أوكرانيا... حربٌ بعدّة حروب

جندي أوكراني على متن عربة عسكرية قرب باخموت (رويترز)
جندي أوكراني على متن عربة عسكرية قرب باخموت (رويترز)
TT

أوكرانيا... حربٌ بعدّة حروب

جندي أوكراني على متن عربة عسكرية قرب باخموت (رويترز)
جندي أوكراني على متن عربة عسكرية قرب باخموت (رويترز)

لا تختلف الدول كثيراً عن طبيعة الإنسان؛ خصوصاً في البُعد الجغرافيّ. فللإنسان مساحات جغرافيّة مُحدّدة، تتعلّق مباشرة، وتُحدّد حسب وجوده الجسديّ، في أي مكان وزمان. تبدأ هذه المساحات من المسافة الحميميّة، وهي الأقرب إليه، إلى المسافة الخاصة (طول الذراع) حوله، إلى المسافة الاجتماعيّة، ومن ثم أخيراً إلى المسافة العامة في المجتمع. لكلّ مسافة من هذه المسافات معنى وقيمة لدى الإنسان. ولكلّ مسافة منها يُحدّد الفرد ما هو المسموح وما هو الممنوع، وعليه يُحدد على الأقل ذهنيّاً طُرق التعامل مع المفاجآت. هو يُرسل الإشارات والرسائل لمن يُحيط به ويتعامل معه، حول هذه الممنوعات والمسموح.
هكذا الدول تتصرّف. فهي لديها الجغرافيا الداخليّة. كما لديها جغرافيا المُحيط المباشر، إلى الدائرة الأبعد، تكون عادة الدائرة الإقليميّة. وأخيراً وليس آخراً، تبقى الدائرة الدوليّة.
لكل دائرة من هذه الدوائر مقاربة، واستراتيجيّات مختلفة، كما الوسائل المتنوّعة. قد يُطلق في بعض الأحيان على هذه المقاربات تسمية: استراتيجيّة الأمن القوميّ، أو حتى «الكتاب الأبيض».
فيما خصّ دائرة الداخل، وحسب القانون الدولي الحالي، تعتبر هذه الدائرة من ضمن سيادة الدولة- الأمة. لها الحقّ في أن تفعل فيها ما تريده للحفاظ على وحدة الأرض، حتى ولو في بعض الأحيان ارتكبت المحظور. في عام 1994، دمّر بوتين غروزني عاصمة الشيشان، لمنع انشقاقها عن روسيا.
تعتبر دائرة المحيط المباشر بأهمية الدائرة الداخليّة؛ خصوصاً إذا كانت الدول المجاورة من العيار الثقيل. فهي كالمساحة الخاصة بالنسبة للإنسان. تعتبرها الدول الطامحة من ضمن مناطق نفوذها، أو حتى «دولة عازلة» (Buffer State)، لدرء المخاطر عنها. وإذا لم يكن هناك من دولة عازلة، فقط تضطرّ القوى الكبرى، سواء بالاتفاق السريّ، أو الضمني (Tacit) بين بعضها وبعض، إلى خلق هذه الدولة العازلة، فقط لتجنّب الصراع والحرب المباشرة. هكذا خلقت بريطانيا وروسيا القيصريّة أفغانستان، لمنع الصدام بينهما في اللعبة الكبرى (Great Game). حُلّت المشكلات بين الكبار؛ لكنها لا تزال مستمرّة بين أفغانستان وباكستان، بسبب الخط الذي رسمه الدبلوماسي الإنجليزي السير مورتمير دوراند عام 1893. الخطّ الذي أخذ حصّة كبيرة من أرض الباشتون لصالح باكستان. خلال الحرب الأهلية اللبنانيّة عام 1975، وحسب بعض الوثائق الأميركيّة، جعل هنري كيسنجر لبنان دولة عازلة بين كلّ من سوريا وإسرائيل. وكان هدفه بالطبع احتواء منظمة التحرير الفلسطينيّة آنذاك.

- حروب أوكرانيا
حسب المفكّر الإنجليزي لورنس فريدمان، هناك عدّة حروب تدور رحاها في أوكرانيا.
من جهّة، هناك الحرب الروسيّة الشاملة على أوكرانيا (Total War)، والتي لا تستثني الهدف المدني من الهدف العسكريّ، فكلّ الأهداف مشروعة. يعود تاريخ هذه الحرب إلى الحرب العالميّة الثانية، خلال القصف الاستراتيجي للحلفاء على ألمانيا. لا تُصنّف هذه الحرب على أنها مسألة حياة أو موت لروسيا، فهي تدور في المحيط المباشر (المسافة الخاصة). وهي حرب مُثقلة بأوزان التاريخ، الآيديولوجيا والدين، كما الصراعات الجيوسياسيّة المُستدامة لروسيا مع أوروبا.
ومن جهة أخرى، هناك حرب حياة أو موت لأوكرانيا لصدّ الهجوم الروسيّ. لكنها ليست حرباً شاملة. فهي لم تستهدف إلا عرضاً، ودون تأثير استراتيجي على سير العمليات العسكريّة، الداخل الروسيّ. هي حرب محدودة جغرافيّاً في الداخل الروسيّ. هي حرب بين القانون الدولي المعتمد حاليّاً وبين من يريد ضربه وإسقاطه.
إنها حرب تغيير للحدود من قبل روسيا. وهي حرب تحديد الهويّة الأوكرانيّة الخاصة، والهروب من مفاعيل «عناق الدبّ الروسيّ» (Bear Hug). فيها وعبرها تختار أوكرانيا المساحة الخاصة، كما المساحة الاجتماعيّة، وحتى المساحة العامة لمستقبلها، وكيفيّة التوجّه للتعاطي مع العالم.
في هذه الحرب بُعد آيديولوجي بالطبع. فأوكرانيا تريد الغرب، أوروبا كما «الناتو»، مقابل الخيار الآخر، والذي يقوم على المعادلة التالية: «من هو في المحيط المباشر لروسيا، فهو إما تابع، وإما عدو وجب تدميره».
لكن القدر الجغرافي لأوكرانيا يجعلها، سواء شاءت أم أبت، دولة عازلة بين الغرب وروسيا. فهي حسب المفكّر الكبير زبيغنيو بريجنسكي، دولة حيويّة لروسيا. فروسيا مع أوكرانيا هي إمبراطوريّة خطيرة استراتيجيّاً. وروسيا من دون أوكرانيا، هي دولة عاديّة. من هنا حتميّة الحماية الغربيّة لأوكرانيا في مرحلة بعد الحرب، هذا إذا انتهت الحرب قريباً.
ومن هنا، سعي أوكرانيا للانضمام أولاً إلى الاتحاد الأوروبي في المرحلة الأولى. ومن ثمّ الانضمام إلى حلف «الناتو» إذا سمحت الظروف في المرحلة الثانية.
فالانضمام إلى حلف «الناتو»، يؤمّن لأوكرانيا مبدأ «الحماية والمناعة من ضمن القطيع» (Herd Security). ألا ينطبق هذا المبدأ على أغلب دول أوروبا الشرقيّة؟


مقالات ذات صلة

«الناتو»: مليون قتيل وجريح في أوكرانيا منذ بدء الحرب

أوروبا من جنازة جندي أوكراني توفي خلال الحرب مع روسيا (أ.ف.ب)

«الناتو»: مليون قتيل وجريح في أوكرانيا منذ بدء الحرب

أعرب حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن اعتقاده بأن أكثر من مليون شخص سقطوا بين قتيل وجريح في أوكرانيا منذ شنّت روسيا غزوها الشامل في فبراير (شباط) 2022.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا أظهرت الأقمار الاصطناعية أضراراً بمطار عسكري روسي في شبه جزيرة القرم جراء استهداف أوكراني يوم 16 مايو 2024 (أرشيفية - رويترز)

روسيا تتهم أوكرانيا بقصف مطار عسكري بصواريخ أميركية... وتتوعد بالرد

اتهمت روسيا أوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى أميركية الصنع لقصف مطار عسكري، اليوم (الأربعاء)، متوعدة كييف بأنها ستردّ على ذلك عبر «إجراءات مناسبة».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الولايات المتحدة​ رجال إنقاذ يعملون في موقع تعرض فيه مبنى لأضرار جسيمة بسبب ضربة صاروخية روسية أمس وسط هجوم روسيا على أوكرانيا في زابوريجيا11 ديسمبر 2024 (رويترز) play-circle 02:00

أميركا تحذّر روسيا من استخدام صاروخ جديد «مدمر» ضد أوكرانيا

قال مسؤول أميركي إن تقييماً استخباراتياً أميركياً، خلص إلى أن روسيا قد تستخدم صاروخها الباليستي الجديد المتوسط ​​المدى مدمر ضد أوكرانيا مرة أخرى قريباً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال لقائه ترمب في نيويورك الأسبوع الماضي (أ.ب)

ماسك ونجل ترمب يتفاعلان مع صورة تقارن زيلينسكي ببطل فيلم «وحدي في المنزل»

تفاعل الملياردير الأميركي إيلون ماسك ودونالد ترمب جونيور، نجل الرئيس المنتخب دونالد ترمب، مع صورة متداولة على منصة «إكس»

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا ألسنة لهب كثيفة تتصاعد من مبنى مدمر وسيارة محترقة في منطقة زابوريجيا الأوكرانية نتيجة قصف روسي (خدمة الطوارئ الأوكرانية- أ.ف.ب)

4 قتلى و19 جريحاً بضربة روسية على زابوريجيا الأوكرانية

قُتل 4 أشخاص على الأقل وأُصيب 19، الثلاثاء، في ضربة صاروخية روسية «دمَّرت» عيادة خاصة في مدينة زابوريجيا جنوب أوكرانيا، في حصيلة مرشحة للارتفاع.


تدعو لـ«محاسبة الأسد»... «مجموعة السبع» مستعدة لدعم الانتقال السياسي في سوريا

موظف يشرف على الأعلام الموضوعة في قمة مجموعة السبع في إيطاليا عام 2017 (رويترز)
موظف يشرف على الأعلام الموضوعة في قمة مجموعة السبع في إيطاليا عام 2017 (رويترز)
TT

تدعو لـ«محاسبة الأسد»... «مجموعة السبع» مستعدة لدعم الانتقال السياسي في سوريا

موظف يشرف على الأعلام الموضوعة في قمة مجموعة السبع في إيطاليا عام 2017 (رويترز)
موظف يشرف على الأعلام الموضوعة في قمة مجموعة السبع في إيطاليا عام 2017 (رويترز)

أعلن قادة مجموعة الدول السبع الكبرى في بيان، الخميس، إنهم على استعداد لدعم عملية انتقالية في إطار يؤدي إلى حكم موثوق وشامل وغير طائفي في سوريا، وفقاً لوكالة «رويترز».

وذكرت مجموعة السبع أن الانتقال السياسي بعد نهاية الحكم الاستبدادي، الذي دام 24 عاماً لبشار الأسد، يجب أن يضمن «احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان العالمية، بما في ذلك حقوق المرأة، وحماية جميع السوريين، بمن في ذلك الأقليات الدينية والعرقية، والشفافية والمساءلة».

وطالبت المجموعة أيضاً بضرورة «محاسبة نظام الأسد».

وأضاف البيان: «ستعمل مجموعة السبع مع أي حكومة سورية مستقبلية تلتزم بهذه المعايير، وتكون نتاج هذه العملية، وتدعمها بشكل كامل».

كما دعا القادة «كل الأطراف» إلى «الحفاظ على سلامة أراضي سوريا، ووحدتها الوطنية، واحترام استقلالها وسيادتها».