في الخطاب الذي ألقاه مساء الاثنين في قصر الإليزيه، وكرّسه لرؤيته للعلاقة المستقبلية بين فرنسا والقارة الأفريقية، كانت الأوساط العسكرية تترقب ما سيعلنه إيمانويل ماكرون بشأن مصير الحضور العسكري الفرنسي في القارة السوداء؛ لما له من أهمية سياسية وعسكرية واستراتيجية.
وتلفت أوساط عسكرية معنية النظر إلى نقطتين رئيسيتين: الأولى، أن الحضور العسكري الفرنسي الراهن يتركز في بلدان أفريقية كانت سابقاً مستعمرات فرنسية. والأخرى، أنه وليد اتفاقيات دفاعية تعود لعشرات السنوات بين باريس ومستعمراتها السابقة، بعد حصولها على الاستقلال، وبالتالي فإن هذا الحضور يعكس النفوذ الفرنسي وغايته الأولى الدفاع عن المصالح الفرنسية في أفريقيا.
وتعتبر هذه الأوساط، بالتوازي، أنه لا يمكن التستر على الدور الذي لعبته هذه القواعد في المحافظة على الأنظمة السياسية القائمة التي تلائم غالباً المصالح الفرنسية.
وجاءت التطورات الأخيرة التي أفضت إلى انسحاب قوة «برخان» من مالي وقوة «سابر» من بوركينا فاسو، ووصول عناصر ميليشيا «فاغنر» إلى جمهورية وسط أفريقيا ومنطقة الساحل (مالي وبوركينا فاسو) والدعاية القوية المعادية لباريس، والمظاهرات التي تشهدها بين الحين والآخر في عدد من العواصم، الأفريقية لتدفع السلطات الفرنسية إلى إعادة النظر في السياسات السابقة التي لم تعد منتجة. يضاف إلى ما سبق أن المنافسة الروسية والصينية والتركية فعلت فعلها، بحيث لم تعد فرنسا «الآمر الناهي» حتى في البلدان التي كانت سياساتها وأسواقها ومواردها الطبيعية معقودة اللواء لفرنسا.
ما زالت القوات الفرنسية، بعد تخليها عن قواعدها في مالي (الصيف الماضي) وبوركينا فاسو (منتصف فبراير/شباط)، حاضرة بقوة في دولتين من دول الساحل الأفريقي هما تشاد والنيجر. وتمثل تشاد حجر الرحى؛ إذ إن عاصمتها (نجامينا) تستضيف قيادة القوة الفرنسية في الساحل وترابط في القسم العسكري من مطارها طوافات عسكرية وطائرات نقل ومقاتلات، ومنها يتم التخطيط للقيام بعمليات عسكرية تستهدف المنظمات الجهادية والإرهابية العاملة في منطقة الساحل.
فضلاً عن ذلك، فإن القوات الفرنسية تستخدم قاعدتين إضافيتين عائدتين للقوات التشادية في فايا لارجو وأبيشيه.
أما النيجر التي انسحبت إليها غالبية قوة «برخان»، فإن عاصمتها تستضيف قاعدة جوية ترابط فيها على وجه الخصوص، إضافة إلى طائرات ميراج 200 وطائرات نقل، مسيرات «ريبر» المسلحة، أميركية الصنع التي تستخدم في الضربات «الجراحية» ضد قادة التنظيمات الجهادية. ويرابط في النيجر ما لا يقل عن ألف عنصر فرنسي وقد زادت أعدادهم بعد الانسحاب من مالي وبوركينا فاسو. وبشكل عام، فإن ما يجاور الـ3000 عنصر ما زالوا ينتشرون في منطقة الساحل وتسعى القيادة العسكرية إلى خفض عددهم من جهة واستخدامهم، من جهة أخرى، لمساعدة دول حوض غينيا في مواجهة التنظيمات الراديكالية.
إذا كانت منطقة الساحل قد اجتذبت الأنظار في السنوات العشر الأخيرة بسبب التواجد المتزايد للتنظيمات الإرهابية فيها، فإن الانتشار العسكري الفرنسي أوسع من ذلك وتتحكم به اعتبارات سياسية واستراتيجية. وتمثل القاعدة العسكرية الفرنسية في جيبوتي، المستعمرة السابقة، أهمية استثنائية للقوات الفرنسية التي تضم الأسلحة الثلاثة: جو، بحر ومشاة. ويصل عدد القوات هناك إلى 1500 رجل. وتمثل جيبوتي قوة ارتكاز للانتشار العسكري الفرنسي في المحيطين الهندي والهادي، فضلاً عن أهميتها العسكرية والاستراتيجية على مدخل البحر الأحمر وبالنسبة لكل منطقة شرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية.
وكما أن قاعدة جيبوتي رئيسية بالنسبة لباريس، فإن التوصيف نفسه يصح على قاعدة أبيدجان في ساحل العاج، وهي الأكبر المطلة على المحيط الأطلسي، حيث ترابط قوة فرنسية مؤلفة من 900 رجل. وكما جيبوتي، فإن ساحل العاج حليف موثوق لفرنسا غرب أفريقيا. وقد وصفها وزير الدفاع سيباستيان لو كورنو خلال زيارته الأخيرة لأبيدجان، بأنها «قطب استقرار وقوة توازن إقليمية».
ووفق موقع «أنفو ميليتير» القريب من وزارة الدفاع، فإن قاعدة أبيدجان الجوية والبحرية، «توفر منصة استراتيجية، لوجيستية وعملياتية رئيسية على الواجهة الغربية لأفريقيا». ومنذ عشر سنوات، تعد القاعدة البحرية في أبيدجان المرفأ الرئيسي الذي تصل عبره الإمدادات العسكرية واللوجيستية التي لا تنقل جواً إلى القوة الفرنسية المرابطة في منطقة الساحل. ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى قاعدتين عسكريتين إضافيتين: الأولى، في دكار، عاصمة السنغال (350 رجلاً)، والأخرى في ليبرفيل (الغابون) التي تشكل المحطة الأولى في جولة ماكرون الأفريقية التي يبدأها اليوم.
وفي كلتنا القاعدتين، تنشر فرنسا 350 عنصراً بحيث يكون إجمالي قواتها، خارج منطقة الساحل، 3500 رجل. وإضافة إلى الغابون، تشمل جولة ماكرون أنغولا، والكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
تنص خطة ماكرون العسكرية على ثلاثة أمور أساسية: الأول، خفض «ملموس» لعدد القوة الفرنسية المنتشرة في أفريقيا. إلا أنه لم يوفر تفاصيل تتناول الأعداد ولا مواضع الانتشار. والثاني، التخلي عن «مفهوم» القواعد وتحويلها إلى «أكاديميات» تقوم بعمليات التنشئة والتدريب والتأهيل بالمشاركة مع الأفارقة أنفسهم ما يعني أن القواعد العسكرية لن تلقى، بل «سوف يتم إعادة تنظيمها» وتحديد مهماتها. وثالثها، تغيير «المقاربة» بحيث ستكون باريس مستعدة لتقديم الدعم العسكري بناءً لرغبات الدول المعنية ومن أجل مواكبة قواتها ومساندتها وليس للحلول مكانها أو أن تكون هي في الواجهة.
وكان ماكرون يلمح بذلك إلى النهج القديم الذي اتبعته قوة «برخان» خلال ثماني سنوات في مالي. وإذا كانت «برخان» قد حققت بعض النجاح الأمني في محاربة المتطرفين، إلا أن محصلتها السياسية كانت بمثابة «الكارثة»، والدليل اضطرارها إلى الخروج من البلاد بطلب من السلطات المالية، وتحديداً من المجلس العسكري الذي وصل إلى السلطة من خلال انقلابيين عسكريين.
يرى رئيس أركان القوات الفرنسية، الجنرال بوركهارد، بحسب ما أعلنه في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الخريف الماضي، أن نجاح بلاده في «كسب قلوب الأفارقة» يمر عبر عمل متناسق للوزارات كافة، ولكن أيضاً من خلال «بروز أقل على الساحة»، وهو ما أكده ماكرون في خطابه.
وفي تقرير أعده الباحثان أيلي تينينبوم ولوران وردت توصيتان رئيسيتان: الأولى، الدعوة إلى إشراك الاتحاد الأوروبي فيما تقوم به فرنسا أمنياً في أفريقيا، والأخرى التركيز على مجموعة من الأعمال التي يتعين القيام بها من أجل الانفتاح على المجتمع المدني والمساعدة على تقبل الحضور العسكري الفرنسي على الأراضي الأفريقية.
فرنسا بين المصالح الاستراتيجية والوجود العسكري في أفريقيا
فرنسا بين المصالح الاستراتيجية والوجود العسكري في أفريقيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة