نجاح وتصميم مشروع السلم الاجتماعي هذا، الذي يتحدى استراتيجية الاستقطاب للحكومة ويعد مصدر أمل كبير لأمتنا، هو فوق كل الحسابات السياسية».
استهجان لموقف أكشينار
وقوبل موقف أكشينار باستهجان واسع من الشارع التركي، ظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروا أنها لم تكن تعمل لصالح البلاد أو لمصلحة الشعب، وأن تصرفها يعد «خيانة» ليس لأحزاب المعارضة فقط وإنما لتركيا كلها.
ورأي محللون أن أكشينار لم تكن مخلصة للمبادئ الأساسية التي قامت على أساسها «طاولة الستة»، التي تمثلت في العودة إلى النظام البرلماني وتخليص البلاد من نظام الحكم الرئاسي الفردي، لكن أكشينار حولت الأمر مع أول اختبار إلى صراع شخصي على موقع الرئاسة.
وانتقد المحلل السياسي مراد يتكين، موقف أكشينار، قائلاً إنها تحركت بانفعال وبدوافع عاطفية وليس كسياسي صاحب خبرة طويلة، مشيراً إلى أنها تعهدت أكثر من مرة في السابق بأنها لن تكون سبباً في هدم طاولة الستة، متسائلاً: «الآن... هل تستطيع العودة إلى الطاولة بعد كل هذه التصريحات والأسلوب الحاد، وإذا لم تعد وترشح كليتشدار أوغلو ووصل إلى الجولة الثانية منافساً لإردوغان، لمن سيصوت حزبها: لصالح كليتشدار أوغلو، أم لصالح إردوغان، الذي تأسست الطاولة لمحاولة إنهاء حكمه وتغيير النظام، وهل دخلت أكشينار الطاولة على أساس المبادئ أم لمحاولة فرض مرشح بعينه».
وقال الدكتور باريش دوستر، الأستاذ بجامعة مرمرة في إسطنبول لـ«الشرق الأوسط»، إن أكشينار تصرفت بما يخالف ما تحدثت عنه على مدى عام، كما خالفت قواعد الديمقراطية داخل طاولة الستة، فإذا كانت الأحزاب الخمسة الأخرى قبلت بترشيح كليتشدار أوغلو فقد كان عليها أن تقبل برأي الأغلبية، لكنها تريد فرض إرادتها، وأوضح سلوكها وتصريحاتها أنها هي صاحبة الحسابات الصغيرة والطموحات الشخصية وليس الأحزاب الأخرى.
موجة استقالات
وضربت موجة استقالات واسعة حزب «الجيد» الذي ترأسه أكشينار، وأعلن بولنت غورصوي، مستشار سياسات الشرق الأوسط بالحزب والعضو السابق في المجلس الإداري، استقالته ودعمه ترشيح كليتشدار أوغلو للرئاسة. وأصدر بياناً قال فيه: «في عملية تاريخية، جاءت أكشينار بقرار قضى على آمال المجتمع قبل انتخابات تعد حاسمة لمستقبل تركيا المشرق. بحكم الأمر الواقع هناك مسألتان بشأن قرار حل (تحالف الأمة) وتعطيل الجدول السداسي، هما عدم القدرة على فهم الخلفية والجهات الفاعلة والعوامل الكامنة وراء هذا القرار، واتخاذ القرارات التي تعذر حل مصدرها وسببها في العامين الماضيين وكسر اللعبة من خلال مطاردة مفهوم الشعبوية».
أضاف أرصوي: «أعلن استقالتي من الحزب بسبب مقاربة رئيسته التي أضاعت نضالاً استمر لسنين، وأؤكد دعمي لترشيح السيد كمال كليتشدار أوغلو، الذي أظهر نجاحاً كبيراً في النضال من أجل وقف التدهور الذي تسبب فيه حزب (العدالة والتنمية) الحاكم، وأعتقد أنه الأكثر كفاءة من بين الجهات الفاعلة الحالية في تلبية الاحتياجات الاجتماعية في الفترة المقبلة».
ورصدت مواقع التواصل الاجتماعي استقالة أكثر من 70 ألفاً من أعضاء «الجيد» من خلال متابعة موقع الحكومة الإلكترونية (إي دولة) في القسم المتعلق بالاستقالات... وتوالت تغريدات «أنا أستقيل» من جانب أعضاء الحزب.
صعود كليتشدار أوغلو
وتعليقاً على تصريحات أكشينار وهجومها على طاولة الستة، أكد الخبير في استطلاعات الرأي، مراد جيزيتشي، مدير شركة «جيزيتشي» المرموقة لاستطلاعات الرأي في تركيا، أن خطوة أكشينار عززت فرص كليتشدار أوغلو، الذي بات مؤكداً أنه يمكن أن يصبح مرشحاً رئاسياً يتمتع بفرصة الفوز بالرئاسة.
وتوقع جيزيتشي أن يكون هذا التطور ربما أثار قلق الرئيس رجب طيب إردوغان، بعض الشيء، لأن ترشيح كليتشدار أوغلو لم يكن ليحظى بهذا القدر من الدعم من الجمهور، إذا تم الإعلان عن دعم قادة طاولة الستة له مباشرة على تلك الطاولة في هذه اللحظة، مشيراً إلى أن كليتشدار أوغلو حصل على إعلان ضخم بالمجان، وسيكون هو الشخص الذي سيحقق الفوز، وإذا اجتاز باقي قادة الطاولة الآخرين هذه الأزمة جيداً، فسيعطي هذا انطباعاً بأنهم سيديرون الدولة بشكل جيد، هذا اختبار مهم، وسيدخل كليتشدار أوغلو التاريخ باعتباره الشخص الذي تمكن من الفوز في هذه الظروف.