لعلّ معظمنا يتفق على أنّ لودفيغ فيتغنشتاين هو أحد أعظم العقول الفلسفية في القرن العشرين؛ بل قد يكون أهمّها، كما يرى برتراند راسل. كان فيتغنشتاين سليل عائلة أوروبية فاحشة الثراء، وبعدما مات أبوه، قطب صناعة الفولاذ الأوروبية، ترك له ولأشقائه ثروة طائلة تعدُّ بمليارات الدولارات بمقاييس زماننا هذا. الغريبُ أنّ فيتغنشتاين آثر أن يتنازل عن كلّ ثروته لإحدى أخواته، ثمّ مضى يعمل في أعمال بسيطة، مثل معلّم في مدرسة قروية قريباً من سفوح الألب، ثمّ عمل بعض الوقت بوّاباً في عمارة سكنية! حتى راسل الذي أعجب بمقدرة فيتغنشتاين الفلسفية رأى في سلوكه فعلاً أخرقَ عصياً على الفهم.
هل كان سلوك فيتغنشتاين فعلاً عبثياً يفتقد إلى المعنى؟ لا أظنّ ذلك. قد يكون فعله مفتقداً للمعنى من وجهة نظرنا نحنُ؛ لكنّه رأى فيه فعلاً منطقياً كاملاً؛ بل رآه واجباً. يصعبُ على المرء أن يعتقد بافتقاد حياة فيتغنشتاين – وهو الفيلسوف اللامع – إلى المعنى.
ثمّة تسجيل فيديوي يتحدّث فيه المخرج العالمي وودي آلن Woody Allen، يقول فيه: «كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم. الأرض ستزول، والشمس ستنفجر، والكون سينتهي، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنغلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما، مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة. إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابي حول هذا الأمر».
هنا مكمنُ السؤال الوجودي الأكثر أهمية بين كلّ الأسئلة: كيف أمكن للوجود البشري أن يتواصل وسط هذا العماء الوجودي المفتقد إلى معنى وغاية؟
يبدو لي أنّ سؤال «معنى الحياة»، رغم كونه أحد الأسئلة الوجودية الأساسية، يختلف عن سواه من الأسئلة الوجودية الخاصة بأصل كلّ من الوعي والحياة والكون، من حيث الاعتبارات التالية:
أوّلاً: يتداخل معنى الحياة بطريقة عضوية مع كينونتنا ونظرتنا إلى الحياة. الحياة بذاتها تركيب محايد ليس معنياً بأن يكون له معنى. نحن من نخلع المعنى على الحياة، وهذا المعنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية: الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لتكون ساحة لفعالية روائية. والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية. ويسري الأمر ذاته مع الآخرين، وكلٌّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني، وممارسته الحِرَفية، وتشكّله الفلسفي والذهني.
ثانياً: يبقى «معنى الحياة» موضوعاً لمباحث ذات طبيعة ميتافيزيقية، وليست علمية خالصة، على العكس من الأسئلة التأصيلية الثلاثة الأخرى التي يشكّلُ العلم حجر الزاوية في الجهود البحثية عن طبيعتها. السبب يكمنُ في أنّ العلم غير معني بسؤال «لماذا؟»؛ بل بسؤال «كيف؟» وحده. سؤال المعنى ليس مكانه المباحث العلمية، وإن كانت هذه المباحث يمكن أن تساهم بطريقة غير مباشرة في الكشف عن بعض المناطق المظلمة في بحثنا لاكتشاف المعنى.
ثالثاً: ثمة تصوّر بوجود اقتران شرطي بين معنى الحياة وغايتها ووجود أخلاقيات حاكمة فيها. قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى وغاية للحياة ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضية والفيزيائية؛ بل يكتفون بتلك الحجة الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هذا الربط الشرطي بين المعنى والأخلاقيات فعلٌ ينطوي على سوء مستطير. الأخلاقيات يجب أن تتعالى على كلّ الأوضاع البشرية حتى نضمن سموّها وعلويتها وقدرتها على الفعل في الحياة البشرية.
غلاف «أزمة العالم العربي»
رابعاً: موضوعة معنى الحياة، وبخلاف الموضوعات الأخرى، ليست موضوعة سكونية؛ بل تتباين أشكالها مع نموّ الفرد الجسدي والعقلي. يحصل في الغالب أن يقترن معنى الحياة بمشخصات مادية في أطوار النمو الأولى، ثمّ تنزاح القيمة المادية باتجاه أهداف ميتافيزيقية يصعب وضعها في إطار التقييس، كلّما تقدّم المرء في سنوات حياته.
نُشرت كتب كثيرة تتناول معنى الحياة من منظورات متعددة: فلسفية أو فيزيائية أو لاهوتية أو نفسية. ربما يحضرنا في هذا المقام كتاب فيكتور فرنكل «بحث الإنسان عن المعنى» الذي صار في عداد الكلاسيكيات الرفيعة. تبدو كتابات المختصين بعلم النفس الإكلينيكي بشأن معنى الحياة ذات أهمية اعتبارية كبرى؛ لأنهم يكتبون في سياق الصراع الوجودي للإنسان في هذا العالم، ومن واقع خبرتهم الحقيقية.
يفعل الدكتور كارلو سترينغر Carlo Strenger الأمر ذاته عندما يقدّمُ كتابه «الخوف من الأفول: البحث عن المعنى في القرن الحادي والعشرين» Fear of Insignificance Searching for Meaning In the Twenty First Century الذي ترجمه الدكتور حميد يونس إلى العربية عام 2022. مؤلف الكتاب ومترجمه يتوفران على معرفة رصينة بأدوات علم النفس الإكلينيكي، يضاف لها شغف طاغٍ بالمباحث الفلسفية المقترنة بالوجود البشري المكتنف باشتباكات صراعية متعددة الجوانب. الدكتور سترينغر عالم نفس سويسري (مولود عام 1958)، وهو فيلسوف متمرّس بتاريخ الأفكار وفلسفة وتاريخ العلم، ويُعرَفُ عنه في أبحاثه المنشورة التركيز على موضوعة تأثير العولمة على معنى الوجود البشري، وتشكيل الهويات الفردية والجمعية. نشر سترينغر ما يقارب الأحد عشر كتاباً. أما الدكتور حميد يونس فهو ناشط ترجمي، وقد قرأت له من بين ترجماته الكثيرة كتاباً عنوانه (الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية) إضافة لكتابه المترجم أعلاه. للدكتور يونس اهتمامات روائية أيضاً، ظهرت خلاصتها في روايته «آخر أمراض الكوكب».
يمكن وضع صيغة إطارية لكتاب سترينغر عنوانها «مكابدات الإنسان المعولم Homo Globalis في عالم معلوماتي وترفيهي تحكمه الأسواق الحرّة». يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة ثرية يكشف عنوانها الدرامي «لحظتنا التاريخية» عن ماهية مادتها:
«بعد سقوط جدار برلين في 1989 تصاعد تأثير مؤيدي الأسواق الحرّة الذين تولّوا زمام الاقتصاد إبان حكم رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، وعاشوا نشوة الانتصار بعد زوال الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي... حتى باتت الأسواق الحرّة هي الدين العالمي الوحيد الذي يتمتّع بالصلاحية العالمية المطلقة. تغيّرت بعد ذلك قيم كلّ شيء بدءاً من الشركات إلى الأديان، ومن التسجيلات الموسيقية إلى الأفكار. لم يعُد ثمة شيء محدّد إلا أنظمة التصنيف، مثل أسواق البورصة والمال، وقوائم أفضل الكتب مبيعاً... كانت مسألة وقت قبل أن تطول أنظمة التصنيف البشر، وتتحوّل إلى مرحلة تسليعه. ومما لا شكّ فيه أنّ النظام المعلوماتي والترفيهي عجّل من هذا التسليع... وهكذا اختُزِلت الحياة الهانئة في أنموذجين: الثراء (بوصفه التقييم الكمي لما لديك)، والشهرة (بوصفها التقييم الكمي لمدى معرفة الناس بك)».
هذا هو حجر الزاوية في كامل الخريطة المفاهيمية للكتاب، وليست الفصول اللاحقة سوى هوامش تفصيلية دقيقة ومثيرة لهذا المتن الذي يختزل صراع الإنسان في عالمنا المعاصر، تلك الحالة الصراعية الناجمة عن تسليع متعاظم ما فتئ يتسبب في خلخلة احترام الذات، وتشكك متزايد في عيش حياة تستحق عبء عيشها؛ فكانت النتيجة المتوقعة قلقاً وجودياً مستداماً، نجهد لعلاجه باستخدام الأدوية النفسية والنصائح الروحانية السطحية من قبل نجوم التنمية البشرية الذين صاروا أبطالاً علينا اقتفاء خطواتهم المبشرة بالنجاح. هذا في أقلّ تقدير ما تبشرنا به الوسائل الإعلامية ذات السطوة الضاربة.
يضمّ الكتاب ثلاثة أجزاء، لكلّ جزء منها ثلاثة فصول. يتناول الجزء الأول وعنوانه «هزيمة العقل» تشخيص محنة الإنسان المعولم؛ أما الجزء الثاني وعنوانه «من سوق الأنا إلى دراما الفردانية» فيحاول فيه المؤلف تقديم بديل وجودي لمفهوم الذات التي روّجت لها الثقافة الشعبية السائدة، والمتجوهرة بعبارة «افعلها وحسب. أنت تستطيع فعل كل شيء وأي شيء». أما الجزء الثالث وعنوانه «المطالبة بعقولنا»، فيدعو فيه المؤلف لإعادة تأسيس ثقافة المنطق بوصفها ترياقاً للعبثية التي يقدمها نموذج ثقافة النسبوية Relativism، وخصوصاً في حقل الثقافة والأخلاقيات.
أستطيع القول، بعيداً عن النبرة الأكاديمية، إنّ الخلاصة الفلسفية لمعنى الحياة قد تكون متجوهرة في العبارات القليلة التالية:
يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب. قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ما تحبّ وتهيم به شغفاً، ولا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولا تدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال، واحرص على ربط بواعث سعادتك بمسببات ميتافيزيقية رفيعة عوضاً عن مُشخّصات مادية سريعة التبدّل والعطب. هذا هو ما يخلع معنى على الحياة، وليس كل ما سواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة القناعات الزائفة أو الراحة الموهومة الناجمة عن الارتكان لأمثولات سائدة لم نختبر قيمتها الحقيقية في حياتنا.