الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

أوباما أضافه إلى إرثه السياسي.. وأوروبا تتسابق لقطف الثمار التجارية.. وتركيا من الأطراف الخاسرة

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون
TT

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

الاتفاق النووي الإيراني.. الرابحون والخاسرون

لا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن يصبح الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني واقعا ملموسا على الأرض إن أصبح كذلك بالأساس. مع ذلك حتى إذا لم يصبح واقعا، فقد أسفرت العملية ذاتها عن خاسرين ورابحين محتملين.
لا توجد صلاحية قانونية للاتفاق المبدئي، الذي يعرف بالخطة الشاملة، لأن أحدا لم يوقع عليه، مع ذلك فإن القرار، الذي أصدره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي وهو السابع الخاص بهذا الأمر، قد ينظر إليه باعتباره يضفي قدرًا من الشرعية على الخطة.
وصوتت الولايات المتحدة بصفتها راعية للقرار لصالحه مما جعلها ملتزمة به، أما إيران، فهي ليست عضوا في مجلس الأمن، ولم يكن عليها التصويت ولم تتقبله. ولن يكون قبول قرار جديد بالأمر اليسير، لكنه يقوم على ستة قرارات سابقة رفضتها إيران.
ولمح جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، يوم السبت الماضي إلى أن الجمهورية الإسلامية قد لا تقبل القرار الجديد وهو ما يجعل الغموض يلف القضية برمتها في هذه الحالة. وقال ظريف: «يوضح نص الخطة أن فحواها لا يتطابق مع فحوى القرار 2231، وبالخلط بين الاثنين يثير جون كيري حالة من الارتباك».
وحتى تقبل إيران القرار الجديد وتمنح سندا قانونيا للخطة يجب أن يوافق مجلس الوزراء على النص أولا، ومن ثم سيتم تقديم الخطة إلى المجلس الأعلى للدفاع الوطني؛ وفي حال الموافقة عليه، ستتم إحالة النص إلى المجلس الإسلامي، الذي سيحيله بدوره، في حال الموافقة عليه، إلى مجلس صيانة الدستور. وفي النهاية، سيتم تقديم النص إلى «المرشد الأعلى»، والذي لا يوجد ما يلزمه بقبوله، بل يمكنه إلغاؤه في أي وقت بموجب الحكم الحكومي.
الوثيقة الوحيدة التي وقعت عليها إيران في فيينا هي ما يطلق عليها يوكيو أمانو، مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية «خريطة طريق» للتعامل مع مخاوف الوكالة الدولية بشأن الجوانب العسكرية للبرنامج النووي الإيراني مع التوجه لإصدار تقرير. ولا يزال النص سريا. مع ذلك لا يعني التوقيع الكثير؛ فعلى مدى الاثني عشر عاما الماضية وقعت إيران على مثل تلك الوثائق في ثلاث مناسبات ولم تكن تلتزم بها في كل مرة.
في كل الأحوال، لا توضح «خريطة الطريق» الوجهة، أو السرعة، أو الوسيلة، أو حتى ما إذا كان ينبغي بدء الرحلة بالأساس أم لا. ولا يمكن لأي «خريطة الطريق» أن تمنع المرء من تجاوز بعض النقاط أو حتى التراجع.

الرابحون
رغم أن ما بحوزتنا ليس سوى اتفاق غير حقيقي، يبدو رد الفعل العام تجاهه إيجابيًا. وليس من الصعب فهم ذلك. من بين الرابحين الرئيس باراك أوباما، الذي تمكن من اتخاذ هذه الخطوة في الفترة المتبقية من رئاسته، ويتفاخر بالفعل بذلك «النجاح التاريخي» الذي سيصقل إرثه.
وترضى روسيا عن الاتفاق لأنها تريد نصيبا من الأصول الإيرانية المتجمدة من خلال بيع أسلحة لطهران. وخلال المفاوضات التي تمت في فيينا، قاد حسين ديغان وزير الدفاع الإيراني وفد شارك به 40 شخصا إلى موسكو لمناقشة مشتريات الأسلحة. ولحق بالوفد حبيب الله سياري، قائد البحرية الإيرانية، الذي يريد تطوير، وإعادة تسليح قوته بمساعدة روسيا.
كذلك ترضى الصين عن الاتفاق لأنها بدأت إبرام اتفاقيات من أجل بناء خمس منشآت نووية في إيران، وتعتزم ضخ استثمارات ضخمة في صناعة النفط الإيراني. الجدير بالذكر أن إيران تعتمد على النفط الإيراني في سد 11 في المائة من احتياجاتها. وترضى ألمانيا عن الاتفاق لأن إيران هي أكبر شريك تجاري في الشرق الأوسط. وزادت الصادرات الألمانية إلى إيران بنسبة 32 في المائة خلال العام الماضي بفضل ضمانات الحكومة، التي تعتمد على الأمل في «اتفاق» يضع المزيد من المال في جيوب الإيرانيين. وترضى فرنسا عن الاتفاق لأن من شأنه تحفيز مبيعات الأسلحة إلى العرب الذين يشعرون بالقلق من تسلح إيران النووي. كذلك وقعت فرنسا على اتفاق من أجل إنشاء محطات كهرباء تعمل بالطاقة النووية في الكثير من الدول العربية من بينها مصر.
أما داخل إيران، فالرابح المباشر هو الفصيل الذي يقوده الرئيس هاشمي رافسنجاني وبه الرئيس حسن روحاني وأغلبية الوزراء في مجلس وزرائه. ويوم الإعلان عن «الاتفاق» في فيينا، نشر رافسنجاني ملصقا يظهر فيه على خلفية من الشمس المشرقة، وإلى جواره صورة روحاني، ووزير الخارجية ظريف، بحجم أصغر من رافسنجاني. وكان التعليق المصاحب للملصق «هاشمي، حكمتك وبعد نظرك، أفقت السكران من سكره». وتمثل تلك القصيدة الصغيرة هجوم على خامنئي الذي اتهمه رافسنجاني، من دون أن يسميه، بأنه «سكران بالشعارات». ويرى رافسنجاني أن «الاتفاق» نقطة انطلاق لحملته الرامية إلى السيطرة على المجلس الإسلامي، ومجلس الخبراء، الذي سيختار «المرشد الأعلى» في الانتخابات العامة خلال العام المقبل. وفي النهاية سيشغل منصب خامنئي إلى جانب أحد مساعديه. ومرشح رافسنجاني هو حسن الخميني، حفيد آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإيرانية.

تجاهل «المرشد الأعلى»
من أجل الإبقاء على المسافة الفاصلة بينه وبين خامنئي، قام رافسنجاني بأمرين خلال الأسبوع الماضي. كان الأول هو رفض الانضمام إلى الحضور الذي يقدمه خامنئي إلى رموز النظام. وظهر المقعد، الذي كان مخصصا لرافسنجاني، خاليا لأول مرة منذ عقود خلال الفعالية التي بثت على الهواء مباشرا. وكان الأمر الثاني في احتفالات عيد الفطر عندما تولى خامنئي إمامة الصلاة، ولم يقف رافسنجاني في الصف الأول، وفي النهاية غادر من دون إلقاء التحية على «المرشد الأعلى».
كذا يمكن اعتبار الجيش الإيراني من بين الرابحين. حتى قبل الإعلان عن «الاتفاق»، زاد روحاني ميزانية الجيش بنسبة 23 في المائة. وفي ظل الموارد المالية الجديدة، يمكن للجيش الإيراني أن يضغط لتنفيذ مشروعين. الأول هو تعزيز وجوده في العراق، وسوريا، ولبنان، قبل أن يحاول أي رئيس أميركي جديد من المحتمل أن يتسم بالعدائية التراجع عن سياسة أوباما الداعمة لطهران. الهدف المقبل هو بدء عمليات بناء هائلة في البحرية الإيرانية النظامية، والعمليات غير النظامية التي يسيطر عليها الحرس الثوري. ويعلم المخططون العسكريون في طهران أن أصول سلاح البحرية القادرة على توفير الدعم اللوجيستي ضرورية لمشروعات بناء إمبراطورية. ولا يوجد لدى أي دولة إقليمية في اللحظة الراهنة سلاح بحرية، حيث يعتمدون جميعهم على الولايات المتحدة في توفير الأمن البحري. وتعزز معاهدة الحدود البحرية، التي أقنعت إيران عمان بتوقيعها منذ بضعة أسابيع، طموحات طهران البحرية. وتضمن البحرية الإيرانية لعمان الحقوق البحرية في الجزر العمانية في خليج عمان وبحر العرب. وتعد جزيرة بيت الغنم من الجزر العمانية المهمة التي تعد البوابة الجنوبية لمضيق هرمز. كذلك لدى إيران قواعد بحرية في سوريا وأصول بحرية في لبنان بفضل وحدات تنظيم حزب الله الذي يخضع لسيطرة الجمهورية الإسلامية.
الخاسرون
تعد تركيا من بين الأطراف الخاسرة، حيث استفادت كثيرا من العقوبات المفروضة على إيران من خلال توفيرها لقنوات بديلة. ومع استعادة إيران للعلاقات التجارية الدولية المباشرة، سوف تخسر تركيا قدرا هائلا من العائدات التي كانت تحققها نظير رسوم النقل عبر أراضيها. ويظل الأسوأ هو أنه من المؤكد أن يزيد وجود جمهورية إسلامية وقوية الضغط على تركيا لقبول قيادة خمينية. ونشرت صحيفة «كيهان» اليومية، الناطقة باسم خامنئي، مقال افتتاحي يوم السبت يدعو تركيا إلى «الانضمام إلى جبهة المقاومة» تحت قيادة إيرانية، والاعتراف ببشار الأسد كرئيس شرعي لسوريا، والامتناع عن «ظلم الأقلية من العلويين والأكراد».
وهناك خاسر محتمل آخر وهو دبي، الإمارة التي كانت بمثابة عصب النشاط المصرفي والتجاري الإيراني منذ ثمانينات القرن الماضي. وبحسب آية الله شرودي، أحد مساعدي خامنئي، تزيد الاستثمارات الإيرانية في دبي على الـ700 مليار دولار. كذلك سينتهي الحال بأكثر دول المنطقة إلى التحول إلى خاسرين. وسيصبح نظام يدعم آيديولوجية راديكالية، ويسعى لزعامة العالم الإسلامي كله، أقوى لما سيراه خضوعا واستسلاما من قبل الولايات المتحدة. وهذا واضح بالفعل مع تكثيف حملة الخميني الدعائية على أساس إعلان خامنئي بداية الشهر الحالي عن «منطقة نفوذ» إيرانية.
ويعد ذكر خامنئي للبحرين واليمن ضمن منطقة النفوذ مثار قلق بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وقال حميد زمردي، مخطط جيو استراتيجي: «أعلن خامنئي عن مشروع بناء إمبراطورية بذريعة معالجة الانقسامات الداخلية في النظام. ويمكن أن يتيح مثل هذا المشروع للفرق المتنافسة التعاون سويا من أجل تصدير الثورة».

إسرائيل أكبر الخاسرين
من جانب يمكن اعتبار بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، واحدًا من الخاسرين لأنه أخفق في منع التوصل إلى «الاتفاق» الذي أبرم في فيينا؛ ومن جانب آخر، يرى بعض القيادات الإسرائيلية، ومن بينهم قادة سابقون لجهاز الموساد الإسرائيلي مثل مائير دوغان، وإفرايم هليفي، إيران كحليف استراتيجي للدولة اليهودية. وحجتهم في هذا الصدد هي أن كلا من إسرائيل وإيران لا ترغب في شرق أوسط يهيمن عليه الإسلام السني أو القومية العربية. وباستثناء الحملة الدعائية، لم يتخذ الملالي أي موقف ضد إسرائيل؛ فهم يستخدمون القضية الفلسطينية فقط لإقناع العرب بنسيان أن إيران قوة شيعية واحترام قيادتها. ويشير البعض ومن بينهم ديفيد لورد أليانس، أحد أعضاء مجلس اللوردات البريطاني، إلى أن إسرائيل تدعو إيران إلى المشاركة في إدارة «المواقع المقدسة» الإسلامية في القدس.
مع ذلك يمكن أن ينتهي الحال بخامنئي، والفصائل المتشددة، التي تدعمه داخل إيران، إلى أن يكونوا من بين الخاسرين في حال ساعد الـ«اتفاق» في إنقاذ الجمهورية الإسلامية من أكبر أزمة اقتصادية مرت بها منذ الخمسينات. إذا حدث تطبيع للعلاقات مع الولايات المتحدة، سيحرم النظام من الدعامة الآيديولوجية الرئيسية التي تتمثل في شعار «الموت لأميركا». ويمكن لرافسنجاني و«مجموعة نيويورك» المحيطة به تقديم «حل صيني» تظل فيه الجمهورية الإسلامية نظاما قمعيا في الداخل، مع إقامة علاقات قوية مع الولايات المتحدة؛ بل إنهم مستعدون لوضع الجمهورية الإسلامية تحت وصاية القوى الكبرى لمدة تتراوح بين 10 و15 عاما من أجل ضمان بقاء النظام. ويقول إبراهيم أصغر زاده، أحد المشاركين في عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية والذي أصبح داعما للإصلاح: «في تلك الحالة قد تكون الطبقات الوسيطة الإيرانية من الخاسرين. بل قد يصبح حتى روحاني من الخاسرين».

الإرهاب
لن يضع الـ«اتفاق» حدا لدور الجمهورية الإسلامية في دعم الإرهاب قي مختلف أنحاء العالم. وسوف يستمر تدريب، وتمويل، وتسليح حزب الله، وحماس، والجهاد الإسلامي، وغيرها من الجماعات المماثلة، بل وقد يزداد. ومن المؤكد أن أوباما يعلم أن طهران هي العاصمة التي لأغلب التنظيمات الإرهابية، ومنها غير الإسلامية من أميركا اللاتينية، مكاتب بها، والتي تعقد بها مؤتمرات سنوية كل فبراير (شباط). وسوف تحافظ طهران على هذا التقليد الذي بدأ خلال الأشهر القليلة الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية، وهو احتجاز بعض الرهائن الأميركيين سواء داخل إيران، أو على أيدي عملاء الخميني في مناطق أخرى من الشرق الأوسط. ومنذ عام 1979 لم يمر يوم دون أن يحتجز أتباع الخميني بعض الأميركيين. ولا يزال هناك أربع رهائن محتجزون حاليا في طهران وهناك واحد مفقود. ويمكن للاتفاق أن يشجع أكثر العناصر تطرفا في نظام يستعد بالفعل إلى شن حملة ملاحقة كبيرة على مستوى البلاد ضد كل أشكال المعارضة وذلك بحسب تقارير في أنحاء إيران. وتم القبض على عشرات من نشطاء حقوق الإنسان، ونشطاء عماليين، ونشطاء في مجال حقوق الأقليات العرقية، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، في الوقت الذي تروج فيه حملة تعرف باسم «العفة الإسلامية» لإجراءات جديدة ضد النساء. ودائما ما يكون الاتجاه نحو الثورة والإرهاب سهلا، والابتعاد عنه صعبا. لهذا لا يستبعد الكثير من المراقبين في إيران حدوث أي مفاجآت حين يتعلق الأمر بالرابحين والخاسرين في الـ«اتفاق».



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.