بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط جدار برلين، عاد شبح الجدران والأسلاك الشائكة لحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي ليعمّق الانقسام الحاد بين البلدان الأعضاء حول ميثاق الهجرة المتعثر منذ سنوات، والذي ستعود القمة المقبلة إلى مناقشته استناداً إلى المسودة الأخيرة التي وضعتها المفوضية بعد جولات متوترة من مفاوضات ماراثونية كشفت عمق الخلافات بين الشركاء الأوروبيين ومدى ارتباط هذا الملف بالسياسات الداخلية، وما يثيره من حساسية بين الشركاء الذين تتباعد مواقفهم منه إلى حد التسبب في أزمات سياسية وصلت إلى القطيعة الدبلوماسية، كما حدث مؤخراً بين فرنسا وإيطاليا.
قلّة هم الذين يعرفون أنه خلال السنوات الثماني المنصرمة أقامت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ما يزيد على 1700 من الجدران، ليس للدفاع أمام هجوم عسكري محتمل، بل من المهاجرين واللاجئين الوافدين من مناطق الحروب والنزاعات والأزمات المعيشية.
لكن اللافت اليوم، هو أنه لم يعد هناك الخلاف حول إقامة هذه الجدران، التي وصفها رئيس وزراء لوكسمبورغ مؤخراً بأنها وصمة عار على جبين الاتحاد؛ فالقمة الأخيرة التي عقدها قادة الاتحاد في التاسع من هذا الشهر، أعطت الضوء الأخضر لبناء هذه الجدران، لكنها لم تحسم الخلاف حول الجهة الممولة؛ إذ ترفض المفوضية أن يكون التمويل من الموازنة المشتركة، كما هي الحال بالنسبة لأجهزة الرادار والطائرات المسيّرة، وتصرّ على أن تتحمّل الدول الأعضاء كل تكاليف بناء الجدران ورفع الأسلاك على حدودها.
إلى جانب المفوضية تقف دول مثل؛ ألمانيا وإسبانيا وفرنسا، التي ترى أن الموازنة الأوروبية يجب ألا تموّل رفع المزيد من الجدران على حدود الاتحاد الخارجية، وأن ثمّة وسائل أخرى أكثر فاعلية لوقف تدفق الهجرة غير الشرعية إلى البلدان الأعضاء، لكن الدول التي تؤيد هذه الفكرة، والتي تتزعمها مجموعة «فيسغراد» التي تضمّ الجمهورية التشيكية وبولندا وسلوفاكيا والمجر، مدعومة من إيطاليا والنمسا واليونان، تصرّ على بناء الجدران، وتدفع النقاش الأوروبي الدائر حول ملف الهجرة إلى مزيد من التشدد في التدابير التي سيتضمنها الميثاق الموعود منذ سنوات. والواقع أن إغراء الحدود الخارجية للاتحاد كان حاضراً دائماً على بساط البحث في الاتحاد الأوروبي، الذي قام أصلاً على إزالة الحدود الداخلية في الوقت الذي كان يحصّن فيه حدوده الخارجية. وكانت 12 دولة من أعضاء الاتحاد قد وجهت كتاباً إلى المفوضية في خريف العام الفائت، تطالبها فيه بإعطاء الأولوية لبناء حواجز مادية على الحدود الخارجية لمنع دخول المهاجرين غير الشرعيين.
إسبانيا كانت أولى الدول التي رفعت حواجز على حدودها مع المغرب عند مدينتي سبتة ومليلة، بينما بلغاريا، أفقر دول الاتحاد، سيّجت 98 في المائة من حدودها مع تركيا. وفي عام 2015، عندما نشبت أزمة اللاجئين الكبرى في أعقاب تفاقم الحرب السورية، تكاثرت الحواجز على الحدود الخارجية في المجر والنمسا وليتوانيا وسلوفينيا وحتى في فرنسا. وعلى الرغم من تدني تدفقات المهاجرين في السنوات اللاحقة، فقد أصبح هذا الملف أحد العناوين الرئيسية للنقاش السياسي في العديد من البلدان الأعضاء، في الوقت الذي كانت تستخدمه بعض الدول المجاورة للمطالبات بتنازلات، وأحياناً لزعزعة الاستقرار داخل الاتحاد. وكانت آخر هذه المحاولات، التي أطلق عليها الأوروبيون «التهديد الهجين»، عندما فتحت بيلاروسيا حدودها صيف عام 2021، ودفعت بعشرات الآلاف من المهاجرين إلى بولندا وليتوانيا التي سارعت في أعقاب ذلك إلى بناء الجدران على حدودها الخارجية لوقف تدفق المهاجرين. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، عادت المخاوف من أن تلجأ موسكو إلى استخدام الهجرة كسلاح ضد الاتحاد الأوروبي، إذ أعلنت فنلندا مؤخراً عن نيتها بناء جدار على طول حدودها مع روسيا. ويقول المسؤولون في المفوضية إن الاتحاد الأوروبي أنفق 6.7 مليار يورو في السنوات الأربع المنصرمة لمراقبة الحدود الخارجية، لكن تمويل بناء الجدران على الحدود الخارجية ما زال على قائمة المحرمات في النقاش الدائر حول الهجرة.
والمسودة الأخيرة لميثاق الهجرة التي أعدتها المفوضية، واطلعت عليها «الشرق الأوسط»، تترك ثغرة قانونية تسمح بتمويل بناء الجدران من الموازنة المشتركة، لكنها توضح أن المفوضية ترفض مثل هذا التوجه، وتفضّل تعزيز موارد الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود الخارجية «فرونتكس»، وتمويل المزيد من أجهزة المراقبة الإلكترونية والأبراج الثابتة في المناطق الحساسة. وتلجأ المفوضية إلى استخدام مصطلح «البنى التحتية» عوضاً عن «الجدران»، الذي يثير حساسية شديدة لدى بعض الدول الأعضاء.
أياً كان الأمر، فقد أصبحت الجدران على حدود الاتحاد الخارجية تشكّل حاجزاً آيديولوجياً عالياً يفصل بين الدول الأعضاء، حيث إن رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين تعترض على موقف الكتلة السياسية التي تنتمي إليها، «الحزب الشعبي الأوروبي»، أحد المدافعين الرئيسيين عن الجدران، لكن مصادر في المفوضية تقول إن موقف فون دير لاين يستند إلى مبررات عملية؛ إذ إن بناء الجدران على طول الحدود الخارجية للاتحاد يكلّف مبالغ طائلة يمكن استخدامها لتمويل مشاريع أخرى، مثل اتفاقات مع بلدان المنشأ؛ كي تقبل بإعادة المهاجرين غير الشرعيين الموجودين في بلدان الاتحاد. وتقول الدول المعارضة لبناء الجدران إن هذه الجدران لن تحول دون تدفق المهاجرين غير الشرعيين، بل هي ستدفع باتجاه طرق جديدة، أطول من السابقة، وأكثر تكلفة وخطورة، وإن المستفيدين الحقيقيين في نهاية المطاف هم المهربون والشركات التي ستبني الجدران. يضاف إلى ذلك أن الجدران لا تميّز بين الذين يحق لهم طلب اللجوء إلى بلدان الاتحاد، والذين يريدون الدخول بصورة غير شرعية، فضلاً عن أن تمويلها يشكّل تناقضاً صارخاً بين القيم والمبادئ التي يقول الاتحاد إنه يدافع عنها، وما يقوم به في الواقع.
لكن الدول التي تؤيد بناء الجدران تصرّ على موقفها، وتهدد بتعطيل ملفات أخرى إذا رفض الاتحاد الأوروبي التجاوب مع مطالبها، خصوصاً أنها أصبحت تشكّل كتلة وازنة قادرة على عرقلة عمل المؤسسات في الكثير من المجالات الحساسة.
توتر في الاتحاد الأوروبي بسبب «الجدران» على حدوده الخارجية
توتر في الاتحاد الأوروبي بسبب «الجدران» على حدوده الخارجية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة