لا تختلف الدول كثيراً عن طبيعة الإنسان؛ خصوصاً في البُعد الجغرافيّ. فللإنسان مساحات جغرافيّة مُحدّدة، تتعلّق مباشرة، وتُحدّد حسب وجوده الجسديّ، في أي مكان وزمان. تبدأ هذه المساحات من المسافة الحميميّة، وهي الأقرب إليه، إلى المسافة الخاصة (طول الذراع) حوله، إلى المسافة الاجتماعيّة، ومن ثم أخيراً إلى المسافة العامة في المجتمع. لكلّ مسافة من هذه المسافات معنى وقيمة لدى الإنسان. ولكلّ مسافة منها يُحدّد الفرد ما هو المسموح وما هو الممنوع، وعليه يُحدد على الأقل ذهنيّاً طُرق التعامل مع المفاجآت. هو يُرسل الإشارات والرسائل لمن يُحيط به ويتعامل معه، حول هذه الممنوعات والمسموح.
هكذا الدول تتصرّف. فهي لديها الجغرافيا الداخليّة. كما لديها جغرافيا المُحيط المباشر، إلى الدائرة الأبعد، تكون عادة الدائرة الإقليميّة. وأخيراً وليس آخراً، تبقى الدائرة الدوليّة.
لكل دائرة من هذه الدوائر مقاربة، واستراتيجيّات مختلفة، كما الوسائل المتنوّعة. قد يُطلق في بعض الأحيان على هذه المقاربات تسمية: استراتيجيّة الأمن القوميّ، أو حتى «الكتاب الأبيض».
فيما خصّ دائرة الداخل، وحسب القانون الدولي الحالي، تعتبر هذه الدائرة من ضمن سيادة الدولة- الأمة. لها الحقّ في أن تفعل فيها ما تريده للحفاظ على وحدة الأرض، حتى ولو في بعض الأحيان ارتكبت المحظور. في عام 1994، دمّر بوتين غروزني عاصمة الشيشان، لمنع انشقاقها عن روسيا.
تعتبر دائرة المحيط المباشر بأهمية الدائرة الداخليّة؛ خصوصاً إذا كانت الدول المجاورة من العيار الثقيل. فهي كالمساحة الخاصة بالنسبة للإنسان. تعتبرها الدول الطامحة من ضمن مناطق نفوذها، أو حتى «دولة عازلة» (Buffer State)، لدرء المخاطر عنها. وإذا لم يكن هناك من دولة عازلة، فقط تضطرّ القوى الكبرى، سواء بالاتفاق السريّ، أو الضمني (Tacit) بين بعضها وبعض، إلى خلق هذه الدولة العازلة، فقط لتجنّب الصراع والحرب المباشرة. هكذا خلقت بريطانيا وروسيا القيصريّة أفغانستان، لمنع الصدام بينهما في اللعبة الكبرى (Great Game). حُلّت المشكلات بين الكبار؛ لكنها لا تزال مستمرّة بين أفغانستان وباكستان، بسبب الخط الذي رسمه الدبلوماسي الإنجليزي السير مورتمير دوراند عام 1893. الخطّ الذي أخذ حصّة كبيرة من أرض الباشتون لصالح باكستان. خلال الحرب الأهلية اللبنانيّة عام 1975، وحسب بعض الوثائق الأميركيّة، جعل هنري كيسنجر لبنان دولة عازلة بين كلّ من سوريا وإسرائيل. وكان هدفه بالطبع احتواء منظمة التحرير الفلسطينيّة آنذاك.
- حروب أوكرانيا
حسب المفكّر الإنجليزي لورنس فريدمان، هناك عدّة حروب تدور رحاها في أوكرانيا.
من جهّة، هناك الحرب الروسيّة الشاملة على أوكرانيا (Total War)، والتي لا تستثني الهدف المدني من الهدف العسكريّ، فكلّ الأهداف مشروعة. يعود تاريخ هذه الحرب إلى الحرب العالميّة الثانية، خلال القصف الاستراتيجي للحلفاء على ألمانيا. لا تُصنّف هذه الحرب على أنها مسألة حياة أو موت لروسيا، فهي تدور في المحيط المباشر (المسافة الخاصة). وهي حرب مُثقلة بأوزان التاريخ، الآيديولوجيا والدين، كما الصراعات الجيوسياسيّة المُستدامة لروسيا مع أوروبا.
ومن جهة أخرى، هناك حرب حياة أو موت لأوكرانيا لصدّ الهجوم الروسيّ. لكنها ليست حرباً شاملة. فهي لم تستهدف إلا عرضاً، ودون تأثير استراتيجي على سير العمليات العسكريّة، الداخل الروسيّ. هي حرب محدودة جغرافيّاً في الداخل الروسيّ. هي حرب بين القانون الدولي المعتمد حاليّاً وبين من يريد ضربه وإسقاطه.
إنها حرب تغيير للحدود من قبل روسيا. وهي حرب تحديد الهويّة الأوكرانيّة الخاصة، والهروب من مفاعيل «عناق الدبّ الروسيّ» (Bear Hug). فيها وعبرها تختار أوكرانيا المساحة الخاصة، كما المساحة الاجتماعيّة، وحتى المساحة العامة لمستقبلها، وكيفيّة التوجّه للتعاطي مع العالم.
في هذه الحرب بُعد آيديولوجي بالطبع. فأوكرانيا تريد الغرب، أوروبا كما «الناتو»، مقابل الخيار الآخر، والذي يقوم على المعادلة التالية: «من هو في المحيط المباشر لروسيا، فهو إما تابع، وإما عدو وجب تدميره».
لكن القدر الجغرافي لأوكرانيا يجعلها، سواء شاءت أم أبت، دولة عازلة بين الغرب وروسيا. فهي حسب المفكّر الكبير زبيغنيو بريجنسكي، دولة حيويّة لروسيا. فروسيا مع أوكرانيا هي إمبراطوريّة خطيرة استراتيجيّاً. وروسيا من دون أوكرانيا، هي دولة عاديّة. من هنا حتميّة الحماية الغربيّة لأوكرانيا في مرحلة بعد الحرب، هذا إذا انتهت الحرب قريباً.
ومن هنا، سعي أوكرانيا للانضمام أولاً إلى الاتحاد الأوروبي في المرحلة الأولى. ومن ثمّ الانضمام إلى حلف «الناتو» إذا سمحت الظروف في المرحلة الثانية.
فالانضمام إلى حلف «الناتو»، يؤمّن لأوكرانيا مبدأ «الحماية والمناعة من ضمن القطيع» (Herd Security). ألا ينطبق هذا المبدأ على أغلب دول أوروبا الشرقيّة؟