قصيدة النثر العربية... جذور تمتد في التراث العربي الأدبي والصوفي

ليست كلاً متجانساً وإنما هي إبداعات فردية

قصيدة النثر العربية... جذور تمتد في التراث العربي الأدبي والصوفي
TT

قصيدة النثر العربية... جذور تمتد في التراث العربي الأدبي والصوفي

قصيدة النثر العربية... جذور تمتد في التراث العربي الأدبي والصوفي

إذا استثنينا الخلاف الذي ثار بين أنصار القصيدة العمودية وأنصار القصيدة التفعيلية (أو ما دُعي بالشعر الحر أو الشعر الجديد) في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، عقب التجارب الريادية لبدر شاكر السياب ونازك الملائكة مما عدّ اختراقاً لعمود الشعر التقليدي، والجدل الذي دار بين دعاة «الفن للفن» ودعاة «الفن للمجتمع» في فترة تعاظم المد القومي والدعوة إلى الالتزام السياسي بقضايا الأمة في خمسينات القرن وستيناته، فإنه لا يكاد يوجد جنس أدبي أحدث من الضجة، وما زال يحدثها حتى اليوم، مثل ما يعرف بـ«قصيدة النثر».
ذهب منظرو هذه القصيدة وممارسوها (أدونيس وأنسي الحاج وإدوار الخراط وغيرهم) إلى أنها تجديد مشروع لشكل القصيدة العربية، وتعبير عن حساسية جديدة تواكب متغيرات العصر. بينما ذهب ناقدوها من المحافظين أو مجددون من شعراء التفعيلة إلى أن مصطلح «قصيدة النثر» في حد ذاته تناقض في الحدود - بتعبير المناطقة - إذ كيف يكون العمل شعراً ونثراً في آن؟ وما الضرر في أن يسمى «شعراً منثوراً» (مثل أعمال سابقة لجبران خليل جبران وبشر فارس وحسين عفيف وآخرين) أو «نثراً ذا طابع شاعري»؟
وصف أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة النثر بأنها «القصيدة الخرساء» ودعاها الدكتور أحمد درويش «عصيدة النثر» قاصداً بذلك أنها كائن هلامي يفتقر إلى شكل محدد. وفي غمرة الاتهامات المتبادلة بين المعسكرين تزداد الحاجة إلى درس علمي موضوعي يقيم هذا اللون من الكتابة تقييماً عادلاً، ويستكشف إمكاناته وحدوده، ويراه في منظور التطور التاريخي لأشكال القصيدة العربية.
وهذا على وجه الدقة هو ما يفعله كتاب باللغة الإنجليزية من تأليف هدى فخر الدين أستاذ الأدب العربي المساعد بجامعة بنسلفانيا الأميركية.
إنه كتاب «قصيدة النثر العربية» الصادر عام 2021 في سلسلة «دراسات جامعة إدنبره في الأدب العربي الحديث» التي يشرف عليها الدكتور رشيد العناني أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة إكستر البريطانية.
على امتداد سبعة فصول، تؤطرها مقدمة وكلمة لاحقة وببليوجرافيا، تقدم المؤلفة دراسة عميقة، تشهد بثقافة واسعة وحس نقدي رهيف، لقصيدة النثر نظرية وتطبيقاً بما يتيح لنا أن نرى مختلف جوانب القضية، وأن تكون أحكامنا الخاصة عن بصيرة وبينة وننعم النظر في المنجز الإبداعي والنقدي الذي يمثله هذا الشكل.
كانت نقطة الانطلاق أو إشارة البدء في التنظير لقصيدة النثر مقالة لأدونيس عنوانها «في قصيدة النثر» في العدد الرابع عشر من مجلة «شعر» البيروتية عام 1960، ومقدمة أنسي الحاج لديوانه المسمى «لن»، الصادر في العام نفسه.
استوحى كلا الشاعرين آراءه من كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الحاضر» الصادر قبل ذلك بعام (تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية في مرحلة لاحقة). ذهب أدونيس إلى أن قصيدة النثر بناء فني متميز مستقل بذاته. إنه قد يستخدم عنصر القص ولكنه إنما يفعل ذلك لأغراض شعرية خالصة. وعلى نحو مشابه قال أنسي الحاج إنها «نوع مستقل»، وحذر من أنها لافتقارها إلى الوزن يمكن أن تنزلق إلى مجرد نثر.
وترى المؤلفة أن قصيدة النثر لها جذور في التراث العربي الأدبي والصوفي. وتورد تمثيلاً لذلك «المواقف والمخاطبات» للنفري: «وقال لي: اقعد في ثقب الإبرة ولا تبرح، وإذا دخل الخيط في الإبرة فلا تمسكه، وإذا خرج فلا تمده، وافرح فإني لا أحب إلا الفرحان»، وكذلك «الإشارات الإلهية» لأبي حيان التوحيدي: «الهوى مركبي، والهدى مطلبي، فلا أنا أنزل عن مركبي، ولا أنا أصل إلى مطلبي». أما الخروج عن الوزن فيمثله أبو العتاهية القائل: «أنا أكبر من العروض» والخروج على مطالع القصيدة التقليدية يمثله أبو نواس، والإيغال في البعد العقلي واجتراح غير المألوف فيمثله أبو تمام القائل في صورة لافتة: «الشعر فرج ليست خصيصته إلا لمفترعه».
ولا تقتصر هدى فخر الدين على معالجة الجوانب النظرية من موضوعها، وإنما تقدم نقداً نصياً ممتازاً لعدد من القصائد كما في تحليلها المسهب لـ«مفرد بصيغة الجمع» لأدونيس، و«جنازة النسر» لمحمد الماغوط، و«قل ما تشاء» لمحمود درويش، و«استطراد في سياق مختزل» لسليم بركات (الذي ربما كان أعقد هؤلاء الشعراء وأعصاهم على الفهم)، وغيرهم.
وتتوقف المؤلفة عند عدد من الشعراء الأصغر سناً في مصر ممن أصدروا مجلة طليعية عنوانها «الجراد» بما يوحي لميلهم إلى التدمير وأكل الأخضر واليابس وحرق الأرض والعدمية. إنهم شعراء تسعينات القرن الماضي مثل أحمد طه ومحمد متولي. وقد أدانهم حلمي سالم في مقالة له بمجلة «نزوى» لما يشوب شعرهم من قصور لغوي وعروضي. وهؤلاء الشعراء أشبه بـ«أبطال - ضد» يغلب عليهم الشعور بالإحباط والكلبية.
وتلاحظ المؤلفة أن أدونيس طليعي ومحافظ في آن. فهو من ناحية مغروس في تراث الشعر العربي (المتنبي وأبو تمام والشريف الرضي والبحتري والمعري وغيرهم) وتراث النثر العربي. وقد انعكس هذا على مختاراته الشعرية والنثرية وعلى كتابه - الأطروحة «الثابت والمتحول» وسائر كتاباته النقدية. وهو من ناحية أخرى قارئ ذواقة للشعر الرمزي الفرنسي في القرنين التاسع عشر والعشرين ومترجم سان جون برس «ضيقة هي المراكب»، ومقيم الصلات بين الصوفية والسريالية.
وفي فصلها عن الماغوط تبرز هدى فخر الدين خصائص هذا الشاعر الذي كان من حيث الجوهر ريفياً محدود التعليم، ولكنه ذو موهبة فطرية نادرة تتميز بالسذاجة والبساطة، مع قدرة على ابتكار صور شعرية أصيلة، واعتماد أساسي على التشبيه أولاً، والاستعارة ثانياً.
ويبين الكتاب كيف يتقاطع الشعر والنثر في عمل درويش «ذاكرة للنسيان»، وكيف يجعل سليم بركات المألوف غريباً، وكيف أن وديع سعادة - اللبناني المهاجر إلى أستراليا - يكتب على حافة الصمت (تلاحظ المؤلفة في تحليلها النصي الوثيق أن أكثر الكلمات تردداً في شعر هذا الأخير هي كلمة «عبور». كما تلاحظ أن أكثر الكلمات تردداً في شعر سليم بركات هي «مديح» و«مشهد» و«سديم»). وتختم المؤلفة كتابها بكلمة وجيزة تقول فيها «إن عدداً من هؤلاء الشعراء قد أدلوا بدلوهم في ميدان الترجمة من لغات أجنبية (محمد بنيس، كاظم جهاد، بسام حجار)، مما أغنى قصائدهم الخاصة».
وتنتهي هدى فخر الدين إلى نتيجة مؤداها أن قصائد النثر ليست كلاً متجانساً، وإنما هي إبداعات فردية تحمل ميسم أصحابها وتتحرك في اتجاهات مختلفة. فشعراء هذه القصيدة لا يشكلون مدرسة موحدة وإنما يتفاعل بعضهم مع بعض، يتلاقون ويتصادمون، يتبادلون الأصداء، يتحاورون ويبني بعضهم على بناء بعض. ومنجزهم إنما هو فضاء إبداعي فسيح يضع تراث الماضي موضوع المساءلة، ويطمح إلى تجاوزه. وتظل قصيدة النثر - كما تقول المؤلفة - شكلاً متمدداً لا يكف عن الاتساع، ويمتاز بالتنوع، وهي جزء لا يمكن تجاهله من تضاريس الخريطة الشعرية المعاصرة.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اكتشاف «مدينة سرية» أسفل طبقات الجليد في غرينلاند

بدأ البناء في القاعدة الغامضة في عام 1959 (غيتي)
بدأ البناء في القاعدة الغامضة في عام 1959 (غيتي)
TT

اكتشاف «مدينة سرية» أسفل طبقات الجليد في غرينلاند

بدأ البناء في القاعدة الغامضة في عام 1959 (غيتي)
بدأ البناء في القاعدة الغامضة في عام 1959 (غيتي)

أسفل طبقة الجليد السميكة في غرينلاند تقع شبكة من الأنفاق التي كان يُعتقد يوماً ما أنها المكان الأكثر أماناً على الأرض، في حال نشوب أي حرب. وشهد مشروع «أيس وورم» (دودة الجليد)، الذي تم إنشاؤه خلال الحرب الباردة، الخطة الأميركية لتخزين مئات الصواريخ الباليستية في منظومة من الأنفاق كان يُطلق عليها «كامب سينشري» (قرن المعسكر)، حسب صحيفة «ميترو» اللندنية.

في ذلك الوقت كان قادة الجيش الأميركي يأملون شنّ هجوم نووي على الاتحاد السوفياتي، في أوّج توترات الحرب الباردة، في حال تصعيد الأمور. مع ذلك بعد مرور أقل من عقد على بناء القاعدة، تم هجرها عام 1967، بعد إدراك الباحثين تحرك الكتلة الجليدية.

الآن عادت الأنفاق الممتدة في درجات حرارة أدنى من الصفر للظهور إلى دائرة الضوء في الصور الجديدة المذهلة للقمر الاصطناعي التابع لـ«ناسا». وقال أليكس غاردنر، عالم في الغلاف الجليدي بمختبر الدفع النفاث بوكالة الفضاء الأميركية (ناسا): «كنا نبحث عن قاع الجليد، وفجأة ظهر (كامب سينشري). لم نكن ندري ماهيته في البداية؛ حيث تظهر في البيانات الجديدة تكوينات فردية في المدينة السرية على نحو مختلف تماماً عما سبق».

وتضم شبكة الأنفاق التي تقع تحت الأرض وتمتد لثلاثة كيلومترات، مختبرات ومتاجر ودار سينما ومستشفى وأماكن إقامة لمئات الجنود. مع ذلك، لا يخلو الموقع الجليدي في غرينلاند من المخاطر؛ حيث لا يزال يحتوي على مخلفات نووية.

أزال الجيش الأميركي، بناء على افتراض أن الموقع سيظل متجمِّداً إلى الأبد، المفاعل النووي الذي كان في الموقع سمح بدفن المخلفات، التي تعادل كتلة 30 طائرة من طراز «آير باص إيه 320»، تحت الثلوج.

مع ذلك هناك مواقع أخرى حول العالم خالية من المخلفات النووية، تصلح لأن تصبح مأوى آمناً في حالة نشوب حرب عالمية. «وود نورتون» هي شبكة من الأنفاق تمتد في عمق غابة ورشستر شاير اشترتها مؤسسة «بي بي سي» بالأساس أثناء الحرب العالمية الثانية، تحسباً لنشوب أزمة في لندن. وهناك أيضاً جبل بيترسن في ولاية فيرجينيا الأميركية؛ حيث يُعد واحداً من مراكز سرية عديدة تُعرف أيضاً باسم مكاتب مشروع «إيه تي أند تي»، الضرورية لتخطيط الاستمرار للحكومة الأميركية.

في أقصى الشمال بالولايات المتحدة الأميركية، يوجد مجمع «رافين روك ماونتن»، في ولاية بنسلفانيا، وهو قاعدة تتسع لنحو 1400 شخص. ومجمع «تشيني ماونتن» في مقاطعة إل باسو بولاية كولورادو، هو مجمع تحت الأرض يفخر باحتوائه على 5 غرف من احتياطي الوقود والماء، ويوجد في جزء واحد بحيرة تحت الأرض.