لم يبدد الاتفاق الأخير الذي توصل إليه الاتحاد الأوروبي وبريطانيا حول إيرلندا الشمالية شعوراً متنامياً في أرجاء المملكة المتحدة بالندم على الخروج من الاتحاد «بريكست»، إلى درجة أن صنّاع الرأي العام ابتدعوا تعبيراً جديداً – وهم بارعون في ذلك – هو «بريغريت» Bregret، يلخّص إلى حد كبير حصيلة السنوات الثلاث الماضية.
حلّ الاتفاق الذي توّجه لقاء بين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لايين ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك قبل أيام، عقدة حركة السلع على الحدود البرية الوحيدة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، أي مقاطعة إيرلندا الشمالية البريطانية وجمهورية إيرلندا «الأوروبية»، وبالتالي تمكن الجانبان من تجنّب تعكير العلاقة بين بلفاست ولندن وقيام حدود برية مادّية بين الإيرلندتين كانت لتهدد اتفاق السلام الذي أوقف العنف في إيرلندا الشمالية منذ العام 1998، بعد عقود من الاضطرابات الدامية...
بوريس جونسون أحد كبار المروّجين لـ«بريكست» (أ.ف.ب)
في حين دأب رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون على إلقاء اللوم على الجائحة في الأداء الاقتصادي السيئ للبلاد، لم تعد التعمية ممكنة الآن. ففيما كانت حكومة سوناك تحتفل بذكرى دخول «بريكست» حيز التنفيذ في 31 يناير (كانون الثاني) 2020، وتهنئة نفسها على «شق الطريق كدولة مستقلة بثقة»، نشر صندوق النقد الدولي توقعاته التي تقول إن اقتصاد المملكة المتحدة سيكون الوحيد من بين الاقتصادات الرئيسية في العالم الذي يدخل حالة ركود عام 2023 ، والوحيد الذي لم يعد إلى حجمه الذي كان عليه قبل جائحة «كوفيد – 19».
في 23 يونيو (حزيران) 2016، أجرت حكومة ديفيد كاميرون استفتاء على خيارين: البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه. وظن الزعيم الأسبق للمحافظين – الحزب الذي لا يزال حاكماً – أن الخيار الطبيعي سيكون البقاء، وبالتالي سيتمكن من الحصول على دعم الشعب لإسكات خصومه من داخل حزبه وخارجه، ويواصل الرحلة مع الشركاء الأوروبيين «القارّيين». غير أن مزاج البريطانيين كان في مكان آخر، فصوّتت نسبة 51.89 في المائة من المقترعين مع الخروج ونسبة 48.11 في المائة مع البقاء...
في حصيلة مجمّعة لاستطلاعات رأي أُجريت أخيراً، عبّرت غالبية واضحة من الشعب البريطاني تقدَّر بنسبة 57 في المائة عن الرغبة في العودة إلى الاتحاد الأوروبي. وفي استطلاع لمؤسسة «فوكال داتا»، تبيّن أن واحداً من كل خمسة صوّتوا لمصلحة «بريكست» قبل سبع سنوات، غيّر رأيه وسيصوّت عكس ذلك في حال إجراء استفتاء الآن. وعدد هؤلاء إذا عُمّمت نتيجة الاستطلاع على البلاد يبلغ 3 ملايين شخص.
*خسائر...
لا شك في أن غالبية الدول تواجه مشكلات اقتصادية ناتجة عن آثار الجائحة وتداعيات الحرب في أوكرانيا، فالتضخّم عميم، وسلاسل التوريد مضطربة، وعدم اليقين مسيطر... إلا أن ذلك لا يلغي أرقاماً ووقائع نافرة ومعبّرة في ما يخص بريطانيا...
بعد إعادة فرض الضوابط والقيود الجمركية، خسرت التجارة البريطانية 15 في المائة من حجمها، وهذا أمر متوقّع لأن الاتحاد الأوروبي بدوله السبع والعشرين هو الشريك التجاري الأكبر للمملكة.
يضاف إلى ذلك أن سلاسل التوريد في بريطانيا عُرقلت والاستثمار تباطأ. وحصل نقص فادح في العمالة مع نهاية حرية تنقّل الأفراد مع الاتحاد الأوروبي. وكانت النتيجة الحتمية لذلك ارتفاع التضخم، وما زاد الطين بلة ارتفاع كلفة الاقتراض، وبالتالي الاستثمار، عقب قرارات كارثية اتخذتها رئيسة الوزراء ليز تراس عندما حاولت إقرار موزانة مصغّرة، اضطرت بعدها للاستقالة، فدخلت «10 داوننغ ستريت» في 6 سبتمبر (أيلول) 2022 وخرجت منه (مقر رئاسة الوزراء) في 25 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه.
وعموماً يقدّر الخبراء، ومنهم الجهاز الحكومي مكتب مسؤولية الموازنة، أن الناتج المحلي الإجمالي خسر 4 في المائة من حجمه بسبب «بريكست»، أي نحو 100 مليار جنيه استرليني...
وفيما كانت لندن من أكبر المراكز المالية في العالم على مدى قرنين من الزمان وأكبر مركز مالي في أوروبا، دفع «بريكست» الكثر من العاملين في القطاع المالي للانتقال إلى باريس وسواها، إلى درجة أن العاصمة الفرنسية أصبحت تتحدى لندن في هذه المجال.
عطفاً على ذلك، انحفض الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة المتحدة من نسبة 4 في المائة عام 2010 إلى 1.7 في المائة عام 2021. وأورد تقرير صادر عن كلية لندن للاقتصاد LSE ، أن الأسر ستتحمل العبء الأكبر من تكاليف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل.
رفوف فارغة في متجر سوبرماركت بشرق لندن (أ.ف.ب)
*ماذا بعد الندم؟
لطالما بنى معارضو وجود بريطانيا ضمن العائلة الأوروبية منذ انضمامها إلى الاتحاد في 1 يناير 1973، معارضتهم على رفض الخضوع لسياسات بروكسل حيث مقر المفوضية الأوروبية. ولذلك، على سبيل المثال، رفض البريطانيون اعتماد العملة الأوروبية الموحدة اليورو وتمسكوا بالجنيه الاسترليني رمزاً لحرية القرار الاقتصادي.
لكن الأرقام، والتململ الاجتماعي المتمثل في سلسلة من الإضرابات، ونقص بعض السلع الأساسية كما حصل أخيراً في ما يخص الفواكه والخضار، وارتفاع نسبة التضخم إلى أكثر من 10 في المئة حالياً، كلها أدلة على أن «بريكست» خطوة فاشلة، أقله اقتصادياً.
في ظل هذا الواقع، يحاذر الساسة البريطانيون الاعتراف بخطأ الخروج من الاتحاد الأوروبي. فالانتخابات العامة موعدها عام 2025، وحزب المحافظين المتأخر في استطلاعات الرأي لا يملك الشجاعة لمصارحة الناس، مخافة أن يخسر المزيد كونَه ربّان السفينة التي أبحرت منذ العام 2016 في بحر هائج. في حين أن كير ستارمر، زعيم حزب العمال المتربّص والمتحفّز لقطف ثمار النصر المنتظَر والعودة إلى الحكم، لن يجازف باتخاذ مبادرات وإعلان مواقف كبيرة في هذا الموضوع الشائك، متكلاً على تعثر خصمه ومنتظراً سقوطه على أرض حلبة الانتخابات...
لكنّ أكاديمياً مثل البروفسور ماثيو غودووين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كنت، يقول من منطلق موقعه الأكاديمي: «بريغريت يترسخ في بريطانيا» حيث يعتقد شخص واحد فقط من كل خمسة أن الأمور تسير على ما يرام.
ويرى غودووين وسواه من المراقبين أن أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هم الآن الأقلية، ولا يعرفون بالضبط على من يقع اللوم في ما آلت إليه الأحوال.
لعل الصحافية ليز كوكمان لخّصت الوضع الحالي في بريطانيا بكثير من السوداوية عندما كتبت في «فورين بوليسي»: « وعد مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باستعادة السيطرة. لكن القرار أدى بدلاً من ذلك إلى الركود والتشاؤم واليأس».
وثمة ملاحظة أخيرة يجدر بنا سَوقها، وهي أن اسكتلندا التي تشكل جزءاً من المملكة المتحدة منذ العام 1707، قد تعمد إلى إجراء استفتاء ثان على الاستقلال، لأن 62 في المائة من ناخبيها صوّتوا عام 2016 لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي... في الاستفتاء الذي أًجري عام 2014، اختار 55 في المائة من المقترعين الاسكتلنديين البقاء تحت التاج البريطاني، و45 في المائة الاستقلال... من يدري ماذا ستكون نتيجة استفتاء جديد إذا قبلت لندن بإجرائه؟
بريطانيا من «بريكست» إلى «بريغريت»... هل ينفع الندم؟
بريطانيا من «بريكست» إلى «بريغريت»... هل ينفع الندم؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة