3 سيناريوهات لتطور الوضع في العام الثاني للحرب الروسية ـ الأوكرانية

لا تراجع عن أهداف موسكو... والحل السياسي لا يزال بعيداً

3 سيناريوهات لتطور الوضع في العام الثاني للحرب الروسية ـ الأوكرانية
TT

3 سيناريوهات لتطور الوضع في العام الثاني للحرب الروسية ـ الأوكرانية

3 سيناريوهات لتطور الوضع في العام الثاني للحرب الروسية ـ الأوكرانية

مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني تبرز التساؤلات مجدداً عن آفاق المواجهة المتفاقمة، وطبيعة نقطة النهاية فيها. وفي ظل إجماع كل الأطراف المنخرطة في الحرب على صعوبة دفع تسوية سياسية لم تنضج ظروفها بعد، تزايد الرهان على جانبي خطوط التماس حول القدرة على تحقيق نوع من الحسم العسكري ولو بشكل جزئي، إما بتحقيق اختراقات كبرى من جانب موسكو، في مناطق الجنوب والشرق الأوكرانيْين، تجبر أوكرانيا على الإقرار بـ«الأمر الواقع الجديد»، وتقليص سقف شروط التفاوض. وإما بالعكس من ذلك، وفقاً لرهانات كييف، القائمة على تعزيز القدرات القتالية بمساعدة غربية لجعل التقدم الروسي على الأرض باهظ الثمن ومحاطاً بمخاطر إضافية. في الحالين يبدو أن الرهان ما زال يقتصر على مواصلة القتال، على الرغم من القناعة الراسخة لدى جزء وازن من الخبراء والمحللين العسكريين باستحالة تمكن أي طرف من تحقيق انتصار عسكري كامل.
- تقدم روسي يسابق وصول الأسلحة الغربية
في هذه الظروف، تكثر التكهنات حول أدوات إدارة الحرب في المرحلة المقبلة، وحول ما إذا كانت موسكو قادرة على تغيير تكتيكاتها لضمان فاعلية أكبر في مواجهة الإصرار الغربي على مواصلة تسليح أوكرانيا، وتزويدها خلال الأسابيع القليلة المقبلة بطرازات جديدة من الأسلحة، بينها للمرة الأولى أسلحة وتقنيات ثقيلة وأنظمة صاروخية قد تكون قادرة على تهديد العمق الروسي.

يقول خبراء في موسكو إن الوقت لن يكون في صالح روسيا خلال الشهرين المقبلين، وسط توقعات بأن تصل الدفعات الأولى من الدبابات الألمانية الثقيلة إلى أوكرانيا بحلول شهر أبريل (نيسان) المقبل، فضلاً عن إعلان واشنطن عن تقديم رزمة جديدة من الأسلحة والمعدات تصل قيمتها إلى نحو ملياري دولار. في هذه الحال، فإن المهمة المطروحة أمام العسكريين الروس تتمحور حول تحقيق «إنجاز لا رجعة عنه» في غضون أسابيع قليلة، وهذا يفسر تسريع موسكو وتيرة القتال في منطقة دونباس ومحيطها وتوسيع مساحة خطوط التماس لتصل مجدداً إلى خاركيف شرقاً، وإلى زابوريجيا في الوسط.
وفي الوقت نفسه، لا يستبعد خبراء أن يشهد الوضع الميداني تحضيرات لها طبيعة متسارعة لتوسيع نطاق المعركة، وجر أطراف أخرى للانخراط فيها. ومن هنا جاءت التحذيرات الروسية المتعاقبة خلال الأيام الأخيرة، من «استفزاز أوكراني» على الحدود الغربية (مع إقليم بريدنوستروفيه الساعي إلى الانفصال عن مولدافيا برعاية روسية).
- توسيع رقعة المعارك
وجاء إعلان وزارة الدفاع الروسية الخميس، عن أن «قوات كييف تستعد لغزو جمهورية ترانسنيستريا بدعوى منع زحف الجيش الروسي على أوكرانيا من هناك» يعزز فرضية التوجه الروسي لإطلاق مرحلة جديدة من الصراع بمشاركة الانفصاليين المولدافيين الموالين لموسكو. وأهمية فتح هذه الجبهة الجديدة، تكمن في السعي إلى تعقيد الموقف أكثر أمام كييف، من خلال توسيع رقعة المواجهات من ناحية، والعمل بشكل مباشر على محاولة السيطرة على ميناء أوديسا في أقصى غرب البلاد من ناحية أخرى، علماً بأن هدف السيطرة على أوديسا كان دائماً مطروحاً على أجندة الأهداف الروسية، لكن تعثر العمليات العسكرية في خيرسون ونيكولايف المجاورة منع من التقدم نحو الميناء الأوكراني الاستراتيجي.
لم توضح التصريحات الروسية عن استهداف أوكراني لإقليم بريدنوستروفيه المولدافي، كيف يمكن فهم أن تقوم كييف بمغامرة من هذا النوع، يمكن أن تفتح جبهة جديدة ضدها. لكن وزارة الدفاع الروسية قالت إن الجانب الروسي «سجّل حشوداً عسكرية كبيرة لقوات كييف، وقيامها بنشر قوات المدفعية والعربات المدرعة على الحدود مع ترانسنيستريا، فضلاً عن زيادة غير مسبوقة في تحليق الطائرات المسيّرة فوق المنطقة». وأضافت الوزارة: «يشكل مثل هذا الاستفزاز تهديداً مباشراً لقوات حفظ السلام الروسية في ترانسنيستريا». وشددت على أن الجيش الروسي سوف «يرد بشكل مناسب على الاستفزاز المحتمل من الجانب الأوكراني».

يوضح التطور جانباً من أدوات إدارة المعركة المحتملة خلال المرحلة المقبلة. وهنا ينبغي التذكير بأن جنرالات روسيين كانوا قد كشفوا منتصف العام الماضي عن أن الوصول إلى بريدنوستروفيه يشكل «الاستكمال الطبيعي للعملية العسكرية بعد إحكام السيطرة على أوديسا». لكن يبدو أن تعثر العملية العسكرية في مناطق الجنوب الأوكراني دفع موسكو من ضمن خطوات إعادة النظر في تكتيكاتها العسكرية إلى تفضيل تحرك معاكس، يقوم على استخدام الوجود العسكري الروسي في الإقليم المولدافي الانفصالي للهجوم من جهة الغرب على أوديسا.
إذن، يقف العالم أمام واحد من السيناريوهات المنتظرة لتطور المعركة، وقد يفسر ذلك تزايد نداءات الحكومة المولدافية التي شعرت بالخطر خلال الفترة الأخيرة، لـ«نزع سلاح بريدنوستروفيه، وسحب القوات الروسية منها» وهي نداءات حذر الكرملين من أنها قد تسفر عن تداعيات خطرة.
- ترقب على الحدود الشمالية
على الجانب الآخر، في المناطق الشمالية، لا تزال التحركات الروسية البيلاروسية المشتركة تثير مخاوف جدية لدى كييف، ويقول بعض الخبراء إن الوضع على الحدود مثل برميل البارود القابل للاشتعال في كل لحظة. ومن جانبها كانت مينسك قد حذرت من «استفزازات أوكرانية» على الحدود، وأكدت استعدادها مع روسيا للدفاع عن «المصالح المشتركة».
يرى خبراء أن معركة الشمال قد تكون مؤجلة إلى حين بروز حاجة ماسة لها، لأن الهجوم مجدداً على كييف سوف يعني فتح نطاق الحرب لتدخل أوسع من جانب الأطلسي والغرب عموماً. وهذه المعركة المحتملة مرتبطة عموماً بتطور المعارك في الجنوب والشرق، وربما في الغرب إذا تم تطبيق سيناريو زج بريدنوستروفيه في الحرب الحالية.
اللافت في الموضوع، أن مسؤولين روسيين عادوا أخيراً إلى التذكير بأن المعركة يجب أن تمتد إلى كييف. وقبل نحو أسبوع أعلن حاكم الشيشان رمضان قاديروف الذي يقود نحو عشرين ألف مقاتل في دونباس حالياً، أنه «مستعد للتوجه إلى كييف فور تلقي أوامر القائد الأعلى للجيش (بوتين)».
- لا تراجع عن الأهداف
هكذا بشكل مباشر تتضح آلية تفكير النخبة السياسية التي تراهن على ضرورة المضي حتى النهاية في تحقيق «كل أهداف روسيا»، والأهداف هنا لا تقتصر على «تحرير دونباس» وضمان أمن شبه جزيرة القرم، لإجبار العالم على احترام المصالح الروسية في الأجزاء التي تم ضمها من الأراضي الأوكرانية، بل هي تنسحب على السيطرة على «أراضي روسيا التاريخية» التي تدخل كييف ضمنها، وبالتالي إلحاق هزيمة كاملة بالمشروع الغربي الذي «استخدم أوكرانيا كرأس حربة لتطويق روسيا وهزيمتها»، كما عبّر عنها نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف. طبعاً لا يمكن التكهن بالمدى الذي يمكن أن تذهب إليه الطموحات الروسية، في ظل إصرار الغرب على مواصلة دعم أوكرانيا بالسلاح، وفرض العقوبات المرهقة ضد موسكو، لكن هذا المدخل يفتح على ثلاثة سيناريوهات ينتظر خبراء أن تشكل أساس التطورات المقبلة: اتساع رقعة المعارك، ودخول أطراف جديدة في الصراع بينها مولدافيا وربما جورجيا لاحقاً، بالإضافة إلى بعض بلدان حلف الأطلسي خصوصاً بولندا ورومانيا، مع المحافظة على مساحة محددة لهذا الانخراط ونوعيته، بما يضمن عدم استخدام أسلحة غير تقليدية، ويقلل من فرص تحول المعركة إلى حرب شاملة مع حلف شمال الأطلسي.
استمرار حرب الاستنزاف على رقعة محددة من ساحة المعارك، وهذا السيناريو يتوقع أن تنحصر العمليات القتالية طويلة الأمد في مناوشات مستمرة وعمليات كر وفر في منطقة دونباس، وعلى طول الضفة الشرقية لنهر دنيبرو.
الانزلاق نحو مواجهة شاملة، قد يسفر عن استخدام أسلحة غير تقليدية، مثل استخدام قنابل تكتيكية لإخضاع مساحات معينة. وهذا السيناريو يرى عدد وازن من الخبراء أنه ما زال الأكثر استبعاداً، لأن كل الأطراف المنخرطة في الأزمة تحاول تجنبه برغم كل أجواء التأجيج المحيطة الحالية.


مقالات ذات صلة

رئيس بيلاروسيا يعفو عن 37 سجيناً أُدينوا بـ«التطرف»

أوروبا رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو (أرشيفية - أ.ب)

رئيس بيلاروسيا يعفو عن 37 سجيناً أُدينوا بـ«التطرف»

أصدر رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو، الاثنين، عفواً عن 37 شخصاً سُجنوا بتهمة «التطرف»، حسبما أعلنت الرئاسة، وهو مصطلح يستخدم عادة لوصف المعارضين.

«الشرق الأوسط» (وارسو)
أوروبا يقف جندي روسي بجوار مركبة عسكرية أوكرانية متضررة في منطقة الحدود الروسية الأوكرانية في منطقة كورسك (أ.ب)

روسيا تأمر بإخلاء قرى على الحدود مع أوكرانيا في منطقة كورسك

أمر حاكم منطقة كورسك الروسية التي تشهد هجوماً أوكرانياً منذ مطلع أغسطس (آب)، الاثنين، السكان بإخلاء القرى الواقعة على مسافة أقل من 15 كيلومتراً من أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 16 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

بوتين يأمر بزيادة عديد الجيش الروسي إلى 1.5 مليون جندي

أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الاثنين، بزيادة عدد أفراد الجيش الروسي بواقع 180 ألف جندي ليصل العدد الإجمالي للقوات إلى 1.5 مليون جندي.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا جندي روسي يقوم بإطلاق قذيفة في منطقة كورسك (أ.ب)

كييف تدعو الأمم المتحدة لزيارة كورسك... وموسكو تندد بـ«استفزاز» أوكراني

قالت أوكرانيا الاثنين إنها طلبت من الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر زيارة الجزء الذي تحتله القوات الأوكرانية في منطقة كورسك الروسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو )
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب)

الرئيس الأوكراني: نعاني من خسائر كبيرة بسبب بطء توريد الأسلحة

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة مع شبكة «سي إن إن» اليوم إن القوات الأوكرانية تعاني من خسائر كبيرة نظراً للبطء الشديد في وصول الأسلحة.

«الشرق الأوسط» (كييف)

محاور العالم... بين صديق مؤقت وعدو دائم

صاروخ باليستي لحظة إطلاقه من مكان غير معلوم في كوريا الشمالية يوم 20 فبراير 2023 (أ.ب)
صاروخ باليستي لحظة إطلاقه من مكان غير معلوم في كوريا الشمالية يوم 20 فبراير 2023 (أ.ب)
TT

محاور العالم... بين صديق مؤقت وعدو دائم

صاروخ باليستي لحظة إطلاقه من مكان غير معلوم في كوريا الشمالية يوم 20 فبراير 2023 (أ.ب)
صاروخ باليستي لحظة إطلاقه من مكان غير معلوم في كوريا الشمالية يوم 20 فبراير 2023 (أ.ب)

توجد اليوم في النظام العالميّ على الساحة الكونيّة قوى متعدّدة؛ منها ما يُصنّف من القوى العظمى، كالولايات المتحدة الأميركيّة والصين، ومنها ما هو على مستوى «القوّة العظمى»، مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا والهند... وغيرها. أما الجديد اليوم في اللعبة الجيوسياسية الكبرى، فهو تلك الدول المُصنّفة قوى إقليميّة عظمى، مثل تركيا وإسرائيل وإيران والسعوديّة والبرازيل. والجديد في دور هذه القوى الإقليميّة هو أنها قادرة على التأثير في مجريات الصراع العالميّ، وليس كما كانت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، فهي أصبحت بيضة القبان في الصراع الكونيّ على التحالفات (Swing States)، كما أصبح لديها كثير من المرونة وحريّة القرار والخيارات في سياساتها الخارجيّة.

هناك دول تريد الحفاظ على النظام العالميّ (Status Quo Powers) القديم. وهناك دول تريد تغيير هذا النظام؛ لأن التغيير قد يُحسّن وضعها الجيوسياسيّ وموقعها على الرقعة الكبرى. وعليه؛ تتظّهر هشاشة المؤسسات الدوليّة، التي يفترض أن تتعهدّ الحفاظ على الأمن والسلام العالميين، وفي طليعتها مجلس الأمن. لكن هذه المؤسسات هي التي صنعت المهيمنين على النظام العالميّ. وهي من إنتاجهم، وهم من يموّل عملها. وهي تعكس موازين القوى في تركيبة النظام العالميّ. وإذا ما اختل التوازن بين القوى المهيمنة، تصدّعت هذه المؤسسات.

أحد اجتماعات مجلس الأمن (أرشيفية - إ.ب.أ)

الصديق المؤقت والعدو الدائم

تندرج بريطانيا في علاقتها بالعم سام على أنها «الصديق الدائم والعدو المؤقّت». وتندرج كل من روسيا والصين على أنهما «العدوان الدائمان للغرب»، وقد يكونان «صديقين مؤقّتين» في بعض الأحيان. تعدّ إيران العدو الدائم لروسيا، لكنها الصديق المؤقت، فهما تقاتلتا في المساحة الجغرافيّة الفاصلة بينهما في القوقاز. ويجب ألا ننسى كيف قسّم الزعيم السوفياتي الراحل جوزيف ستالين إيران، بالتعاون مع الإنجليز. حالياً، تمدّ إيران روسيا بالمسيّرات والصواريخ الباليستية في حربها على أوكرانيا. ويعيدنا هذا الأمر إلى أهميّة الدور العالمي الذي تلعبه حالياً القوى الكبرى الإقليمية. إذن لدى إيران مشروع إقليمي، وهي تلعب دوراً دولياً عقب تورطها في الحرب الأوكرانية. ألا يمكن القول هنا إن إيران تلعب لعبة الكبار؛ بوسائل محدودة؟ لكن العدو المشترك لها حالياً مع روسيا هو العم سام.

تعدّ الصين العدو الدائم لفيتنام، لكنها قد تكون الصديق المؤقت. في عام 1979، اجتاح الزعيم الصيني، دينغ تشاو بينغ، شمال فيتنام بعملية محدودة. كان هدف هذه العملية تأديب فيتنام، وإفهام الاتحاد السوفياتي أنه لا يمكن احتواء الصين. بعدها، انفتحت الصين على أميركا وتغيّر العالم إلى غير رجعة. حالياً، يدور صراع بين فيتنام والصين على الحدود البحريّة في جنوب بحر الصين.

صورة جماعية للقادة المشاركين بقمة «منظمة شنغهاي» في آستانة (أرشيفية - د.ب.أ)

تعدّ كوريا التاريخيّة عدو الصين الدائم، لكنها الصديق المؤقت حالياً، خصوصاً كوريا الشمالية. فخريطة كوريا التاريخيّة تمتد إلى عمق أراضي الصين الحالية. وعندما تدخّلت الصين في الحرب الكورية عام 1950 ضدّ القوات الأميركية، كانت فقط لرسم حدود القوّة الأميركية، حتى ولو كانت أميركا قوّة نوويّة آنذاك عكس الصين. ويقول بعض المحلّلين إن السلاح النووي لكوريا الشمالية يهدف إلى ردع كل من أميركا والصين معاً؟

تساعد كوريا الشمالية روسيا اليوم عبر مدّها بالذخيرة؛ من صواريخ وغيرها، كأنها تردّ الجميل لروسيا لأنها ساعدتها إبان الحرب الباردة. فهناك حدود مشتركة بينهما بطول 19 كيلومتراً. والعدو المشترك حالياً هو العم سام.

تعدّ روسيا الصديق المؤقت للصين، لكنها العدو الدائم، فقد تقاتلتا مرات عدّة، ووقّعتا كثيراً من المعاهدات كانت كلها تصب في مصلحة روسيا القيصريّة (معاهدة «آيغون» عام 1858). وفي بنود بعض هذه المعاهدات تخلّت الصين عن بعض الأراضي لروسيا. ألَم يتحدَّ مؤخراً رئيس تايوان الصين بأن تسترد أراضيها من روسيا إذا كانت تريد استرداد جزيرة تايوان؟ في مكان آخر، قد يمكن القول إن الصراع على مناطق النفوذ في آسيا الوسطى بين الصين وروسيا قد يأخذ منحى آخر في المستقبل القريب، فهذه المناطق تعدّ من المُسلّمات الجيوسياسية الحيويّة لروسيا عبر التاريخ. لكنها تحوّلت ومنذ صعود الصين إلى مُسلّمات جيوسياسيّة حيويّة أيضاً للصين. فكيف ستكون ديناميكيّة الصراع مستقبلاً؟ هذا مع التذكير بأن الصراع بين الكبار يفتح للاعبين الصغار خيارات استراتيجيّة متعدّدة. تساعد الصين روسيا سراً في حربها على أوكرانيا، وفق ما يقول الغرب، لكن الهمّ الصيني الأساسي ليس في مستوى العلاقة مع روسيا، لكن في نوعيّة العلاقة بالغرب، خصوصاً أميركا. فروسيا بالنسبة إلى الصين وسيلة لأهداف أكبر بكثير. وهي، أي الصين، تعي تماماً أن خيارات روسيا في علاقاتها بالغرب أصبحت جدّ محدودة، أو حتى معدومة. فلا ضير إذن في أخذ الدب الروسي تحت عباءة التنين الصيني لاستغلاله والاستفادة منه جيوسياسياً في ظلّ التحولات الكبرى.

ترتيب المحور

تبدو مؤشرات تشكّل محاور جيوسياسيّة متعدّدة واضحة وجليّة على المسرح الدوليّ، وأغلبها لضرب هيمنة الغرب؛ وبالتحديد العم سام. لكن هذا لا يعني أن العم سام بدوره لا يؤسس لمحاور جديدة تتأقلم مع المستجدّات. لذلك، وبعد نظرة من فوق على الكتلة الأوراسيّة، قد يمكن القول ما يلي:

هناك تشكّل واضح لمحور أساسي يضمّ كلاً من الصين وروسيا وكوريا الشماليّة وإيران. لهذا المحور دور جيوسياسيّ، يتظّهر أكثر ما يتظّهر في «منظّمة شنغهاي» للتعاون على المستوى المؤسساتيّ، لكنها تتعاون بطرق سريّة مختلفة؛ أهمها في الحرب الأوكرانية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يتبادلان الوثائق خلال حفل توقيع الشراكة الجديدة في بيونغ يانغ بكوريا الشمالية يوم 19 يونيو 2024 (أ.ب)

ما يجمع هذا المحور هو العداء المشترك للولايات المتحدة الأميركية. أما ما يفرّق دول المحور بعضها عن بعض فيتمحور حول البُعد الجغرافيّ؛ إنْ كان في القرب أو الترابط، خصوصاً مناطق النفوذ وتوزّع الثروات في السهل الأوراسيّ.

لهذا المحور ترتيب هرميّ لا يمكن الهروب منه، خصوصاً أن الترتيب يعتمد على قدرات دول المحور؛ العسكريّة منها والاقتصاديّة، وذلك دون إهمال البُعد الديموغرافي. في هذا المجال، قد يمكن القول إن الاقتصاد الصيني يساوي 8 مرات الاقتصاد الروسيّ، ويساوى 43 مرة الاقتصاد الإيراني، ويساوي 560 مرّة الاقتصاد الكوري الشماليّ. يُضاف إلى ذلك أن الصين هي المنافس الوحيد والأهم للولايات المتحدة الأميركية في مجال «تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين».

وإذا قلنا إن ثلاث دول من هذه المجموعة دول نوويّة، بينما تسعى إيران إلى «النوويّ»، فهل حمى السلاح النوويّ روسيا من الهجوم على مقاطعة كورسك من قبل أوكرانيا؟ ألا يمكن القول إن فائض القوّة في بعض الأحيان قد يتحوّل إلى عبء؟