متى يطوي العالم صفحة «كورونا»؟

مع دخول الجائحة سنتها الرابعة

فلسطيني في مخيم «الشاطئ» بغزة يمر أمام لوحة جدارية تحثّ على اتخاذ تدابير وقائية ضد «كوفيد - 19» (أ.ف.ب)
فلسطيني في مخيم «الشاطئ» بغزة يمر أمام لوحة جدارية تحثّ على اتخاذ تدابير وقائية ضد «كوفيد - 19» (أ.ف.ب)
TT

متى يطوي العالم صفحة «كورونا»؟

فلسطيني في مخيم «الشاطئ» بغزة يمر أمام لوحة جدارية تحثّ على اتخاذ تدابير وقائية ضد «كوفيد - 19» (أ.ف.ب)
فلسطيني في مخيم «الشاطئ» بغزة يمر أمام لوحة جدارية تحثّ على اتخاذ تدابير وقائية ضد «كوفيد - 19» (أ.ف.ب)

في رحلته اليومية من منزله بضاحية حلوان في جنوب القاهرة إلى مقر عمله بوسط العاصمة المصرية، مستخدماً مترو الأنفاق، يحرص المهندس خالد الدسوقي، صاحب الـ56 عاماً، على ألا تغادر الكمامة وجهه في رحلتَي الذهاب والعودة، على الرغم من تخلص بقية الركاب من هذا الإجراء الاحترازي ضد الفيروس الذي يدخل عامه الرابع.
الدسوقي، الذي يعمل مهندساً مدنياً وظل يؤجل لحظة الانتقال من العمل المنزلي الذي فرضه الوباء إلى الذهاب لمقر العمل، قال لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد بالإمكان الاستمرار في العمل عن بُعد، بعد أن أصدرت إدارة الشركة قراراً بالعودة إلى أوضاع ما قبل بداية الوباء، ولكنني بقدر الإمكان أحاول الالتزام بالإجراءات الاحترازية، حتى وإن شعرت بأنني صرت غريباً في مجتمع كان يخشى أفراده قبل شهور، عطسة شخص إلى جوارهم، خشية العدوى».

التخلي عن احتياطات «كورونا» يعطي انطباعاً خادعاً بنهاية الوباء (جامعة هارفارد)

وأصبحت غالبية شعوب العالم تتصرف مثل رفقاء الدسوقي في عربة المترو، وهو ما يثير تساؤلاً منطقياً: «هل طوى العالم صفحة (كورونا)؟».
بالنظر إلى عداد الإصابات والوفيات، الذي لا يتوقف عن إضافة المزيد كل يوم، لا يبدو أن العالم طوى تلك الصفحة، بل لا يستطيع أحد أن يتنبأ بموعد تلك الخطوة، ولكن ربما تعطي سلوكيات البشر «إحساساً خادعاً» بذلك، بعد أن انتقل العالم من مرحلة «الذعر الوبائي» إلى «التعايش مع الفيروس»، كما تكشف الأرقام.
وساعد الخوف من الفيروس والإغلاقات التي نفّذتها الدول في بدايات الوباء الذي أعلنته «منظمة الصحة العالمية» حالة «طوارئ» صحية في 31 يناير (كانون الثاني) 2020، إلى تقليل عدد الإصابات في البداية، ثم ما لبثت أن تخلّت الدول رويداً رويداً عن هذه الإغلاقات، مع تحقيق تقدم في حملات التطعيم، وهو ما أدى إلى إصابة عدد كبير من السكان من غير المطعمين، لتعمل هذه الإصابات، جنباً إلى جنب، مع المناعة المتشكلة عند البعض باللقاحات، على تشكيل مناعة مجتمعية، خفضت الإصابات مجدداً.
- مفارقة تكشفها الأرقام
ورغم شعور المهندس الدسوقي -غير المبنيّ بالضرورة على إحصاءات- بتراجع الإصابات والوفيات في محيطه العائلي والمهني؛ فإنه لا يزال على حذره في ارتداء الكمامة خوفاً من تداعيات الإصابة بالفيروس الذي لطالما شغل الدنيا وأرعب الناس.
لكن ثمة دلائل علمية، تتباين بدرجة ما مع مخاوف الدسوقي البالغة، إذ تُظهر الإحصاءات أن مؤشر الوفيات في بدايات الوباء كان مرتفعاً، ثم ما لبث أن انخفض بنسبة كبيرة رغم استمرار زيادة عدد المصابين.

سياسة «صفر كوفيد» حرمت الصينيين من تشكيل المناعة المجتمعية (غيتي)

غير أن معدل الوفيات عاد إلى الارتفاع مجدداً، وذلك «بسبب السياسات الصينية، التي تخلّت بشكل مفاجئ عن سياسة (صفر كوفيد) التي حرمت المجتمع الصيني من تشكيل مناعة مجتمعية، فأدى ذلك لزيادة عدد الوفيات، لا سيما بين كبار السن»، حسب تقديرات خبراء.
عالمياً تكشف إحصاءات جامعة «جونز هوبكنز» الأميركية عن هذه المفارقة، ففي يوم 21 يناير 2022، والذي شهد أعلى عدد من الإصابات منذ بداية الوباء وسجل (نحو 3 ملايين و851 ألفاً و174 إصابة)، كان عدد الوفيات (9 آلاف و494 حالة وفاة)، بمعدل أقل من نصف في المائة (0.246 في المائة)، وبالمقارنة مع يوم 21 يناير في العام الذي سبقه (2021)، كان عدد الإصابات (651 ألفاً و526 إصابة) توفي منهم (16 ألفاً و878 شخصاً) بمعدل (2.59 في المائة)، لكن في 21 يناير من عام 2023، عاد معدل الإصابات والوفيات إلى الارتفاع مجدداً بمعدل بسيط، بسبب الوضع الوبائي في الصين، حيث كان عدد الإصابات (153 ألفاً و257 إصابة) توفي منهم (ألفان و552 شخصاً)، بمعدل (1.665 في المائة).
وكان نمط الانخفاض الواضح في عدد الوفيات، رغم زيادة عدد الإصابات، سبباً في «انتقال العالم بعد ثلاث سنوات من مرحلة الذعر من الوباء إلى التعايش معه»، كما يوضح ماثيو وودروف، مدرس علم المناعة البشرية بجامعة «إيموري» الأميركية في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط». ويقول وودروف: «حققت حملات التطعيم نجاحاً كبيراً في منع عدد لا يحصى من الوفيات في جميع أنحاء العالم، وهو ما ساعد على إنهاء حالة الذعر من الفيروس». وأضاف: «أعتقد أن غالبية السكان لا يرون أنفسهم معرَّضين لخطر كبير، لكنّ هذا لا يعني طيّ صفحة الوباء، لأنه من غير المرجح أن يوقف الفيروس مساره دون ابتكار جديد».
- متحور «كراكن»
وكان آخر ابتكارات الفيروس هو المتحور «XBB.1.5»، والذي بات يُعرف بشكل غير رسمي باسم «المتحور كراكن»، وظهر في أميركا في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، ثم انتقل إلى 38 دولة على الأقل، ووصفته ماريا فان كيركوف، الرئيسة الفنية لـ«كوفيد - 19» بمنظمة الصحة العالمية، في تصريحات صحافية، بأنه «الأكثر قابلية للانتقال حتى الآن، مع حدوث طفرات في البروتين الشوكي الفيروسي (سبايك) تسمح للفيروس بالارتباط بشكل أفضل بمستقبلاته في الخلايا البشرية (ACE - 2) وتسهل التهرب المناعي».
ورغم هذه المواصفات، لا يرى وودروف، أن هذا المتحور يمكن أن يتسبب في ضياع المكاسب التي تحققت خلال سنوات الوباء، وقال: «على الرغم مما يقال عن المتحور وقدراته، فإن معدلات الوفيات لم ترتفع بالطريقة التي كانت عليها في وقت مبكر من الجائحة».
ويعزو وودروف تفاؤله إلى أن «السكان طوّروا على الأقل خطاً أساسياً للمناعة العامة، ولا يعني هذا بالضرورة حماية الأشخاص من العدوى النشطة، ولكنّ هذا يعني أن نظام المناعة لديهم يتمتع بقدر قليل من الذاكرة المناعية عند مواجهة متغيّر جديد». ويرى أنه «من غير المحتمل أن ننزلق مرة أخرى إلى أيام الوباء المبكرة، دون حدوث طفرة كبيرة غير متوقعة بالفيروس، تتجاوز مجرد تطور سلالة جديدة».

وتبدو مسألة حدوث هذه الطفرة الكبيرة، التي تعيد الذعر الوبائي، أمراً مستبعداً، في رأي أحمد سالمان، مدرّس علم المناعة وتطوير اللقاحات في معهد «إدوارد جينز» بجامعة «أوكسفورد» البريطانية، والذي قال في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»: «إذا حدث ذلك، سنكون أمام فيروس جديد نبحث له عن اسم آخر، ولكن منذ تم اكتشاف (أوميكرون) في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، ندور في إطار متحورات جديدة من نفس عائلة (أوميكرون)».
ويشرح سالمان: «حتى يتمكن الفيروس من إحداث عدوى الخلية البشرية، يجب أن يكون الشكل الفيزيائي لبروتين (سبايك) متوافقاً مع مستقبلاته في الخلية البشرية (ACE - 2)، لذلك فإنه رغم حدوث تحورات في هذا البروتين، يظل محافظاً على الشكل الذي يمكّنه من الارتباط بمستقبلاته، وإذا فقد هذه القدرة، وبحث عن مستقبلات أخرى غير (ACE - 2)، سنكون أمام فيروس جديد ومختلف، وهذا أمر مستبعد».

ويوضح أن «الصفات الجديدة التي يكتسبها الفيروس مع المتحورات الجديدة كمتحور (XBB.1.5)، مثل معدل التكاثر المرتفع وسرعة الانتشار، تعود إلى تحورات في بروتينات أخرى، لذلك كان من الحكمة بناء اللقاحات على تركيبة (بروتين سبايك)، لأنها الأكثر ثباتاً، وهذا يفسر فاعلية اللقاحات بنسبة كبيرة في منع الوفاة، رغم أنها لا توفر بالضرورة الحماية من الإصابة بالفيروس».
ويضيف: «لا شك أن اللقاحات، حتى القديمة منها، والتي تم إنتاجها بناءً على النسخة الأولى من الفيروس الذي اكتُشف للمرة الأولى في ديسمبر (كانون الأول) 2019 بمدينة ووهان بالصين، لا تزال فعالة في الوقاية من المرض الشديد والوفاة، وهذا له دور كبير في انتقال العالم من مرحلة الطوارئ والذعر، إلى التعايش مع الفيروس».
- الانتقال لمرحلة التوطن
ولا يتوقع سالمان نهايةً لهذا الفيروس، لكن «قد تكون هناك نهاية للحالة الوبائية، والانتقال لمرحلة التوطن»، وفي هذه الحالة، كما يقول سالمان، «سيتم التعامل مع فيروس (كورونا) المستجد مثل فيروس الإنفلونزا، حيث ستكون هناك جرعات سنوية منه تُخصص بشكل كبير للفئات الضعيفة من كبار السن وضعاف المناعة».
وبينما تدرس الولايات المتحدة حالياً تغيير تركيبة اللقاح بشكل سنوي، كما يحدث مع الإنفلونزا، بحيث تكون متوائمة مع المتغير السائد، لا يعتقد سالمان أن هناك حاجة لتغيير سنوي للتركيبة لأن «هناك اختلافاً كبيراً بين فيروس الإنفلونزا و(كورونا) المستجد، رغم أن الفيروسين مادتهما الوراثية من النوع (آر إن إيه)». ويشرح أن «المادة الوراثية في الإنفلونزا مكوّنة من عدة شرائط صغيرة (من 8 قطع إلى 11 قطعة)، حسب نوع الفيروس، وهذا يجعل تحوراتها كثيرة، لذلك لا بديل عن تغيير تركيبة اللقاح سنوياً، ولكنّ (كورونا) المستجد يتكون من قطعة واحدة، لذلك فإن تحوراته المؤثرة قليلة، ودليل ذلك أننا ما زلنا ندور في فلك متغير (أوميكرون)، منذ تم اكتشافه في نوفمبر 2021».
ويخلص سالمان من ذلك إلى أن «الاختلافات لا تكون كبيرة بين المتحورات المختلفة من (كورونا) المستجد، لذلك فإن المناعة المكتسبة سواء من اللقاح أو من الإصابة، ستوفّر حماية من أي متحور قادم، وهذا يفسر سبب الأزمة التي تعيشها الصين منذ قررت التخلي عن سياسة (صفر - كوفيد)». ويقول: «تنفيذ الصين هذه السياسة حرم الصينيين من التعرض الطبيعي لمتغير (أوميكرون) عند ظهوره، كما كان مستوى التلقيح لديهم ضعيفاً، فضلاً عن قلة جودته مقارنةً باللقاحات الأخرى. ولذلك عندما قرروا التخلي عن تلك السياسة، كانت المتحورات الفرعية من (أوميكرون) جديدة تماماً بالنسبة إلى أجهزة المناعة، وهو ما تسبب في زيادة عدد الوفيات بين الفئات الأقل مناعة من كبار السن والمرضى».
والمفارقة أن حالة الذعر الوبائي، حتى مع زيادة عدد الإصابات، وارتفاع معدل الوفيات بين كبار السن وضعاف المناعة، لا تبدو موجودة في الصين، بل إن تقريراً نشرته «بي بي سي» في 6 يناير الماضي، نقل عن شباب صينيين اتجاههم للبحث عن العدوى «حتى يتمكنوا من اكتساب مناعة بالإصابة»، وهو سلوك يرفضه تامر سالم، أستاذ الفيروسات بمدينة زويل، لكنه يُرجعه إلى «توافر الأدوية المضادة للفيروسات، والتي صارت أداة مهمة من أدوات المكافحة». ويقول سالم لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن هذه الأداة متوافرة في بداية الوباء، ولكن وجودها الآن أعطى طمأنينة خفّفت كثيراً من حالة الخوف عند الإصابة بالفيروس».
وأصبحت حبوب «باكسوفيلد»، التي طوّرتها شركة «فايزر» الأميركية لصناعات الأدوية، من أبرز أدوات المكافحة، كما طوّرت شركتا «غونشي بايو» و«فيجونفيت لايف ساينس» الصينيتان دواء (VV116)، والذي سيظهر في الأسواق قريباً، وأظهرت تجاربه السريرية التي نشرتها دورية «نيو إنغلاند» الطبية في ديسمبر الماضي، أنه يفوق «باكسوفيلد» في متوسط وقت الشفاء والأعراض الجانبية الأقل.
- انتظار وترقُّب
وإذا كان الوضع على ما يبدو مطمئناً، كما ذهب الخبراء، فلماذا أعلنت «منظمة الصحة العالمية» قبل أيام (في 30 يناير الماضي) الإبقاء على «وضع الطوارئ»، رغم أن المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس قال في 17 سبتمبر (أيلول) من العام الماضي في مؤتمر صحافي، إن «نهاية الوباء أصبحت وشيكة»؟
دورية «لانسيت» الطبية الشهيرة، كانت قد استبقت الاجتماع الذي انتهى للإعلان عن استمرار «وضع الطوارئ» بمقال في افتتاحيتها يوم 14 يناير الماضي، قالت فيه إنها لا تعتقد أن الوضع مهيأ لإعلان نهاية الوباء، مشيرةً إلى أن «الوضع الوبائي في الصين، والمتحور (XBB.1.5) سريع الانتشار، لا يشجعان على هذا القرار».
و«يُتخذ قرار إعلان نهاية الوباء، عندما تكون هناك موسمية في تفشي المرض، بالإضافة إلى عدد أقل من الوفيات»، حسبما تُقدر لون سيمونسن، عالمة الأوبئة بجامعة «روسكيلد» في الدنمارك.
ويقول أمجد الخولي، رئيس فريق متابعة وتقييم اللوائح الصحية الدولية بالمكتب الإقليمي لشرق المتوسط بمنظمة الصحة العالمية في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «ربما سيتعين علينا انتظار وترقب الشتاء القادم، فوقتها ستكون الصورة أكثر وضوحاً، لاتخاذ هذا القرار من عدمه». لكنه يرى، في الوقت ذاته، أنه «لا داعي للاهتمام بموعد إعلان المنظمة لنهاية الوباء، لأننا في كل الأحوال وصلنا إلى وضع مستقر مع دخول السنة الرابعة للجائحة».
ويقول الخولي: «تخطّينا بشكل كبير مرحلة الذعر، نظراً لأن مئات الملايين من الأشخاص قد أُصيبوا بالفعل بالفيروس، وهناك لقاحات وعلاجات يمكن أن تمنع المرض الشديد، وهناك انخفاض ملحوظ في عدد الوفيات، وهذا هو المهم».
و«إذا كان العالم قد تخطى مرحلة الذعر، فيجب ألا يكون ذلك مبرراً للاستهتار»، كما يؤكد الخولي، لأن السيناريو الأقرب هو أن «الفيروس سيتحول من الحالة الوبائية إلى المتوطنة مثل الإنفلونزا». ويوضح: «كما تتسبب الإنفلونزا في إصابات ووفيات سنوياً، لا سيما بين كبار السن والفئات الضعيفة مناعياً، سيفعل هذا الفيروس نفس الشيء، والمفترض أن نكون قد أصبحنا أكثر وعياً خلال السنوات الماضية بالإجراءات الاحترازية التي تساعدنا على تجنب الإصابة به وبغيره من الفيروسات التنفسية». ويضيف: «قد يكون من بين هذه الإجراءات جرعة سنوية من اللقاح، وهو مقترح تتم دراسته حالياً، كما يجب أن يكون ارتداء (الكمامة) في الأماكن عالية الخطورة، مثل السفر في ظروف مزدحمة أو أماكن داخلية مزدحمة أو في وسائل النقل العام، جزءاً من ثقافتا الصحية، لا سيما في فصل الشتاء، وأخيراً، تنفيذ العزل الذاتي، في حالة الأعراض التنفسية».


مقالات ذات صلة

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

آسيا أحد أفراد الطاقم الطبي يعتني بمريض مصاب بفيروس كورونا المستجد في قسم كوفيد-19 في مستشفى في بيرغامو في 3 أبريل 2020 (أ.ف.ب)

«الصحة العالمية»: انتشار أمراض الجهاز التنفسي في الصين وأماكن أخرى متوقع

قالت منظمة الصحة العالمية إن زيادة حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي الشائعة في الصين وأماكن أخرى متوقعة

«الشرق الأوسط» (لندن )
صحتك جائحة «كورونا» لن تكون الأخيرة (رويترز)

بعد «كوفيد»... هل العالم مستعد لجائحة أخرى؟

تساءلت صحيفة «غارديان» البريطانية عن جاهزية دول العالم للتصدي لجائحة جديدة بعد التعرض لجائحة «كوفيد» منذ سنوات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

ما نعرفه عن «الميتانيوفيروس البشري» المنتشر في الصين

فيروس مدروس جيداً لا يثير تهديدات عالمية إلا إذا حدثت طفرات فيه

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية play-circle 01:29

فيروس رئوي قد يتسبب بجائحة عالمية

فيروس تنفسي معروف ازداد انتشاراً

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أحد الأرانب البرية (أرشيفية- أ.ف.ب)

الولايات المتحدة تسجل ارتفاعاً في حالات «حُمَّى الأرانب» خلال العقد الماضي

ارتفعت أعداد حالات الإصابة بـ«حُمَّى الأرانب»، في الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».