أرشيفات الصحف المصرية... «كنز» معرفي وذاكرة وثائق تاريخية

خبراء يعدّونها مرجعاً مهماً للإعلاميين والباحثين

دار الكتب والوثائق القومية المصرية
دار الكتب والوثائق القومية المصرية
TT

أرشيفات الصحف المصرية... «كنز» معرفي وذاكرة وثائق تاريخية

دار الكتب والوثائق القومية المصرية
دار الكتب والوثائق القومية المصرية

على مدار سنوات طويلة اعتبر أرشيف الصحف والمجلات مصدراً مهماً للمعلومات، يحمل توثيقاً لحقب تاريخية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال دراسة عدد صحيفة أو مجلة في فترة من الزمن يستطيع الباحث التعرف على القضايا التي كانت تشغل بال المواطنين والسياسيين والمثقفين في تلك الفترة، وكيف كانوا يتفاعلون مع الأحداث المختلفة من حولهم، وكأنه انتقل عبر «آلة الزمن» إلى عصور تاريخية سابقة.


 (موقع أرشيف الإنترنت)

وحقاً، كلما طال عمر صحيفة أو مجلة، زادت قيمة أرشيفها وقوته بتناوله حقباً تاريخية متنوعة. وبالتالي، يتحوّل إلى مصدر لا غنى عنه لقصص ومواضيع صحافية تعمل على ربط الماضي بالحاضر، أو تحاول استعادة لحظات تاريخية، أو تروي وتوثّق سيراً ذاتية لشخصيات عامة أو رموز سياسية وفنية وثقافية.
في مصر، بالذات، تُعَد أرشيفات المطبوعات القديمة العريقة مرجعاً حيوياً وضرورياً للإعلاميين والباحثين، وهي تشكل مصادر معلومات أساسية لمواضيعهم الصحافية ومراجع رئيسية في أبحاثهم العلمية. وهذا، مع أن ثمة اختلافات يشهدها القطاع الإعلامي اليوم مع ظهور الإنترنت، إذ أتاحت الشبكة العنكبوتية الوصول إلى المعلومات الأرشيفية والتاريخية بسرعة ويسر. ولكن في الوقت عينه، كان ثمن السرعة واليسر في استثمار الإنترنت باهظاً في عدة حالات على صعيد الصدقية. إذ يحمل البحر المتلاطم من المواقع الإلكترونية، عبر الإنترنت، كثيراً من المعلومات الزائفة والمضللة، ما يفرض على الإعلاميين والباحثين - على حد سواء - مزيداً من التدقيق والتقصّي قبل اعتمادها في أعمالهم.

«لا ديكاد إيجيبسيان»

دخول المطبعة
تاريخياً، عرفت مصر الصحافة مع دخول المطبعة لأول مرة إبان فترة الحملة الفرنسية على البلاد (1798 – 1801). ولقد بدأت المطبعة بإعداد المنشورات باللغة العربية. ثم بدأ إصدار صحف باللغة الفرنسية، فشهدت القاهرة الصورة الكاملة للصحف عبر صحف مثل «الكورييه دو ليجيبت»، و«لا ديكاد إيجيبسيان». إلا أن عمر هاتين الصحيفتين انتهى بخروج الحملة الفرنسية من مصر، حسب ما ورد في مجلة «ذاكرة مصر المعاصرة» الصادرة عن مكتبة الإسكندرية.
من ناحية ثانية، يؤرخ للصحافة المصرية بفترة حكم محمد علي. ووفق «ذاكرة مصر المعاصرة»، تعد «جريدة الخديوي»، التي تحوّلت عام 1828 إلى صحيفة «الوقائع المصرية» أقدم وأول صحيفة رسمية مصرية. وفي حين يحمل أرشيف «الوقائع المصرية» توثيقاً لجميع القرارات والقوانين الرسمية الصادرة في البلاد منذ عهد محمد علي، فإن ثمة صحفاً ومجلات عريقة تتضمن أرشيفاتها توثيقاً اجتماعياً وسياسياً غنياً جداً للأوضاع في مصر منذ القرن التاسع عشر، وعلى رأسها أرشيف صحيفة «الأهرام» المصرية التي أسست عام 1875، ومجلة «روزاليوسف» التي أسست عام 1925، وغيرها.
محمد بغدادي، الكاتب الصحافي في مجلة «روزاليوسف» المصرية، اعتبر في حوار مع «الشرق الأوسط» أن أرشيفات الصحف والمجلات «من أهم مصادر المعلومات للصحافي، كما أنها مصدر قوة للصحيفة والمؤسسة الإعلامية بشكل عام». وأردف أنه «كلما كان أرشيف الصحيفة أو المجلة قوياً، زادت قدرتها على التواصل مع قضايا الناس عبر إتاحة معلومات تربط الماضي بالحاضر، وأعطت الصحافي فرصة أكبر لتوثيق قصصه الصحافية، وتضمينها بيانات ومعلومات تاريخية موثقة».
وتحدث بغدادي عن «تطور الأرشيف الصحافي مع مرور الوقت، من الميكروفيلم، إلى الرقمنة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ما أتاح للصحافي والباحث الحصول على المعلومات بشكل أيسر، وأسرع». وقال إن «هذه السهولة في الحصول على المعلومات، تزامنت مع فرض أعباء أخرى على الصحافي والباحث، بعضها مادي إذ تفرض بعض المؤسسات رسوماً للحصول على أرشيفها، أما البعض الآخر فمرتبط بضرورة تمكن الصحافي أو الباحث من أدوات التحقق من المعلومات، ولا سيما مع وجود كم هائل من المعلومات غير الموثقة على شبكة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي». ومن ثم شدد على «ضرورة أن توفر المؤسسات الإعلامية للعاملين فيها اشتراكات في أرشيفات المؤسسات المرموقة وذات المصداقية، لضمان قصص صحافية دقيقة».


«كورييه دو ليجيبت»

قصص ومواضيع شتى
في الواقع، لا يقتصر دور الأرشيف على تزويد الصحافي بمعلومة تاريخية، أو صورة لتضمينها في قصته الصحافية، بل غالباً ما تصدر قصصٌ ومواضيع كاملة مستوحاة من الأرشيفات، وتخصّص بعض الصحف والمواقع الإلكترونية أبواباً ثابتة تتضمن مواضيع معتمدة بالكامل على الأرشيف الصحافي. وكمثال على ذلك تناول ذكرى حادثة وقعت في تاريخ معين، أو استرجاع سيرة فنان أو شخصية عامة من حواراته الصحافية. وإلى جانب هذا اعتماد الباحثين على هذه الأرشيفات في أبحاث تحاول شرح الأوضاع الاجتماعية في فترة زمنية معينة، أو رصد تطور الإعلانات في فترة زمنية أخرى، وغيرها من المواد التي يعتبر الأرشيف الصحافي رافداً أساسياً لها. ولذا وصفه البعض بـ«الكنز»؛ تقديراً للكم الهائل من المعلومات والأفكار التي يمكن أن يختزنها وتقدم لدى نشرها خدمة معرفية مميزة.
في هذا الإطار، تعتمد الكاتبة والناقدة أنس الوجود رضوان، مدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة «الوفد» المصرية، على الأرشيف في كتابة كتاب عن زوجها الراحل الصحافي والروائي موسى صبري. خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت شارحة إن «الأرشيف الورقي للصحف والمجلات شيء في غاية الأهمية، يتضمن توثيقاً لمراحل تاريخية مهمة... ومن خلاله يمكن سبر أغوار شخصيات، ودراسة حال المجتمع على جميع المستويات». واستطردت: «الصحيفة وثيقة تاريخية مهمة» قبل أن تشكو من «ضياع الأرشيف مع بداية عصر الرقمنة»؛ إذ تقول: «خلال عملية الرقمنة فُقد كثير من نسخ الصحف والمجلات... ولولا احتفاظ زوجي الراحل بأرشيف خاص لما تمكنت من إعداد كتابه بالشكل المطلوب» بسبب ضياع مواد كثيرة من الأرشيف.
وبالفعل «ضياع الأرشيف» من النقاط التي تطرقت إليها الدكتورة ليلى عبد المجيد، أستاذة الإعلام في جامعة القاهرة، خلال حوارها مع «الشرق الأوسط»، مشيرة إلى قضايا أثيرت أخيراً تتعلق بـ«بيع وضياع جزء من أرشيفات الصحف والمجلات المصرية». وأكدت عبد المجيد على «أهمية الأرشيف كوثيقة تاريخية، ورافد بحثي... وإبان إعدادي رسالتي الماجستير والدكتوراه كان الأرشيف الصحافي أحد المراجع المهمة التي اعتمدت عليها». ومعلوم أن قضية بيع الأرشيف الصحافي المصري أثارت جدلاً في الفترة الأخيرة، في أعقاب أنباء تحدثت وصول أرشيف صحيفة «الأهرام» إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية، في إطار التعاقد مع شركة أميركية لإتاحة أرشيف «الأهرام» بصورة رقمية.
من جهة ثانية، بينما ترى وفاء عبد الحميد، رئيسة إذاعة البرنامج الثقافي السابقة في الإذاعة المصرية، أن «الإتاحة الرقمية ربما سهلت من حفظ وإتاحة المعلومات الأرشيفية»، فهي شددت في حوار مع «الشرق الأوسط» على ما اعتبرته «مكامن الخطورة» في هذه الإتاحة الرقمية، وفي مقدمتها «انتشار المعلومات الزائفة». وقالت: «الإنترنت مليء بالمعلومات الخاطئة والمضللة... وبالتالي، يظل الأرشيف الرسمي للصحف والمواقع الإلكترونية الموثوقة، والإذاعة والتلفزيون الوثيقة الأهم».
ثم تطرقت عبد الحميد إلى «قلة اهتمام الصحافيين اليوم بالأرشيف مقارنة بما كانت عليها الحال قبل سنوات». واستطردت «يكتفي الصحافي اليوم بالبحث على الإنترنت من دون أن يكلف نفسه عناء الذهاب إلى أرشيف مؤسسة إعلامية... في حين إنني كنت أمضي أياماً في الأرشيف لإعداد قصصي الصحافية، سواءً كان ذلك داخل الإذاعة أو في دار الكتب والوثائق القومية التي تحتفظ بنسخ من جميع الصحف والمجلات المصرية».
وما يستحق التنويه هنا، أن دار الكتب والوثائق القومية المصرية تحتفظ بنسخ من أرشيفات الصحف المصرية، ما يجعلها مصدراً مهماً للباحثين ودارسي الإعلام والصحافيين، وكثيراً ما يكلّف دارسو الإعلام بإعداد قصص أو مشاريع بحثية عن تاريخ الصحافة في مرحلة معينة، خلال فترة دراستهم. كذلك تضم مكتبة الإسكندرية بدورها نسخاً مرقمنة من أرشيفات الصحف والمجلات المصرية.
وعلى الصعيد الدولي، تضع الصحف والمجلات الكبرى قواعد لتداول أرشيفاتها، فعلى سبيل المثال، تتيح صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية، الاطلاع على أرشيفها بطريقتين، توضحهما على موقعها الإلكتروني: الأولى من خلال أرشيف مقالات «النيويورك تايمز»، وهو متاح للجميع ويغطي الفترة من 1851 وحتى الآن.
أما الطريقة الثانية فعبر ما يسمى بـ«آلة الزمن» التي تتيح الاطلاع على الأعداد كاملة من عام 1851 وحتى 2002 مقابل اشتراك شهري.


مقالات ذات صلة

السجن 8 سنوات في روسيا لصحافي نشر «معلومات كاذبة» عن الجيش في أوكرانيا

أوروبا جنود مسلحون ينتظرون بالقرب من مركبات للجيش الروسي خارج نقطة حرس الحدود الأوكرانية في مدينة بالاكلافا في شبه جزيرة القرم يوم 1 مارس 2014 (رويترز)

السجن 8 سنوات في روسيا لصحافي نشر «معلومات كاذبة» عن الجيش في أوكرانيا

حكمت محكمة في مدينة غورنو ألتايسك الروسية في ألتاي، اليوم (الجمعة)، على الصحافي المحلي سيرغي ميخائيلوف بالسجن ثماني سنوات لانتقاده الجيش الروسي.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
المشرق العربي صورة تُظهر بكر القاسم الصحافي والمصوّر المتعاون مع وسائل إعلام عدة بينها «وكالة الصحافة الفرنسية» (متداولة)

فصائل موالية لأنقرة تُوقِف صحافياً بشمال سوريا

أوقفت الشرطة المحلية التابعة لفصائل موالية لأنقرة بشمال سوريا، الصحافي والمصوّر المتعاون مع وسائل إعلام عدة، بكر القاسم، في مدينة الباب.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أكاديمية «SRMG» تطلق دورة تدريبية في صحافة التكنولوجيا بدعم من «تيك توك»

أكاديمية «SRMG» تطلق دورة تدريبية في صحافة التكنولوجيا بدعم من «تيك توك»

أعلنت أكاديمية «SRMG» عن نيّتها إطلاق دورة تدريبية في صحافة التكنولوجيا، بدعم من منصّة «تيك توك»، وذلك في الرياض بين 15 و19 سبتمبر 2024.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق أمّهاتٌ قاتلات وأزواجٌ مجرمون... «راوية الجريمة» تعرض أفظع الجرائم الواقعيّة

أمّهاتٌ قاتلات وأزواجٌ مجرمون... «راوية الجريمة» تعرض أفظع الجرائم الواقعيّة

يشهد عالم التلفزيون والإعلام مؤخراً اهتماماً مطّرداً من قبل الجمهور بالجريمة الواقعية. يأتي بودكاست «راوية الجريمة» عبر «الشرق» ليروي هذا العطش المستجدّ.

كريستين حبيب (بيروت)
الولايات المتحدة​ أوبرا وينفري تتحدث في اليوم الثالث من المؤتمر الوطني الديمقراطي (أ.ف.ب)

بعد دعمها هاريس... ماذا نعرف عن تاريخ أوبرا وينفري السياسي وتأييداتها؟

تحدّثت الإعلامية الشهيرة أوبرا وينفري، أمس (الأربعاء)، في المؤتمر الوطني الديمقراطي، حيث أعلنت تأييدها لكامالا هاريس، واستمرّت في دعمها للمرشحين الديمقراطيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

قنوات إخبارية عربية جديدة تتنافس على حصص الخبر والرأي

دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)
دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)
TT

قنوات إخبارية عربية جديدة تتنافس على حصص الخبر والرأي

دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)
دكتور سعد بن طفلة العجمي (إندبندنت عربي)

خلال أقل من سنتين من إطلاق «القاهرة الإخبارية»، كفضائية تبحث عن حصة من الحضور في مخاطبة العالم والرأي العام العربي والدولي، أطلقت الكويت قناتها الإخبارية الخاصة، فبدأت هي الأخرى بحجز موقعها من فضاء عربي يمتلأ بالمحطات الإخبارية، رغم ما يشاع من هجرة محتملة عن التلفزيون لصالح منصات التواصل التي أزاحت ما يوصف بالأشكال التقليدية للإعلام والتواصل.إنه فضاء يزدحم بالقنوات الإخبارية، في ظل تطورات سياسية وتحوّلات اتصالية لا تهدأ، تشهدها المنطقة. ومن ثم، السؤال مطروح عن دلالات هذا الإقبال على إطلاق قنوات إخبارية جديدة، وما إذا كان ذلك يعكس حاجة وتنوّعاً مثرياً أم اختلافاً في توجهات المنطقة ومنصات التعبير عنها؟

وماذا عن مسألة الموضوعية؟ وهل تواجه تحدياً خاصاً، في ظل هذا النمط من الإطلاقات والفضائيات التي تخاطب الرأي العام العربي والعالمي؟

«الشرق الأوسط» استطلعت آراء متخصصين في قطاع الإعلام والدعاية السياسية، عن تطورات المشهد الإعلامي العربي، وهو يستضيف محطات جديدة، تتناول الأخبار والأحداث السياسية، وتضخ برامج إخبارية وثقافية وحوارية جادة.

شعار «آر تي» (رويترز)

إنه تحدٍ كبير

الدكتور سعد بن طفلة، وزير الإعلام الكويتي السابق، قال إن «انتشار الفضائيات الإخبارية في هذا العالم الذي يشهد ثورة منفعلة جداً، وثورة رقمية بركانية في الاتصالات وعالم المعلومات بشكل عام، تحدٍ كبير... والجميع يحاول أن يوجد مكانة له في نشر الخبر. وبالتالي، التأثير على صياغة الأحداث وتوجيه الرأي العام المحلي والعالمي».

وأشار بن طفلة إلى أن «التأثير في المجتمعات المحلية أصبح مستحيلاً، لأن العالم اليوم يشهد قدرة الإنسان العادي على فتح نوافذ يطل منها إلى الأحداث والعالم، ويتابعها حيّة على الهواء»، لافتاً إلى أن «فكرة الفضائيات الإخبارية بشكل عام ستواجه التحدّي نفسه الذي تعرّضت له الصحافة، وكذلك الإعلام الورقي، في ظل ما يتمتع به إنسان اليوم من تقنيات حوّلته من مستهلك صامت، إلى وسيلة إعلام متنقلة، بوزارة إعلام متكاملة يحملها في جيبه، ويقوم من خلال هاتفه بنشر الأخبار وتسجيلها عبر البثّ الحي أو النشر اللاحق، بكل أشكال الوسائط المتاحة».

وزير الإعلام الكويتي السابق رأى أن هذا الواقع سيضطر القائمين على هذه الفضائيات إلى «التركيز على صيغة جديدة من المحتوى، تتجاوز الاعتماد على الخبر إلى الخبر المطوّر، بمعنى أن يركزوا على تقديم برامج تضيف إلى المشاهد الجديد، وتلبي احتياجات وذائقة مختلفة لدى الجمهور المتشبع بالأخبار».

واستبعد الدكتور سعد أن يستقر شكل المشهد الإعلامي العربي والعالمي قريباً، موضحاً: «كثيرة هي التحديات التي لا نستطيع أن نحكم عليها اليوم، لأننا في بدايات هذه الثورة الرقمية، ويتطلب الأمر التمهل حتى يكتمل نمو الجيل الرقمي الحالي... أبناء هذا الجيل هم من يستطيع الإجابة عن تساؤلات راهنة بشأن المشهد الإعلامي وتحولاته، وقد لا نعثر على إجابة إلا بعد عقد أو عقدين من الآن».

شعار قناة «القاهرة الإخبارية» (قناة القاهرة الإخبارية)

التلفزيون يتطوّر والمحتوى يتمدّد

من جهته، يستبعد الدكتور غازي العمري، الباحث في الإعلام السياسي ومؤلف كتاب «الدعاية السياسية»، أن يهجر الجمهور التلفزيون، ويشرح: «التلفزيون اختراع قديم يتطور، وصحيح أنه لم يعد ذلك المنتَج الحصري الذي يملي علينا خيارات الوقت والمادة المعروضة، لكن كل من يملك شاشة أياً كان حجمها، ولو كان بحجم بوصة واحدة في ساعة اليد الذكية، سيصله محتوى القناة الجديدة، ما دامت تتمدد في وسائل التواصل كناشر... وكل هذا على صعيد الأحداث الساخنة والتنوع والإثراء، ولا يمكن أن يهجر الجمهور وسائل الإعلام الناطقة باسم أرضه وسمائه، فالجمهور يستبدل الأجهزة فقط».

وعمّا إذا كانت هذه الفضائيات تعكس تنوّعاً أم هي تعبير عن اختلاف التوجهات السياسية التي تشكل المنطقة، يقول الدكتور العمري: «ثمة اختلاف جليّ للتوجهات في المنطقة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ومحاولات الهيمنة باتت أكثر وضوحاً، فالكل يقفز وينوّع التحالفات، والسياسة تجلّت كمسألة متغيرة بلا مواربة».

ويضيف أن الإعلام المموّل حكومياً «يثبت يوماً بعد آخر أنه المغذّي الرئيس للجمهور المتابع للأخبار والإثراء المعرفي والآيديولوجي والترفيهي واتجاهات العالم وساكنيه في التسلية والرياضة والطبخ، عبر تغذية منصات وسائل التواصل». ويتابع: «لو أغلقنا هذه القنوات كلها، لما بقي في وسائل التواصل إلا تناحر فئوي وجماعاتي وردّي، وبعض فيديوهات متناثرة هنا وهناك، وتبعاً لذلك فالقنوات الفضائية الجديدة تأتي في توقيت مناسب جداً، ما دام الحال كذلك».

الدعاية السياسية... وتضرر الموضوعية

أما ماجد الجريوي، الأكاديمي المتخصص في الإعلام، فيرى أن الاستمرار في إطلاق قنوات إخبارية جديدة «يؤكد، بل يجدد أهمية الإعلام ودوره المؤثر كقوة ناعمة في تكوين وتشكيل الاتجاهات والآراء، والحرص على السيطرة على منابع الأخبار وطرح الدعايات السياسية لكل كيان، ولا سيما أن معظم الكيانات الإخبارية ممولة من حكومات، والبعض الآخر تؤول ملكيته إلى القطاع الخاص، إلا أن ملّاكها لا تنقصهم الأهداف السياسية التي يسعون إلى تحقيقها».

ووفق الجريوي: «الاختلاف في التوجهات وتباين الدعايات السياسية من أهم الدوافع إلى تكوين أذرع إعلامية لكل مشروع أو توجه، يبني له منافذ إعلامية تضمن وصول أهدافه»، مستشهداً بحالة التباين في التغطية التي تبثها محطتا «سي إن إن» و«روسيا اليوم» للأحداث الشرق أوسطية، والاختلاف الذي يظهر بينهما، ليس على مستوى الرأي فحسب، بل في إيراد المعلومة والتعاطي معها. ومن ثم، يعتقد الجريوي أن «الموضوعية تشهد تناقصاً ملحوظاً... وخصوصاً بعدما أصبح معظم تلك القنوات ليست أكثر من كيانات ومشاريع وأذرع دعاية، الأمر الذي يجعل مساحة الحيادية والموضوعية تتناقص في فضاء الإعلام». ويستطرد: «تضرر الموضوعية يعجّل من هجرة الجمهور عن التلفزيون، ومحاولة البحث عن مصادر تلقٍ مختلفة ومنفصلة عن تأثير ملّاك المؤسسات... لكن هذا لا يعني أن التلفزيون بمحطاته الإخبارية الجديدة خسر الرهان في المنافسة الإعلامية». ويختتم موضحاً: «حتى مع ضعف الإقبال على التلفزيون، فإن حجم الشبكات الاجتماعية التابعة لتلك القنوات، والأعداد المليونية التابعة لها، علاوة على كثافة الآراء المطروحة والمعلومات التي تمرر فيها، كل هذا يوفّر لأي جهة تمتلك مشروعاً دعائياً الفرصة لأن تجد في القنوات الإخبارية أهم أدواته».