المصريون يحتفلون بالذكرى الـ59 لتأميم قناة السويس قبيل افتتاح القناة الجديدة

الفرنسيون أسسوا بالتعويضات أكبر شركة لإنشاء محطات المياه والطاقة وباعوا مقر الشركة بباريس

صورة عام 1931 لمقر قناة السويس بباريس
صورة عام 1931 لمقر قناة السويس بباريس
TT

المصريون يحتفلون بالذكرى الـ59 لتأميم قناة السويس قبيل افتتاح القناة الجديدة

صورة عام 1931 لمقر قناة السويس بباريس
صورة عام 1931 لمقر قناة السويس بباريس

احتفل المصريون أمس الأحد بذكرى مرور 59 عاما على تأميم قناة السويس، ذلك اليوم الذي وافق 26 يوليو عام 1956، والذي ألقى فيه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خطابه الشهير من ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية، قائلا «تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات، وتحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليا على إداراتها، ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص بقيمتها، مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق على تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية بباريس، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام تسلم الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤممة».
وكانت خطوة التأميم قد جاءت نتيجة رفض أميركا وبريطانيا والبنك الدولي تمويل مشروع السد العالي، وتم على أثرها احتجاج المنتفعين من القناة، وقام المرشدون الأجانب بالانسحاب من العمل بالقناة لضرب الملاحة، لكن مصر استطاعت تخطي الأزمة، وصمد مع المرشدين المصريين المرشدون اليونانيون.
ولا تزال قناة السويس تمثل رابطا تاريخيا بين مصر وفرنسا، حيث تتشاركان في تراثها ووثائقها منذ أن افتتحت للملاحة البحرية العالمية منذ أكثر من 144 عاما. ويغيب عن ذهن الكثيرين ما هو مصير مقر شركة قناة السويس في فرنسا التي أسسها الدبلوماسي الفرنسي فرديناند ديليسبس، عقب منحه فرمانا من قبل الخديو سعيد بامتياز شق قناة السويس وإدارتها، وتم فتح باب الاكتتاب في أسهمها في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1858.
يكشف الكاتب الصحافي المقيم بباريس د.أحمد يوسف، عضو جمعية أصدقاء قناة السويس الفرنسية وجمعية أصدقاء فرديناند ديليسبس، لـ«الشرق الأوسط»، إن القصر الأثري الذي كان مقرا لشركة قناة السويس في باريس تم بيعه مؤخرا لشركة سنغافورية، وتم نقل مقتنيات متحف قناة السويس إلى مقر آخر على أطراف باريس.
ويؤكد أن المقر سيظل بحالته لأنه مسجل كأثر ولن يستطيع أي مالك له إلحاق الضرر بتفاصيله المعمارية أو هدمه وفقا للقانون الفرنسي، لكن الشركة الفرنسية المالكة له وهي شركة «السويس للمياه» قامت ببيعه نظرا لأن ترميمه كان يكلفها 300 مليون يورو سنويا. ويضيف: «لقد اقترحت على الفريق مهاب مميش أثناء زيارته للقصر في باريس أن تقوم مصر بشرائه، لكن نظرا للظروف الاقتصادية التي كانت تمر بها مصر كان ذلك أمرا صعبا».
وحول قرار التأميم، يقول: «في الحقيقة من المهم دائما أن نسأل هل ما قام به عبد الناصر كان تأميما لقناة السويس أم لشركة قناة السويس؟ أتصور أنه كان من حق مصر أن تحصل على مقر الشركة باعتباره جزءا من القناة، لكن عبد الناصر كان يرى أن وضع مصر يدها على القناة هو الأمر المهم، ولم يجد جدوى من الدخول في معارك أخرى مع فرنسا. وله عبارة لا يعرفها الكثيرون قالها حينما قام المساهمون الفرنسيون باستئذانه بتسمية بنك جديد باسم السويس، قائلا: (أنا أخدت القناة خدوا أنتم السويس)».
ويروي د.يوسف: «الرئيس جمال عبد الناصر قام بتعويض المساهمين الفرنسيين في قناة السويس بمبلغ 30 مليون جنيه مصري. ولعب مستشار الرئيس الفرنسي شارل ديغول، ويدعى جان بول كالون، دورا في التفاوض حول مبلغ التعويضات آنذاك».
ويشير د.يوسف إلى أن المساهمين الفرنسيين كانوا من الذكاء، ولم يهدروا تلك الأموال، وقاموا بوضع جميع أموال التعويضات في تأسيس بنك باسم «الهند - السويس» وهو بنك تجاري فرنسي ومنه أسسوا شركة «السويس للمياه»، وهي شركة متخصصة في جميع الصناعات المتعلقة بالمياه وتحليتها وتنقيتها، وظلت الشركة تنمو إلى أن وصل رأسمالها الآن إلى 800 مليار يورو، ولديها 200 ألف عامل حول العالم، تلك الشركة التي قامت بتشييد محطات المياه المصرية، وأصبحت حاليا من أكبر وأهم شركات إنشاء محطات المياه والمحطات النووية في العالم. ورغم ذلك فإن الشركة حافظت على المقر الرئيسي لشركة قناة السويس في باريس، وهو قصر منيف ومبهر ويقع على بعد أمتار قليلة من قصر الإليزيه الرئاسي. وحافظت على كل ما يتعلق بوثائق وخرائط شركة قناة السويس، وهي الوثائق التي قامت الجمعية بإهدائها لمصر على مراحل بداية من عام 2009.
ولفت يوسف إلى أن «الفرنسيين يعتزون جدا بقناة السويس، وأن مقر الشركة بباريس كان يحظى بزيارات لأجيال مختلفة من الفرنسيين، وأن قناة السويس محفورة في العقل الجمعي الفرنسي ودخلت في معتقدات الفرنسيين وعاداتهم، لدرجة أن الأمهات والجدات الفرنسيات حتى السبعينات كن ينصحن الفتيات بالزواج من شاب لديه أسهم في شركة قناة السويس».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)