مهرجان البيرة الرابع للفولكلور.. رقص وحكايات و«موال» تقدم عرضًا مؤثرًا

العبد اللات افتتحه بـ«يا جبل ما يهزك ريح» وخلايلة اختتمه والاحتلال غيب شلش

مشهد تمثيلي راقص من أداء فرقة «موال» النصراوية
مشهد تمثيلي راقص من أداء فرقة «موال» النصراوية
TT

مهرجان البيرة الرابع للفولكلور.. رقص وحكايات و«موال» تقدم عرضًا مؤثرًا

مشهد تمثيلي راقص من أداء فرقة «موال» النصراوية
مشهد تمثيلي راقص من أداء فرقة «موال» النصراوية

ما إن علا صوت النجم الأردني عمر العبد اللات، يهز المكان «ع المجوز نبدك ونطيح.. فلسطينية ما نطيح.. روسنا بالعلالي، ويا جبل ما يهزك ريح»، حتى لحق به تصفيق الجمهور الفلسطيني، معلنا افتتاح «مهرجان البيرة الرابع للفلكلور»، الذي نظمته أخيرا، مؤسسة شباب البيرة بالتعاون مع بلدية المدينة.
العبد اللات أهدى الأغنية للشعب الفلسطيني، وروح الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي كان يردد عبارة «يا جبل ما يهزك ريح» كلما اشتدت الأزمات على الفلسطينيين.
قبل الافتتاح، تحدث العبد للات لـ«الشرق الأوسط» حول أغنيته فقال: «لا شك أن هذه العبارة اشتهرت على لسان الرئيس الراحل ياسر عرفات، رحمه الله (..) منذ كنت أسمعها على لسانه، وأنا أفكر في أن تكون عنوانًا لأغنية لي، ومنذ سنوات وأنا أحلم بأن ترى النور، والحمد لله أنها خرجت للنور أخيرًا، وأطلقتها من فلسطين.. وهي من كلماتي وألحاني، وأتمنى أن يقبلها الشعب الفلسطيني هدية متواضعة مني لهم».
جمهور مهرجان البيرة حضر من مختلف المدن الفلسطينية، وغصت به مدرجات استاد المدينة، حيث استمع الجميع لأغنيات فلسطينية وأردنية وطنية وتراثية، وخصوصا أغنيات العبد لات الشهيرة المستلهمة من التراث الأردني والفلسطيني مما يؤدى في «الأعراس» الشعبية، وأخرى من ألبومه الجديد «خد الرمان»، وأغنيات اشتهر بها كـ«يا سعد»، التي أطلقها في عام 1989، وأعاد توزيعها مؤخرًا، و«شكلة بكلة»، و«صفي النية»، وغيرها، إضافة إلى أغنيات من التراث الشامي، وأغنيته الشهيرة «الدحية» بنسختها الأصلية، وبنسخة خاصة عبّر من خلالها عن الارتباط الكبير بين الشعبين الأردني والفلسطيني، والذي أكد العبد اللات، أكثر من مرة، أمام جمهور مهرجان البيرة، الذي خرج يتغنى بروعة الحفل والأداء والتنظيم، أنهما «شعب واحد مش شعبين»، هو الذي يغني لفلسطين للمرة الثانية، بعد حفل له قبل سنوات في قصر رام الله الثقافي.
وكشفت إدارة مهرجان البيرة الرابع للفلكلور، أن سلطات الاحتلال حالت دون مشاركة المنشدة الفلسطينية ميس شلش، في حفل اختتام المهرجان، الذي كان مقررا أن يشارك فيه أيضا، النجم الفلسطيني هيثم خلايلة، إذ لم تمنح السلطات الإسرائيلية شلش، تصريحًا يخولها دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من سماحها لأعضاء فرقتها بالدخول، فأحيا خلايلة الذي سطع نجمه في برنامج «محبوب العرب»، حفل الاختتام بمفرده.
وكانت فرقة «موال» النصراوية (نسبة إلى الناصرة)، قد أحيت اليوم الثاني للمهرجان، بعرض حمل اسمها، أو حملت اسمه.
كتب النص للعرض، الكاتب والروائي سلمان ناطور، وأخرجه راضي شحادة، وفيه قدم شخصية أبو صلاح الحكواتي، التي جسدها الفنان إياد شيتي. ومن خلال أبو صلاح، قدم ناطور الكثير من القضايا رقصًا وموسيقى ومسرحًا وغناء، حكايات متعددة حول معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ النكبة إلى يومنا هذا، وخصوصا معاناة الفلسطينيين الذين رفضوا مغادرة أراضيهم في الأراضي المحتلة في عام 1948.
وحمل العرض المبهر والعميق، عبر اللوحات الراقصة وشخصية الحكواتي والأغنيات الخاصة وغيرها، وبعضها من كلمات الشاعر الراحل محمود درويش، والراحل سميح القاسم، وغيرها من الأغنيات الموظفة بعناية، ومشاهد الفيديو المرافقة لـ«موال»، وهو عرض متجدد منذ ما يقارب العشرين عامًا، يحمل رسائل مهمة حول قيمة التمسك بالأرض، والحفاظ على الهوية الفلسطينية، في ظل محاولات الاحتلال المتكررة لسلبها أو طمسها، من خلال تسليط المؤلف الضوء على قرى بعينها، ومواقع في قرى أخرى تم تهجير أهلها عنوة، كالشجرة، على سبيل المثال، وعبر حكايات مصادرة الأراضي، والنضال ضد الاحتلال في النكبة وما قبلها وما بعدها. ولعب تصميم الملابس والإضاءة، والديكور المرافقة للعرض، دورا مهما في تقدم مشاهد مؤثرة. وقد أشرف عليه نهاد ومعين شمشوم، مؤسسا الفرقة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)