أفلام الهجرة العربية إلى أوروبا... تاريخ لا يتوقف

«لأجل بلدي» يطرق الموضوع من زاوية جديدة

اثنان في محنة واحدة: «لندن ريفرز» (ثري بي برودكشن)
اثنان في محنة واحدة: «لندن ريفرز» (ثري بي برودكشن)
TT

أفلام الهجرة العربية إلى أوروبا... تاريخ لا يتوقف

اثنان في محنة واحدة: «لندن ريفرز» (ثري بي برودكشن)
اثنان في محنة واحدة: «لندن ريفرز» (ثري بي برودكشن)

في الفيلم الجديد لرشيد حامي «لأجل بلدي» (For My Country) عرض جيد لموضوع يمكن اعتباره واحداً من مواضيع عديدة تمسّ الجاليات العربية التي هاجرت إلى فرنسا. على الأقل، يأتي الفيلم بحكاية مختلفة عما سبق لرشدي زم ورشيد بو شارب والناصر قطاري وكوثر بن هنية، وسواهم طرحه من مواضيع تخص الهجرة من البلدان الواقعة في شمال أفريقيا إلى تلك الأوروبية، وخصوصاً فرنسا.
وُلد رشيد حامي في الجزائر سنة 1985 وقبل سبع سنوات قام بعرض فيلمه الأول. «أوركسترا كلاس» في مهرجان فينيسيا وعاد المخرج إلى المهرجان ذاته بفيلم آخر عنوانه «حكايات من تايبي» قبل أن ينتهي من تحقيق فيلمه الطويل الثالث الذي عرضه كذلك في ذلك المهرجان الإيطالي الكبير.

نار صديقة
يوفّر «لأجل بلدي» لمشاهديه حكاية مجند جزائري، اسمه عيسى (شاهين بومدين) قُتل بالخطأ على أيدي رفاق السلاح الفرنسيين. والدته ناديا (لبنى أزابال) وشقيقه الأكبر إسماعيل (كريم لقلو) يحاولان حث الأكاديمية الفرنسية على دفن الراحل في مقبرة مخصصة لتكريم الذين سقطوا خلال الواجب. لكن القيادة الفرنسية تُمانع في ذلك لأن القتيل لم يسقط في معركة. هناك أخذ ورد (من دون تكرار) حول هذه النقطة ثم نجاح الأم وابنها إسماعيل في دفع المسؤولين لقبول صلاة الجنازة الإسلامية الشرعية ودفنه حيث رغبت العائلة دفنه.
هذا الخط الممتد في وسط ما نراه من أحداث، لكنه ليس الخط الوحيد. «لأجل بلدي» يتناول كنه العلاقة الأخوية والعائلية التي ربطت بين الأم وولديها وبين الثلاثة والأب الذي كان رفض، خلال العقد الأسود في تاريخ الجزائر القريب (التسعينات حين انتشرت أحزاب التطرّف)، الانتقال إلى فرنسا مع زوجته وولديه، مما نشأ عنه قطيعة كاملة.
يستخدم الفيلم «الفلاش باك» لسرد هذا الوضع، وكذلك لتخصيص علاقة الشقيقين ببعضهما بعضاً، وذلك من خلال زيارة إسماعيل لشقيقه المنتدب إلى تايوان وتعرّفه على عادات وتقاليد اجتماعية مختلفة. قليل من اضطراب العلاقة لكن الكثير من دفئها العائلي، مما يبرر غضب إسماعيل من الإجراءات الفرنسية التي كادت أن تنتهي بدفن شقيقه على نحو غير لائق به.
هذا موضوع شائك لا يعالجه المخرج سياسياً (وحسناً فعل) لأنه لا ينوي تنميط الشخصيات ودخول متاهات تفضي إلى فيلم آخر غير الذي في باله. سرد كلاسيكي النزعة، لكنه متين الحضور، وتمثيل جيد من الجميع بلا تفاوت. بعض الفتور في مشاهد دون أخرى، لكن الفيلم يمضي في وجهته بلا مشاكل تُذكر.

لقطة من «لأجل بلدي» (ميزار فيلم)

الخوف
يبقى بالطبع أنه، في صميمه، عن مهاجرين من إحدى دول المغرب العربي، وبذلك ينضم إلى عدد متزايد من الأفلام التي تطرح مشاكل الهجرة من زوايا مختلفة. أحد الجنود المجهولين في هذا الوضع هو المخرج عبد الكريم بهلول، الذي تعرّض لعرب فرنسا منذ سنة 1984 عندما قدّم «شاي بالنعناع»، حيث لا تؤتي الهجرة ثمارها. بعد أن كتب لرشيد بوشارب سيناريو فيلم «شاب» (1991) عرج بهلول إلى موضوع الهجرة من جديد في «مصاص دماء في الجنة» (1992) إنما بحبكة مختلفة: فتاة فرنسية من عائلة برجوازية تبدأ فجأة التكلم بالعربية من دون دراستها لها. هذا التحوّل ربطه المخرج بشاب عربي (فريد شوبل) ربما يكون مصاص دماء، لكنه واحد من الذين لا ينوون الشر لأحد.
في آخر أفلامه، «رحلة إلى الجزائر» (2009) قام برحلة عكسية لامرأة وأولادها الراغبين في العودة إلى الجزائر.
قبل ذلك، في سنة 1976. قام التونسي النصر قطاري بتقديم فيلم «السفراء»، وهو ما زال أفضل فيلم حققه لليوم: دراما حول مهاجرين من مختلف دول المغرب العربي وكيف أن مجاورتهم لعائلات وأسر فرنسية لديها عاداتها وثقافاتها ليس بالأمر السهل مطلقاً.
قبله بعامين عرض الألماني رينر فرنر فاسبندر فيلم «الخوف يأكل الروح» عن المواجهة الصعبة ذاتها بين مهاجر من المغرب (الهادي بن سالم) والبيئة الألمانية. هو رجل أعجبت به امرأة تعدت مرحلة الشباب (بريجيت ميرا) وواجهت وإياه مصاعب العيش معاً في جو عنصري متوقع. علي يشاركها الخوف من مستقبل بل لديه مخاوف أخرى. هي تستطيع البقاء في وطنها، لكنه إن بقي معها أو من دونها سيبقى غريباً.
منذ ذلك الحين توالت تلك الأفلام التي تتحدّث عن ألم الهجرة أو عن وقائع حقيقية ألمّت بمهاجرين عرب في محيط أوروبي معقّد.
قام رشيد بو شارب سنة 2006 بتحقيق فيلمه الجيد «أيام المجد»، عن العرب الذين شاركوا الفرنسيين تحرير فرنسا من النازية وتم تهميش مشاركتهم فيما بعد. ثم عرض، سنة 2009. في «نهر لندن» لسنغالي وصل إلى لندن بعدما بلغه موت ابنه في تفجير إرهابي. يلتقي هناك بأم بريطانية خسرت بدورها ابنها في الحادثة ذاتها. لم يكن عن مشكلة الهجرة لكن عن البيئة التي قد تفرز الحب والتفاهم أو الكراهية والبغضاء.

من خشب هش
العراقي قتيبة الجنابي خصّ نفسه بأفلام ثلاثة تتحدّث عن وضع لاجئ هارب من نظام عربي يلاحقه رجال ذلك النظام وظلال تلك الفترة السابقة. أفضل تلك الأفلام «قصص العابرين» (2017) كونه أنجز رؤية وأسلوب سرد خاصّين به. عرض لذاكرة المخرج المرهقة لحياته في العراق ثم بذلك الخوف الكبير الذي لاحقه عندما فرَّ صوب أوروبا (حط في أكثر من بلد) بحثاً عن أمان صعب. وهو استكمل الثلاثية قبل عامين بفيلم «رجل من خشب» طارحاً أن بطله ذاك تحوّل إلى شكل آدمي مؤلف من خشب هش بعدما استمر سعيه للبحث عن موطن آمن في بلاد لا ترغب فيه أو هرباً من فلول الأمس. تلك الفلول لها وجود في فيلم سمير جمال الدين «بغداد في مخيّلتي». مثل الجنابي، قام جمال الدين بتقديم أكثر من فيلم سابق (بينها «أوديسا عراقية») حول الشتات العراقي في بلدان الغرب. لكن في «بغداد في مخيّلتي» (2019) سرد أوضاع عراقيين (وبعض العرب الآخرين) في مدينة لندن. مهاجرون أغلبهم طيّبون مع مشاكل يتعرّضون لها من فلول الماضي.
ما سبق وسواه يدلف بنا إلى فيلم كوثر بن هنية «الرجل الذي باع ظهره» (2020) الذي انتهج حكاية جديدة: سوري حط في بيروت ومنها إلى بروكسل بعدما رضي بأن يبيع ظهره لفنان بلجيكي. ليس أن الحكاية برمّتها خلت من مواقف غير قابلة للتصديق، لكن الفيلم سجّل، فيما سجّل، وجهاً آخر من وجوه هجرة صعبة تشبه اقتلاع شجرة تنمو في الصحراء لزرعها في أرض شمالية باردة.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.