الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

أوباما أضافه إلى إرثه السياسي.. وأوروبا تتسابق لقطف الثمار التجارية.. وتركيا من الأطراف الخاسرة

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون
TT

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

لا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن يصبح الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني واقعا ملموسا على الأرض إن أصبح كذلك بالأساس. مع ذلك حتى إذا لم يصبح واقعا، فقد أسفرت العملية ذاتها عن خاسرين ورابحين محتملين.
لا توجد صلاحية قانونية للاتفاق المبدئي، الذي يعرف بالخطة الشاملة، لأن أحدا لم يوقع عليه، مع ذلك فإن القرار، الذي أصدره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي وهو السابع الخاص بهذا الأمر، قد ينظر إليه باعتباره يضفي قدرًا من الشرعية على الخطة.
وصوتت الولايات المتحدة بصفتها راعية للقرار لصالحه مما جعلها ملتزمة به، أما إيران، فهي ليست عضوا في مجلس الأمن، ولم يكن عليها التصويت ولم تتقبله. ولن يكون قبول قرار جديد بالأمر اليسير، لكنه يقوم على ستة قرارات سابقة رفضتها إيران.
ولمح جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، يوم السبت الماضي إلى أن الجمهورية الإسلامية قد لا تقبل القرار الجديد وهو ما يجعل الغموض يلف القضية برمتها في هذه الحالة. وقال ظريف: «يوضح نص الخطة أن فحواها لا يتطابق مع فحوى القرار 2231، وبالخلط بين الاثنين يثير جون كيري حالة من الارتباك».
وحتى تقبل إيران القرار الجديد وتمنح سندا قانونيا للخطة يجب أن يوافق مجلس الوزراء على النص أولا، ومن ثم سيتم تقديم الخطة إلى المجلس الأعلى للدفاع الوطني؛ وفي حال الموافقة عليه، ستتم إحالة النص إلى المجلس الإسلامي، الذي سيحيله بدوره، في حال الموافقة عليه، إلى مجلس صيانة الدستور. وفي النهاية، سيتم تقديم النص إلى «المرشد الأعلى»، والذي لا يوجد ما يلزمه بقبوله، بل يمكنه إلغاؤه في أي وقت بموجب الحكم الحكومي.
الوثيقة الوحيدة التي وقعت عليها إيران في فيينا هي ما يطلق عليها يوكيو أمانو، مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية «خريطة طريق» للتعامل مع مخاوف الوكالة الدولية بشأن الجوانب العسكرية للبرنامج النووي الإيراني مع التوجه لإصدار تقرير. ولا يزال النص سريا. مع ذلك لا يعني التوقيع الكثير؛ فعلى مدى الاثني عشر عاما الماضية وقعت إيران على مثل تلك الوثائق في ثلاث مناسبات ولم تكن تلتزم بها في كل مرة.
في كل الأحوال، لا توضح «خريطة الطريق» الوجهة، أو السرعة، أو الوسيلة، أو حتى ما إذا كان ينبغي بدء الرحلة بالأساس أم لا. ولا يمكن لأي «خريطة الطريق» أن تمنع المرء من تجاوز بعض النقاط أو حتى التراجع.

الرابحون
رغم أن ما بحوزتنا ليس سوى اتفاق غير حقيقي، يبدو رد الفعل العام تجاهه إيجابيًا. وليس من الصعب فهم ذلك. من بين الرابحين الرئيس باراك أوباما، الذي تمكن من اتخاذ هذه الخطوة في الفترة المتبقية من رئاسته، ويتفاخر بالفعل بذلك «النجاح التاريخي» الذي سيصقل إرثه.
وترضى روسيا عن الاتفاق لأنها تريد نصيبا من الأصول الإيرانية المتجمدة من خلال بيع أسلحة لطهران. وخلال المفاوضات التي تمت في فيينا، قاد حسين ديغان وزير الدفاع الإيراني وفد شارك به 40 شخصا إلى موسكو لمناقشة مشتريات الأسلحة. ولحق بالوفد حبيب الله سياري، قائد البحرية الإيرانية، الذي يريد تطوير، وإعادة تسليح قوته بمساعدة روسيا.
كذلك ترضى الصين عن الاتفاق لأنها بدأت إبرام اتفاقيات من أجل بناء خمس منشآت نووية في إيران، وتعتزم ضخ استثمارات ضخمة في صناعة النفط الإيراني. الجدير بالذكر أن إيران تعتمد على النفط الإيراني في سد 11 في المائة من احتياجاتها. وترضى ألمانيا عن الاتفاق لأن إيران هي أكبر شريك تجاري في الشرق الأوسط. وزادت الصادرات الألمانية إلى إيران بنسبة 32 في المائة خلال العام الماضي بفضل ضمانات الحكومة، التي تعتمد على الأمل في «اتفاق» يضع المزيد من المال في جيوب الإيرانيين. وترضى فرنسا عن الاتفاق لأن من شأنه تحفيز مبيعات الأسلحة إلى العرب الذين يشعرون بالقلق من تسلح إيران النووي. كذلك وقعت فرنسا على اتفاق من أجل إنشاء محطات كهرباء تعمل بالطاقة النووية في الكثير من الدول العربية من بينها مصر.
أما داخل إيران، فالرابح المباشر هو الفصيل الذي يقوده الرئيس هاشمي رافسنجاني وبه الرئيس حسن روحاني وأغلبية الوزراء في مجلس وزرائه. ويوم الإعلان عن «الاتفاق» في فيينا، نشر رافسنجاني ملصقا يظهر فيه على خلفية من الشمس المشرقة، وإلى جواره صورة روحاني، ووزير الخارجية ظريف، بحجم أصغر من رافسنجاني. وكان التعليق المصاحب للملصق «هاشمي، حكمتك وبعد نظرك، أفقت السكران من سكره». وتمثل تلك القصيدة الصغيرة هجوم على خامنئي الذي اتهمه رافسنجاني، من دون أن يسميه، بأنه «سكران بالشعارات». ويرى رافسنجاني أن «الاتفاق» نقطة انطلاق لحملته الرامية إلى السيطرة على المجلس الإسلامي، ومجلس الخبراء، الذي سيختار «المرشد الأعلى» في الانتخابات العامة خلال العام المقبل. وفي النهاية سيشغل منصب خامنئي إلى جانب أحد مساعديه. ومرشح رافسنجاني هو حسن الخميني، حفيد آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإيرانية.

تجاهل «المرشد الأعلى»
من أجل الإبقاء على المسافة الفاصلة بينه وبين خامنئي، قام رافسنجاني بأمرين خلال الأسبوع الماضي. كان الأول هو رفض الانضمام إلى الحضور الذي يقدمه خامنئي إلى رموز النظام. وظهر المقعد، الذي كان مخصصا لرافسنجاني، خاليا لأول مرة منذ عقود خلال الفعالية التي بثت على الهواء مباشرا. وكان الأمر الثاني في احتفالات عيد الفطر عندما تولى خامنئي إمامة الصلاة، ولم يقف رافسنجاني في الصف الأول، وفي النهاية غادر من دون إلقاء التحية على «المرشد الأعلى».
كذا يمكن اعتبار الجيش الإيراني من بين الرابحين. حتى قبل الإعلان عن «الاتفاق»، زاد روحاني ميزانية الجيش بنسبة 23 في المائة. وفي ظل الموارد المالية الجديدة، يمكن للجيش الإيراني أن يضغط لتنفيذ مشروعين. الأول هو تعزيز وجوده في العراق، وسوريا، ولبنان، قبل أن يحاول أي رئيس أميركي جديد من المحتمل أن يتسم بالعدائية التراجع عن سياسة أوباما الداعمة لطهران. الهدف المقبل هو بدء عمليات بناء هائلة في البحرية الإيرانية النظامية، والعمليات غير النظامية التي يسيطر عليها الحرس الثوري. ويعلم المخططون العسكريون في طهران أن أصول سلاح البحرية القادرة على توفير الدعم اللوجيستي ضرورية لمشروعات بناء إمبراطورية. ولا يوجد لدى أي دولة إقليمية في اللحظة الراهنة سلاح بحرية، حيث يعتمدون جميعهم على الولايات المتحدة في توفير الأمن البحري. وتعزز معاهدة الحدود البحرية، التي أقنعت إيران عمان بتوقيعها منذ بضعة أسابيع، طموحات طهران البحرية. وتضمن البحرية الإيرانية لعمان الحقوق البحرية في الجزر العمانية في خليج عمان وبحر العرب. وتعد جزيرة بيت الغنم من الجزر العمانية المهمة التي تعد البوابة الجنوبية لمضيق هرمز. كذلك لدى إيران قواعد بحرية في سوريا وأصول بحرية في لبنان بفضل وحدات تنظيم حزب الله الذي يخضع لسيطرة الجمهورية الإسلامية.
الخاسرون
تعد تركيا من بين الأطراف الخاسرة، حيث استفادت كثيرا من العقوبات المفروضة على إيران من خلال توفيرها لقنوات بديلة. ومع استعادة إيران للعلاقات التجارية الدولية المباشرة، سوف تخسر تركيا قدرا هائلا من العائدات التي كانت تحققها نظير رسوم النقل عبر أراضيها. ويظل الأسوأ هو أنه من المؤكد أن يزيد وجود جمهورية إسلامية وقوية الضغط على تركيا لقبول قيادة خمينية. ونشرت صحيفة «كيهان» اليومية، الناطقة باسم خامنئي، مقال افتتاحي يوم السبت يدعو تركيا إلى «الانضمام إلى جبهة المقاومة» تحت قيادة إيرانية، والاعتراف ببشار الأسد كرئيس شرعي لسوريا، والامتناع عن «ظلم الأقلية من العلويين والأكراد».
وهناك خاسر محتمل آخر وهو دبي، الإمارة التي كانت بمثابة عصب النشاط المصرفي والتجاري الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي. وبحسب آية الله شرودي، أحد مساعدي خامنئي، تزيد الاستثمارات الإيرانية في دبي على الـ700 مليار دولار. كذلك سينتهي الحال بأكثر دول المنطقة إلى التحول إلى خاسرين. وسيصبح نظام يدعم آيديولوجية راديكالية، ويسعى لزعامة العالم الإسلامي كله، أقوى لما سيراه خضوعا واستسلاما من قبل الولايات المتحدة. وهذا واضح بالفعل مع تكثيف حملة الخميني الدعائية على أساس إعلان خامنئي بداية الشهر الحالي عن «منطقة نفوذ» إيرانية.
ويعد ذكر خامنئي للبحرين واليمن ضمن منطقة النفوذ مثار قلق بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وقال حميد زمردي، مخطط جيو استراتيجي: «أعلن خامنئي عن مشروع بناء إمبراطورية بذريعة معالجة الانقسامات الداخلية في النظام. ويمكن أن يتيح مثل هذا المشروع للفرق المتنافسة التعاون سويا من أجل تصدير الثورة».

إسرائيل أكبر الخاسرين
من جانب يمكن اعتبار بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، واحدًا من الخاسرين لأنه أخفق في منع التوصل إلى «الاتفاق» الذي أبرم في فيينا؛ ومن جانب آخر، يرى بعض القيادات الإسرائيلية، ومن بينهم قادة سابقون لجهاز الموساد الإسرائيلي مثل مائير دوغان، وإفرايم هليفي، إيران كحليف استراتيجي للدولة اليهودية. وحجتهم في هذا الصدد هي أن كلا من إسرائيل وإيران لا ترغب في شرق أوسط يهيمن عليه الإسلام السني أو القومية العربية. وباستثناء الحملة الدعائية، لم يتخذ الملالي أي موقف ضد إسرائيل؛ فهم يستخدمون القضية الفلسطينية فقط لإقناع العرب بنسيان أن إيران قوة شيعية واحترام قيادتها. ويشير البعض ومن بينهم ديفيد لورد أليانس، أحد أعضاء مجلس اللوردات البريطاني، إلى أن إسرائيل تدعو إيران إلى المشاركة في إدارة «المواقع المقدسة» الإسلامية في القدس.
مع ذلك يمكن أن ينتهي الحال بخامنئي، والفصائل المتشددة، التي تدعمه داخل إيران، إلى أن يكونوا من بين الخاسرين في حال ساعد الـ«اتفاق» في إنقاذ الجمهورية الإسلامية من أكبر أزمة اقتصادية مرت بها منذ الخمسينات. إذا حدث تطبيع للعلاقات مع الولايات المتحدة، سيحرم النظام من الدعامة الآيديولوجية الرئيسية التي تتمثل في شعار «الموت لأميركا». ويمكن لرافسنجاني و«مجموعة نيويورك» المحيطة به تقديم «حل صيني» تظل فيه الجمهورية الإسلامية نظاما قمعيا في الداخل، مع إقامة علاقات قوية مع الولايات المتحدة؛ بل إنهم مستعدون لوضع الجمهورية الإسلامية تحت وصاية القوى الكبرى لمدة تتراوح بين 10 و15 عاما من أجل ضمان بقاء النظام. ويقول إبراهيم أصغر زاده، أحد المشاركين في عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية والذي أصبح داعما للإصلاح: «في تلك الحالة قد تكون الطبقات الوسيطة الإيرانية من الخاسرين. بل قد يصبح حتى روحاني من الخاسرين».

الإرهاب
لن يضع الـ«اتفاق» حدا لدور الجمهورية الإسلامية في دعم الإرهاب قي مختلف أنحاء العالم. وسوف يستمر تدريب، وتمويل، وتسليح حزب الله، وحماس، والجهاد الإسلامي، وغيرها من الجماعات المماثلة، بل وقد يزداد. ومن المؤكد أن أوباما يعلم أن طهران هي العاصمة التي لأغلب التنظيمات الإرهابية، ومنها غير الإسلامية من أميركا اللاتينية، مكاتب بها، والتي تعقد بها مؤتمرات سنوية كل فبراير (شباط). وسوف تحافظ طهران على هذا التقليد الذي بدأ خلال الأشهر القليلة الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية، وهو احتجاز بعض الرهائن الأميركيين سواء داخل إيران، أو على أيدي عملاء الخميني في مناطق أخرى من الشرق الأوسط. ومنذ عام 1979 لم يمر يوم دون أن يحتجز أتباع الخميني بعض الأميركيين. ولا يزال هناك أربع رهائن محتجزون حاليا في طهران وهناك واحد مفقود. ويمكن للاتفاق أن يشجع أكثر العناصر تطرفا في نظام يستعد بالفعل إلى شن حملة ملاحقة كبيرة على مستوى البلاد ضد كل أشكال المعارضة وذلك بحسب تقارير في أنحاء إيران. وتم القبض على عشرات من نشطاء حقوق الإنسان، ونشطاء عماليين، ونشطاء في مجال حقوق الأقليات العرقية، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، في الوقت الذي تروج فيه حملة تعرف باسم «العفة الإسلامية» لإجراءات جديدة ضد النساء. ودائما ما يكون الاتجاه نحو الثورة والإرهاب سهلا، والابتعاد عنه صعبا. لهذا لا يستبعد الكثير من المراقبين في إيران حدوث أي مفاجآت حين يتعلق الأمر بالرابحين والخاسرين في الـ«اتفاق».



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.