ما سر تسمية المسلة «ذات العينين» في الجزيرة العربية؟

السجال لا يزال مفتوحاً عند أهل الاختصاص حول مكان ولادتها

مسلة جنائزية من تيماء تحمل اسم تيم بن زيد بالحرف الآرامي
مسلة جنائزية من تيماء تحمل اسم تيم بن زيد بالحرف الآرامي
TT

ما سر تسمية المسلة «ذات العينين» في الجزيرة العربية؟

مسلة جنائزية من تيماء تحمل اسم تيم بن زيد بالحرف الآرامي
مسلة جنائزية من تيماء تحمل اسم تيم بن زيد بالحرف الآرامي

في عام 1876، توقف الرحالة البريطاني تشارلز داوتي، في واحة تيماء في أطراف الحجاز، ونسخ بعضاً من النقوش الكتابية التي عثر عليها في هذا الموقع، منها نقش تعلوه عينان شاخصتان. يعود هذا النقش المميز إلى مسلة تُعرف اليوم بـ«ذات العينين»، وشواهد هذا الطراز عديدة، منها ما يعود إلى شمال الصحراء العربية، ومنها ما يعود إلى جنوبها.
تتبع هذه المسلات بشكل عام تأليفاً واحداً جامعاً، يعتمد على صورة واحدة تتمثل في وجه آدمي مجرد هندسياً إلى أقصى حد. تبرز ملامح هذا الوجه وسط مساحة رباعية الضلع. الأنف مساحة مستطيلة، طولها أكبر ست مرات من عرضها في أقل تقدير. العينان مساحتان بيضويتان يحيط بكل منهما إطار مواز رفيع وناتئ. الحاجبان خطان ناتئان متوازيان يمتدان ويلتصقان بأعلى مساحة الأنف المستطيلة، على شكل حرف التاء اللاتيني. يبقى الثغر، وهو على شكل مساحة بيضوية يخترقها في الوسط نقش غائر يحد الشفتين المطبقتين.
تلك هي صورة الوجه التي تحضر على هذه المسلات، وفيها تبرز بشكل أساسي العينان اللوزيتان الفارغتان الثابتتان في وضعية المواجهة. من هنا أُطلقت تسمية «المسلة ذات العينين» على هذا الصنف من الأحجار الأثرية المنقوشة، واعتمدت هذه التسمية بشكل واسع، فشاعت وترسخت. وصلتنا مجموعة كبيرة من صنف المسلات هذه، مصدرها مناطق عدة من الجزيرة العربية، منها واحة تيماء في منطقة تبوك، قرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، الجوف في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، ووادي بهيان في محافظة حضرموت. وكل هذه المسلات التي خرجت من هذه النواحي هي في الواقع شواهد قبور فردية، كما تؤكد الكتابات المنقوشة التي ترافقها، وهي تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثامن إلى القرن الثالث قبل الميلاد بشكل عام، ويصعب تأريخها بدقة بسبب غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة.
في الخلاصة، تعود هذه الشواهد الجنائزية إلى شمال الجزيرة وجنوبها. من جانب آخر، تمثل القطع الشمالية وحدة ثابتة من حيث الأسلوب الفني، بينما تمثل القطع الجنوبية تعددية في الابتكار، مع الحفاظ على التأليف الأساسي الجامع. تعددت الآراء في رصد تكوين هذا النسق من الفن الجنائزي العربي وتطوره في شمال الجزيرة وجنوبها. قيل إن «المسلة ذات العينين» ولدت في الشمال وانتقلت إلى الجنوب، غير أن هذه النظرية وجدت من ينقضها، ولا يزال السجال مفتوحاً بين أهل الاختصاص في هذا الميدان.
إلى جانب المسلات في شمال الجزيرة وجنوبها، تحضر مجموعة أخرى تماثلها من حيث الأسلوب، غير أنها تأخذ فرعاً مستقلاً، فهي ليست أنصاباً جنائزية، بل أنصاب صُنعت للتعبد، كما أنها تعود إلى مرحلة زمنية لاحقة، تمتد من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرون الميلادية الأولى. وهذه المسلات نبطية، أي أنها تعود إلى العرب الأنباط الذين أقاموا مستوطنات خاصة بهم بين الجزيرة العربية وسوريا، وامتدوا من الفرات إلى البحر الأحمر. خرجت المسلات النبطية من وادي رم والبتراء في الأردن، وموقع الحِجر في محافظة العلا، شمال غربي المملكة العربية السعودية. وحملت أسماء المعبودين الذين برزوا في تلك الحقبة.
أشهر هذه المسلات من دون شك تلك التي عُثر عليها في 1975 في معبد من معابد البتراء، يُعرف بمعبد «الأسود المجنحة». تحمل هذه المسلة اسم «حيان بن نيبات» الذي قدمها إلى معبودته من دون أن يذكر اسمها، وقد احتار البحاثة في تحديد هوية هذه المعبودة إلى يومنا هذا. تتميز هذه المسلة بإطارها الزخرفي الهلنستي الطابع الذي يضفي على الوجه التجريدي التقليدي حلة جديدة. وفقاً للتقليد المعروف، يحتل هذا الوجه مساحة مستطيلة مسطحة. ويظهر في الأعلى شريط نباتي مورق، يمتد فوق الوجه على شكل إكليل رُصع وسطه بحجر كريم ضاع أثره. تحل الكتابة المحفورة في القسم الأسفل من المسلة، مباشرة تحت مساحة الوجه الرباعية الضلع، وهي هنا باللغة النبطية، وتذكر «معبودة حيان بن نيبات» كما أشرنا.
تعود هذه المسلة إلى مطلع القرن الميلادي الأول، وتشكل امتداداً لتقليد فني قديم، وتحوله من فن مأتمي جنائزي إلى فن تعبدي. في المقابل، تمثل المسلات التي خرجت من واحة تيماء الشكل التقليدي الكلاسيكي لهذا النسق. في هذه المسلات، يحضر الوجه داخل مساحة مربعة مجوفة، ويتألف من عينين وأنف فحسب، إذ لا يظهر الثغر أبداً. كذلك يغيب البؤبؤ عن العينين بشكل تام في هذا الوجه، على عكس ما نرى في العديد من الوجوه التي وُلدت في جنوب الجزيرة.
أشهر هذه المسلات تلك التي جالت في متاحف العالم ضمن معرض ضخم لآثار المملكة السعودية، وهي على شكل نصب مستطيل يعلوه وجه مجرد يحضر داخل مكعب غائر، ترافقه في القسم الأسفل كتابة منقوشة بالقلم الآرامي تقول: «في ذكرى تيم بن زيد». ويتميز هذا الوجه التقليدي بحاجبيه المقوسين بشكل طفيف، على عكس العادة التي تقوم على اعتماد خطين مستقيمين في تصويرهما.
يحتفظ متحف تيماء بعدد من المسلات من هذا الطراز عُثر عليها خلال العقود الماضية، وفيها يعود الوجه في صورته الموحدة المجردة، مع اختلافات بسيطة في التفاصيل. ترافق هذا الوجه كتابة منقوشة تسمي صاحبه الذي رحل عن هذه الدنيا، وتدعو بخفر إلى الحفاظ على ذكراه.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
TT

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)
جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ نجمتين عالميتين تقديراً لمسيرتيهما، هما الأميركية فيولا ديفيس، والهندية بريانكا شوبرا.

واختتم المهرجان عروضه بفيلم «مودي... 3 أيام على حافة الجنون» الذي أخرجه النجم الأميركي جوني ديب، ويروي حكاية الرسام والنحات الإيطالي أميديو موديلياني، خلال خوضه 72 ساعة من الصراع في الحرب العالمية الأولى.

واختير فيلم «الذراري الحمر» للمخرج التونسي لطفي عاشور لجائزة «اليُسر الذهبية» كأفضل فيلم روائي، أما «اليُسر الفضية» لأفضل فيلم طويل، فنالها فيلم «إلى عالم مجهول» للفلسطيني مهدي فليفل، بالإضافة إلى جائزة خاصة من لجنة التحكيم نالها فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور.