«جيش فاغنر»... القوة الضاربة للكرملين

معارك أوكرانيا حوّلت عشرات الآلاف من أصحاب السوابق إلى «أبطال»

بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)
بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)
TT

«جيش فاغنر»... القوة الضاربة للكرملين

بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)
بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)

الفارق مذهل بين عامي 2018 و2022. في الأول وقعت مجموعة تابعة لـ«فاغنر» كانت تحاول التقدم قرب حقل نفطي في منطقة دير الزور السورية، تحت نيران أميركية كثيفة، فقتل أكثر من 200 مقاتل في الغارة. نفت موسكو وجود عسكريين روس في المنطقة، متنكرة لأفراد المجموعة. واحتاج الكرملين بعد هذه الصفعة القوية، بضعة أسابيع ليعترف بأن «ثمة متطوعين في سوريا ليسوا في عداد القوات النظامية».
بعد 4 سنوات على تلك الحادثة التي أثارت غضب كثيرين، غدت أخبار «انتصارات» مجموعة «فاغنر» في أوكرانيا تتصدر عناوين وسائل الإعلام الحكومية، وتصريحات مؤسسها يفغيني بريغوجين تشغل موقعاً أساسياً ينافس أحياناً في الأهمية بيانات وزارة الدفاع.
بين التاريخين، رزمة من «الحروب السرية» التي خاضتها قوات «فاغنر» في بلدان عدة، وحولتها إلى القوة الضاربة الخفية التي تعمل على تنفيذ أهداف الكرملين في ساحات المواجهة. قبل سنوات قليلة، كان مجرد الحديث عن نشاط «فاغنر» في بلدان أفريقية جريمة يعاقب عليها القانون تحت بند «نشر الأكاذيب». وقد تعرض كثيرون في روسيا للملاحقة لمجرد ذكر اسم بريغوجين مرتبطاً بهذا النشاط. لا أحد يعرف على وجه التحديد متى تم تأسيس هذه المجموعة، لكن المعطيات المتوافرة، تشير إلى أن نشاطها انطلق في عام 2013 عندما قام ضابطان متقاعدان هما فاديم غوسيف ويفغيني سيدورف بتأسيس مجموعة «موران إس» المتخصصة في حماية السفن من القراصنة. تم تسجيل هذه المجموعة في هونغ كونغ وجندت في البداية 267 عسكرياً متقاعداً وحاولت الحصول على تعاقدات مع شركات عدة. كان هذا المدخل مناسباً جداً لشركات عانت من نشاط القراصنة في القرن الأفريقي ومناطق عديدة أخرى. لم تلبث المجموعة أن تحولت سريعاً إلى «الفيلق السلافي» الذي بدأ بتوقيع عقود مع حكومات ومجموعات تجارية كبرى لـ«حماية مصالحها». كان بين ذلك عقود لحماية منشآت نفطية وحقول وأنابيب في مقابل الحصول على عائدات ضخمة منها.
لم يلبث «الفيلق السلافي» أن اضطر إلى الانخراط في الحرب السورية بعد توقيع عقد مجزٍ حصلت بموجبه شركة مموّل المجموعة، بريغوجين، على عقد ثمين تستولي بموجبه على رُبع إنتاج النفط السوري في مقابل الحماية المنتظرة.
بعد معركة مع وحدات من فصيل «جيش الإسلام» بالقرب من مدينة السخنة، عاد «الفيلق السلافي» إلى روسيا، حيث تم اعتقال موظفيه، مثل مالكي الشركة، بتهمة ممارسة «الارتزاق».
كان ديمتري أوتكين أحد مسؤولي الفيلق، الذي خدم حتى عام 2013 في تشكيلات القوات الخاصة الروسية، صاحب المبادرة لإطلاق عمل «شركة عسكرية خاصة»، وهو أمر تلقفه بريغوجين سريعاً ليتم تأسيس «فاغنر» التي لعبت في العام التالي دوراً أساسياً في دعم الانفصاليين في لوغانسك. في تلك اللحظة كان نشاط «فاغنر» بدأ يتحول إلى نشاط خفي لتنفيذ سياسات الكرملين في مقابل عقود مجزية ومكاسب واسعة على الأرض. وأوتكين الذي عرف بشغفه بـ«الرايخ الثالث» هو صاحب المبادرة لإطلاق تسمية «فاغنر» على المجموعة تيمناً بالموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر.
وفقاً لتقارير في الصحافة الاستقصائية، فإن فكرة إنشاء جيش مستقل وإسناد جانبه التشغيلي واللوجيستي إلى يفغيني بريغوجين، جاءا من ضباط رفيعي المستوى في وزارة الدفاع الروسية بعد تلقي الوزارة عروضاً لتنفيذ نشاطات في جنوب أفريقيا. تمت مناقشة تشكيل فريق من مسؤولي الأمن «المتقاعدين» رسمياً، ولكنهم مدربون وذوو خبرة في العمليات القتالية، لمدة عام تقريباً في ذلك الوقت.
عموماً، في النصف الأول من عام 2014، بعد ضم شبه جزيرة القرم، ضم التشكيل الحديث مئات المتطوعين الذين قاتلوا في شرق أوكرانيا تحت قيادة حليف الكرملين، إيغور جيركين.
واحتاج الأمر بعد ذلك، إلى سلسلة حروب وأحداث دامية في أفريقيا جرت بمشاركة «فاغنر» وحرب مدمرة في سوريا وفي أوكرانيا، لتصل «فاغنر» إلى مرحلة الاعتراف الرسمي.
في سبتمبر (أيلول) 2022، اعترف بريغوجين للمرة الأولى بأنه مموّل ومدير شركة «فاغنر». كما أكد أن مقاتليه شاركوا في عديد من الحملات العسكرية، بما في ذلك في أوكرانيا.
حتى بداية الحرب الأوكرانية كانت تقديرات تشير إلى أن تعداد مجموعة «فاغنر» يصل إلى 10 آلاف مقاتل. أكثرهم خدموا في ساحات القتال من سوريا أو أوكرانيا وفي الشيشان وأفغانستان وطاجيكستان في وقت سابق، قبل أن ينتقل جزء كبير منهم إلى بلدان أفريقية.
وتخصصت «فاغنر»، وشعارها «الجمجمة»، في تنفيذ 3 مهام: توفير المقاتلين، وحرب المعلومات والاستثمار التجاري، واستغلال الموارد الطبيعية في البلاد المنتشرة بها. من أوكرانيا وآسيا الوسطى، إلى سوريا والسودان وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ومدغشقر ومالي وبوركينا فاسو، وصولاً إلى فنزويلا؛ ضربت «فاغنر» بقدراتها شرقاً وغرباً.
وأُثير موضوع تمدد عناصر مجموعة «فاغنر» الروسية في عدد من البلدان الأفريقية، خلال اجتماعات مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، وذلك بعد توفر قرائن على قيامهم بأدوار في بعض الانقلابات التي شهدتها القارة الأفريقية.
حالياً، تشير التقديرات إلى أن أكثر من أربعين ألفاً من عناصر مجموعة «فاغنر» يقاتلون في أوكرانيا. وهم يشكلون رأس الحربة في القوات الروسية الضاربة. وأكثر مقاتلي «فاغنر» الحاليين هم من أصحاب السوابق الذين تم إطلاق سراحهم بشكل مشروط في مقابل القتال في أوكرانيا لمدة ستة أشهر على الأقل، يحصلون بعدها على عفو نهائي ومكافآت مالية. وقد ظهر بريغوجين في مقطع فيديو في سبتمبر الماضي وهو يتحدث إلى سجناء في باحة سجن روسي ويعدهم بمكاسب القتال في أوكرانيا، وشجع السجناء على الانضمام للقتال قائلاً: «إن المجتمع سوف يحترمكم» وسوف تتحولون إلى «أبطال»، وحذرهم من ارتكاب جرائم جديدة مثل الاغتصاب «لا تشربوا الكحول، لا تتعاطوا المخدرات، لا تغتصبوا... كونوا منضبطين وستعودوا بعدها إلى الوطن أبطالاً بسجلات نظيفة».
لا أحد في روسيا قدّم تقييماً لمدى قانونية هذا التصرف، لكن الوقائع لاحقاً أظهرت أن أصحاب السوابق لم يلتزموا دائماً بتعليمات قائدهم، ورغم ذلك غدت صفة «المدافعين عن الوطن» الأكثر انتشاراً حولهم على صفحات وسائل الإعلام الرسمية.
ودافع رئيس مجموعة «فاغنر» أخيراً عن فكرة إرسال سجناء للقتال في أوكرانيا، وهاجم منتقديه بقوة داعياً «الذين لا يرغبون في إرسال المدانين إلى القتال، أن يرسلوا أبناءهم إلى الجبهة بدلاً من ذلك». في الفترة الأخيرة وبعد أن تم إدراج «فاغنر» على لائحة أميركية باعتبارها منظمة «إجرامية» هاجم بريغوجين واشنطن بقوة، وقال إن لديه «جيشاً يعد الأقوى حالياً في العالم»، متحدياً العقوبات الغربية. تلك العبارة لا تخلو من مضامين، إذ أظهرت الحرب الأوكرانية بالفعل أن «جيش فاغنر» بات مسلحاً بأحدث طرازات الأسلحة ويمتلك آليات ثقيلة وطائرات مقاتلة، وهو أمر قد لا يتوفر لبعض الجيوش النظامية. كما أظهرت درجة التداخل بين مجموعة «فاغنر» والقوات المسلحة النظامية التي باتت مجموعة «فاغنر» تنافسها بقوة على تحقيق مكاسب على الأرض. وقد يكون العنصر الأساسي اللافت في أداء «فاغنر» أنها فتحت الباب واسعاً أمام استخدام القوات غير النظامية في حروب تخوضها الجيوش النظامية، خلافاً لمهام أخرى كانت المجموعات الخاصة المماثلة لدى الغرب تنفذها أثناء الحروب.
وانعكاسات ذلك، سوف تظهر، كما يبدو، ليس فقط في تفعيل نشاط الميليشيات والمجموعات الخاصة في مناطق ساخنة عديدة، والاستفادة من خبرات «فاغنر» في هذا المجال، بل وينسحب ذلك أيضاً على الداخل الروسي، إذ برزت توقعات بأن تلك المجموعات بعد «الإنجازات» التي حققتها في أوكرانيا ستكون لها مكانة خاصة بين القوات الخاصة الروسية بشكل قد يكون شبيهاً إلى حد ما مع تجربة «الحرس الثوري» في إيران.


مقالات ذات صلة

انخفاض الصادرات يرهق الروبل الروسي

الاقتصاد انخفاض الصادرات يرهق الروبل الروسي

انخفاض الصادرات يرهق الروبل الروسي

انخفض الروبل الروسي يوم الأربعاء متأثرا بتراجع الصادرات وزيادة الواردات، بينما فشل في الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط وسط تقلص معروض النقد الأجنبي لدى الشركات المصدرة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الاقتصاد موسكو تعتمد سعر خام دبي في صفقة نفط مع نيودلهي

موسكو تعتمد سعر خام دبي في صفقة نفط مع نيودلهي

قالت 3 مصادر مطلعة على الأمر إن شركة «روسنفت»، أكبر منتج للنفط في روسيا، ومؤسسة النفط الهندية، أكبر شركة تكرير في الهند، اتفقتا على استخدام سعر خام دبي القياسي في اتفاقهما الأخير لتصدير النفط الروسي إلى الهند. يأتي قرار الشركتين الحكوميتين بالتخلي عن خام برنت القياسي في إطار تحول مبيعات النفط الروسية نحو آسيا، بعد حظر أوروبا شراء النفط الروسي في أعقاب غزو أوكرانيا قبل أكثر من عام. والخامان القياسيان مقومان بالدولار، وقد وضعتهما شركة «ستاندرد اند بورز بلاتس» لبيانات الطاقة، وهي وحدة تابعة لشركة «ستاندرد اند بورز غلوبال» الأميركية، ولكن تعتمد شركات النفط الأوروبية الكبرى والتجار في الغالب على أس

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
الاقتصاد الطلب المحلي يحافظ على نمو نشاط المصانع في روسيا

الطلب المحلي يحافظ على نمو نشاط المصانع في روسيا

نما نشاط قطاع الصناعات التحويلية الروسي للشهر الحادي عشر على التوالي في مارس (آذار) الماضي، مدفوعاً بزيادة الإنتاج بأسرع وتيرة هذا العام، ونمو قوي لتوقعات الإنتاج مستقبلاً. وانخفض مؤشر ستاندرد آند بورز غلوبال لمديري المشتريات في مارس إلى 53.2 نقطة من 53.6 في فبراير (شباط)، لكنه ظل فوق مستوى الخمسين نقطة التي تفرق بين النمو والانكماش. ويعتمد صعود القطاع لقرابة عام على الطلب المحلي؛ إذ انخفضت طلبيات التصدير الجديدة للشهر الرابع عشر على التوالي، بينما تمضي روسيا فيما تطلق عليه «عملية عسكرية خاصة» في أوكرانيا. وذكرت ستاندرد آند بورز غلوبال في بيان: «تفاقم انخفاض الطلب من العملاء الأجانب مع انخفاض

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الاقتصاد روسية تصور أحدث أسعار العملة المحلية مقابل نظيراتها الأجنبية على واجهة محل صيرفة بموسكو (إ.ب.أ)

الروبل يتراجع رغم نشاط صناعي روسي فائق

نما النشاط الصناعي في روسيا بأسرع وتيرة منذ مطلع 2017، في ظل نمو أسرع للطلبات الجديدة والإنتاج؛ وفقاً لبيانات مؤسسة «ستاندارد آند بورز غلوبال» يوم الأربعاء. وقد ارتفع مؤشر مديري المشتريات الذي تصدره المؤسسة إلى 53.6 نقطة في فبراير (شباط) مقارنة بـ52.6 نقطة في يناير (كانون الثاني) الماضيين. يذكر أن تسجيل قراءة أعلى من 50 يعني نمو القطاع. وارتفعت وتيرة نمو الإنتاج خلال الشهر الماضي، ويرجع ذلك إلى قلة الواردات وارتفاع الطلبات الجديدة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الاقتصاد روسي يشتري مخبوزات في سوق مدينة أومسك بإقليم سيبيريا الشمالي (رويترز)

روسيا تبحث «مسارات دفاعية» لدعم الاقتصاد

بينما تترقب كافة الأوساط الاقتصادية الخطوة الغربية المقبلة لتطبيق آلية سقف أسعار النفط على الخام الروسي، المنتظرة في بداية شهر فبراير (شباط) المقبل، تسعى روسيا جاهدة لتوفير مسارات «دفاعية» لدعم اقتصادها، عبر التركيز على التجارة مع «الدول الصديقة» وزيادة التعاملات بالعملات المحلية، وكذلك دعم قواعد الاستهلاك والسياحة المحلية. وقال الكرملين، يوم الثلاثاء، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقد مؤتمراً عبر الفيديو مع الحكومة الروسية، لمناقشة تطور السياحة الداخلية في عام 2023.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.