أعلنت هيئة التراث السعودية العثور على نقوش كتابية وثلاثة خواتم ورأس ثور من البرونز في موقع الأخدود الأثري، وقالت إن رأس الثور الذي عُثر عليه يحمل آثار الأكسدة، ويُجرى العمل على ترميمه. وأشارت في بيانها إلى حضور صورة الثور الدائم في آثار ممالك جنوب الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام، كرمز للقوة والخصوبة والعطاء.
تقع قرية الأخدود في منطقة نجران، جنوب السعودية، وتُعدّ اليوم من المواقع الأثرية والسياحية المهمة. يرتبط اسم هذه القرية بالروايات التي تناقلها أهل الأخبار من المسلمين عن نصارى نجران الذين قضوا على أيدي جند ذي نواس اليهودي المتولي على مملكة الحميريين في سبأ، وهم في كتب التفسير «أصحاب الأخدود»، الذين ألقوا بالمؤمنين في «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ» (البروج 5 - 7).
في الجزء الأول من «السيرة النبوية»، تحدّث ابن هشام عن ذي نواس الذي «اجتمعت عليه حِمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حِمير، وهو صاحب الأخدود». وقدّم الراوي في عرضه التاريخي رواية تناول فيها انقضاض جند هذا الملك على نصارى نجران بغرض دعوتهم إلى اليهودية. استهل الراوي حكايته بالحديث عن النصارى في نجران، وهم «بقايا من أهل دين عيسى بن مريم، عليهما السلام، على الإنجيل، أهل فضل، واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له عبد الله بن الثامر، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهي بأوسط أرض العرب في ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها».
كانت نجران بأوسط أرض العرب، وتعرّضت لحملات عسكرية شنّتها القوى العظمى في فترات مختلفة من التاريخ، وأشهر تلك الحملات هي تلك التي قادها ذو النواس ملك الحِميريين. بحسب رواية ابن هشام، انقضّ هذا الملك بجنوده على أهل نجران، «فدعاهم إلى اليهودية، وخيّرهم بين ذلك والقتل، فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود، فحُرق من حُرق بالنار، وقُتل من قُتل بالسيف، ومثّل بهم حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً». والأخدود في تفسير صاحب السيرة «الحفر المستطيل في الأرض، كالخندق والجدول ونحوه، وجمعه أخاديد». والقرية التي تحمل هذا الاسم هي تلك التي شهدت هذه المحرقة بحسب التقليد المتوارث، ويبدو أنها خربت وتحوّلت إلى أطلال.
في القرن الحادي عشر، ذكر أبو عبيد الله البكري «الأخدود» في معجمه، وكتب في تعريفه به «كان في قرية من قرى نجران، وهي اليوم خراب، ليس فيها إلا المسجد الذي أمر عمر بن الخطّاب ببنائه».
بدأ استكشاف هذه القرية في القرن التاسع عشر، وكان أوّل من ذكرها كارستن نيبور، الرحّالة والجغرافي الألماني الذي عمل في خدمة الدولة الدنماركية، وتبعه جوزيف هاليفي، المستشرق الفرنسي الذي زار المنطقة، ونشر «تقريراً عن بعثة أثرية في اليمن» في 1872، ثم «رحلة في نجران» في 1873. في القرن العشرين، أنجز المستعرب البريطاني جون فيلبي أول وصف ميداني دقيق للموقع، ونشر تقريره في 1952. وفي صيف 1968، قام الأميركي غاس فان بيك بحملة تنقيب واسعة في الموقع، فكشف عن مواقع جديدة في جنوب القرية. توالت البعثات الأجنبية والمحلية، ومعها خرجت الأخدود من الظلمة إلى النور، وخرجت منها مجموعة كبيرة من اللقى، آخرها تلك التي أعلنتها هيئة التراث السعودية.
حوت هذه اللقى كتابة تذكارية منقوشة على حجر من الغرانيت بخط المسند الذي كان يستخدمه عرب الجنوب، وهي مكوّنة من سطر واحد، يبلغ طوله 230 سم وارتفاعه 48 سم تقريباً، وتُعدّ أطول نقش مسندي عُثر عليه في هذه المنطقة، وهي تعود لأحد سكان موقع الأخدود، واسمه وهب إيل بن مأقن. كما حوت «ثلاثة خواتم من الذهب عليها من الأعلى زخارف على شكل فراشة وجميعها تأخذ نفس الشكل والمقاس، وهي معثورات غير مسبوقة في موقع الأخدود»، كما يقول التقرير، ورأس ثور من البرونز يماثل بأسلوبه العديد من رؤوس الثيران التي خرجت من مواقع أثرية أخرى، تعود إلى السلالات الحاكمة التي برزت في جنوب الجزيرة العربية، من السبئيين، إلى المعينيين، إلى القتبانيين.
برز الثور في مختلف أنحاء الشرق القديم، وتعدّدت وجوهه دينياً ومدنياً، غير أنه حضر في المقام الأول كرمز للقوة والخصوبة والعطاء. في بلاد ما بين النهرين، قيل عن جلجامش «الكامل القوة» إنه «الثور النطوح»، وقيل إنه «الظاهر فوق جميع الرجال كثور وحشي»، وجلجامش هو الذي رفض دعوة المعبودة عشتار، فثارت وطلبت من والدها أن ينتقم لها، فأرسل من السماء ثوراً مقدساً لهذا الغرض، ونجح جلجامش في الإجهاز على هذا الثور بعد أن أمسك رفيقه أنكيدو بقرنيه. والثور حاضر في فنون بلاد الرافدين، وصوره في هذا الميدان عديدة ومتنوعة، كما أنه حاضر في نواحي الهلال الخصيب، حيث يقترن اسمه بأسماء كبار الآلهة كنعت ولقب. وهو في مصر «آبيس» الذي وُلد نتيجة نزول شعاع من أشعة الشمس من السماء على بقرة، وكان على صورة عجل ذي لونين أبيض وأسود، مع مثّلث أبيض فوق جبهته، وهلال قمري على جانبه الأيمن.
والثور حاضر في الميراث اليهودي، حيث كانت العجول تقدم كذبائح، لا سيما كمحروقات، كما جاء بشكل مفصل في سفر الخروج (29)، وسفر اللاويين (4). واللافت، أن صور الثور وجدت طريقاً لها في الفنون العبرانية كما يبدو، ففي هيكل سليمان صُنع البحر المسبوك، «وكان قائماً على اثني عشر ثوراً: ثلاثة متوجهة إلى الشمال، وثلاثة متوجهة إلى الغرب، وثلاثة متوجهة إلى الجنوب، وثلاثة متوجهة إلى الشرق»، كما جاء في سفر الملوك الأول (7: 23). وفي التقاويم العبرانية القديمة، كما في التقاويم الكنعانية، يُشار إلى الفصول الأربعة باثني عشر ثوراً، منتظمة في أربعة أقسام، وفي كل قسم ثلاثة ثيران.
من العديد من المواقع الأثرية اليمنية، خرج عدد كبير من رؤوس الثيران، منها العاجي، والحجري، والبرونزي. وأحجام هذه الرؤوس متعدّدة، فمنها الكبير، ومنها المتوسط، ومنها الصغير، وهي تعود إلى حقبة زمنية تمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى، ويصعب تأريخها بدقّة. يماثل ثور الأخدود هذه الثيران، ويشكّل امتداداً لها، ويشهد لحضور هذا التقليد الفني في هذه الناحية من نجران.
رأس الثور... رمز القوة والخصوبة والعطاء
اكتُشف في قرية الأخدود بمنطقة نجران جنوب السعودية
رأس الثور... رمز القوة والخصوبة والعطاء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة