علي بن مخلوف: الفلسفة العربية جزء أساسي من الإرث الثقافي للبشرية

يبذل جهوداً كبيرة لإعادة الاعتبار إليها في الغرب

علي بن مخلوف
علي بن مخلوف
TT

علي بن مخلوف: الفلسفة العربية جزء أساسي من الإرث الثقافي للبشرية

علي بن مخلوف
علي بن مخلوف

يعد علي بن مخلوف أحد الاختصاصيين الكبار في الفلسفة العربية: أي فلسفة الفارابي وابن سينا وابن رشد وسواهم. ولكنه أيضاً أحد الاختصاصيين المهمين في الفلسفة الغربية وبخاصة الفلسفة التحليلية أو الوضعية المنطقية على طريقة برتراند رسل وغوتليب فريج وفتغنشتاين، إلخ. وهي من أصعب الفلسفات وأكثرها تعقيداً. وبالتالي فقد جمع المجد الفلسفي من طرفيه العربي والأوروبي. لقد أصبح جسراً بين حضارتين أو ضفتين. وبصفته تلك فقد أسهم في إقامة مؤتمرات كبرى بين مؤسستين كبيرتين هما: مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء، والمعهد الدولي للفلسفة في باريس. وعن هذه المؤتمرات التي شارك فيها المثقفون العرب والمثقفون الفرنسيون والأوروبيون عموماً نتجت خمسة مجلدات تحتوي على المداخلات. هذه المجلدات هي التالية: أولاً «العقل ومسألة التخوم أو الحدود التي ينبغي أن يتوقف عندها». ثانياً «دروب الفلسفة العالمية ومتاهاتها». ثالثاً «تنقلات أو رحلات النظريات الفلسفية من عالم إلى آخر». رابعاً «هل حقاً أن كل شيء نسبي يا ترى؟». خامساً «القانون والمشاركة السياسية».
هذا من جهة، وأما من جهة أخرى فيبذل علي بن مخلوف جهوداً كبيرة لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة العربية والفلاسفة العرب الكبار في الغرب. نقصد الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وابن رشد، وابن باجة، إلخ. فهؤلاء ذهبوا ضحية التقسيم التعسفي لتاريخ الفكر. فالكتب الغربية تنطّ مباشرةً من دراسة أرسطو وأفلاطون وبقية فلاسفة الإغريق قبل 2500 سنة إلى دراسة ديكارت. وهي بذلك تقفز على مرحلة العصور الوسطى كلها: أي على ألف سنة من عمر الحضارة البشرية. والمشكلة هي أن العصور الوسطى الأوروبية ليست عصوراً وسطى إسلامية أو عربية، وإنما هي العصر الذهبي للعرب! هنا يقع الإشكال. ولكن ينبغي الاعتراف بأن هذا التحقيب الأوروبي لتاريخ الفكر لا يظلم فقط الفلسفة العربية وإنما أيضاً الفلسفة المسيحية واليهودية التي سادت القرون الوسطى: أي فلسفة القديس توما الأكويني وموسى بن ميمون الذي كتب رائعته «دلالة الحائرين» باللغة العربية ثم تُرجمت لاحقاً إلى العبرية.

هذا الكلام لا يعني أنه لا يوجد فرق بين فلسفة القرون الوسطى وفلسفة القرون الحديثة. فالواقع أنه يوجد فرق أساسي. نضرب على ذلك مثلاً لذلك الانقسام الثنائي الكائن بين الإيمان والعقل، أو بين الدين والفلسفة. فهذا الانقسام حديث يعود إلى عهد ديكارت ولم يكن معروفاً في القرون الوسطى. بالنسبة إلى فلاسفة القرون الوسطى الإسلاميين، كما المسيحيين واليهود، فإن العقل هو الله أو قُلْ هو صادر عن الله مباشرةً وليس مستقلاً بذاته. أما بالنسبة إلى ديكارت ومَن تلاه فالعقل منبثق عن الذات البشرية ومستقل بذاته. من هنا نتج الشعار الشهير أو الكوجيتو: «أنا أفكر، فأنا موجود». وهذا يعني أن الفلسفة كانت في القرون الوسطى مجرد خادمة للدين أو لعلم اللاهوت، ولكنها تحررت من هذا الخضوع والتبعية في العصور الحديثة، وأصبحت مستقلة بذاتها. هنا يكمن الفرق بين العصور الوسطى والعصور الحديثة.
ولكن الشيء المدهش الذي يثير الإعجاب لدى فلاسفة العرب هو أنهم كانوا يحترمون الحقيقة من أي جهة جاءت أو أينما وجدوها. وكانوا يعتقدون أنه ينبغي أن نستفيد من المعرفة ولو جاءت من جهة شعوب أجنبية غريبة عنّا؛ بل حتى غير مسلمة. «علينا أن نأخذ الحقيقة من أي كان، سواء كان مشاركاً لنا في الملّة أم لا»، كما قال الكندي حرفياً. وضمن هذا المنظور الواسع نلاحظ أن «كتاب الملة» للفارابي أي «كتاب الدين» لا يتضمن أي هجاء أو شتم أو تكفير للأديان الأخرى كما يفعل الأصوليون عادةً. أبداً، أبداً. إنه خالٍ تماماً من الروح الطائفية التي كانت ملازمة لتفكير القرون الوسطى. وبالتالي فهو يتحدث عن الدين أو عن الأديان كلها من وجهة نظر فلسفية محضة، ويضعها على قدم المساواة. وموقف الفارابي هذا مدهش جداً وسابق لأوانه بكثير. وقُل الأمر ذاته عن أبي العلاء المعرّي، نابغة الزمان.
والآن نطرح هذا السؤال: كيف برّر الفلاسفة العرب أخذ العلم عن فلاسفة اليونان؟ عن هذا السؤال يجيب علي بن مخلوف قائلاً ما معناه: لقد انتشرت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي بصفتها حكمة لا فلسفة. وذلك لأن كلمة الحكمة ليست غريبة على الأذن العربية. بل هي عربية قُحّة. نقول ذلك ونحن نعلم أن كلمة «حكيم» هي أحد أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين. وبالتالي فلا اعتراض عليها. بل هي محترَمة ومقبولة تماماً في مجتمع مسلم مجبول جبلاً بالنص القرآني المقدس. لقد فكّر الفلاسفة المسلمون على النحو التالي: إذا ما قدمنا للجمهور المسلم فكرنا على أساس أنه فلسفة فسوف يجفل فوراً ويبتعد عنّا بل يشكّ فينا وفي إيماننا وصحة عقيدتنا. ولكن إذا ما قدمناه على أساس أنه حكمة، فسوف يقبل بنا ويُقبل علينا بلا أي مشكلة. وهذا ما فعله ابن رشد في كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». فلم يضع كلمة «فلسفة»، الغريبة الشاذة الأجنبية، على العنوان. لقد تحاشاها بشكل تكتيكي ذكي. ولكنه منذ الفقرة الأولى من الكتاب عاد إلى استخدام كلمة فلسفة! وهذا يعني أنه اتَّبع حيلة معيّنة ماكرة لكيلا يصدم الجمهور المسلم. وهذا ما فعله الفارابي أيضاً قبله في كتابه الشهير: «الجمع بين رأيي الحكيمين أرسطو وأفلاطون». فلم يقل «الجمع بين رأيي الفيلسوفين». ولكن على أي حال فإن كلمة فلسفة في اللغة اليونانية تعني حب الحكمة. وبالتالي فالكلمة العربية مطابقة للكلمة اليونانية من حيث المعنى. لقد حاول الفلاسفة العرب إقامة التوفيق أو المصالحة بين النصوص المقدسة من جهة، والفلسفة الوثنية لأفلاطون وأرسطو من جهة أخرى. ولكنهم ما كانوا يقولون عنهم إنهم فلاسفة وثنيون وإنما يستخدمون كلمة «المتقدمين» أو القدماء: أي أرسطو وأفلاطون وسواهما من فلاسفة اليونان. وذلك لأنهم لو قالوا إنهم وثنيون لانفضّ عنهم الجمهور المسلم فوراً؛ بل لكفَّرهم أيضاً؛ إذ كيف يمكن أن تتأثروا بفلاسفة وثنيين أو تقيموا لكلامهم وزناً؟ معاذ الله، أعوذ بالله.
على أي حال، ربما لهذا السبب كان وجود الفلسفة في العالم الإسلامي دائماً مهدداً ومحفوفاً بالمخاطر. بل حتى في عصرنا الحاضر، فإن الأصوليين المحافظين يتهمون الفلسفة بأنها تُبعد عن الدين بل بأنها عدوّة للدين. وفي كل الأحوال فقد استطاع الفقهاء الكبار القضاء عليها بسرعة في نهاية المطاف، بدءاً من الإمام الغزالي وانتهاءً بابن خلدون، مروراً بابن تيمية وعشرات آخرين. «مَن تمنطق فقد تزندق». أعوذ بالله من الكفر والكفار. ولم تقم لها قائمة في أرض الإسلام منذ موت ابن رشد عام 1198 وحتى القرن التاسع عشر، حيث ابتدأت بشائر عصر النهضة.
لقد ماتت الفلسفة عندنا طيلة سبعة قرون متواصلة. وفي هذه القرون السبعة الانحطاطية التي نمنا فيها على التاريخ، تحققت أكبر الفتوحات العلمية والفلسفية في أوروبا. في هذه القرون ظهر كوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، وماركس، وفرويد، وعشرات غيرهم من النجوم والأعلام. ثم يستغرب بعضهم متسائلين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ولكن إذا ما عُرف السبب بطل العجب.
ينبغي ألا ننسى أن البروفسور علي بن مخلوف من مواليد مدينة فاس العريقة التي لطالما أنجبت العلماء والمفكرين على مدار العصور. نذكر من بين أشهر كتبه: «الفارابي: التفلسف في بغداد إبان القرن العاشر الميلادي». وهنا يقول لنا المؤلف إن المعلّم الثاني بعد أرسطو، أي الفارابي، هو الذي دشَّن المدرسة المنطقية والفلسفية العربية في عاصمة العباسيين وفي عهد البويهيين. وعندئذ تشكل تيار فكري كوني كوسموبوليتي تتناغم فيه المصادر الإغريقية مع التفاسير القرآنية مع كتب البلاغة والشعرية العربية. وكانوا يقرأون كتب الدين وكتب أفلاطون وأرسطو معاً بكل حرية.
ولا ننسى كتابه التالي: «لماذا نقرأ فلاسفة العرب؟ الإرث المنسيّ». هذا الكتاب يقول لنا ما معناه: الفلسفة العربية كما تجسدت في التاريخ بين القرنين الثامن والخامس عشر تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الإرث الثقافي للبشرية. وهذا سبب كافٍ لكي نهتم بها وندرسها.
أخيراً عندما سألوا علي بن مخلوف: كيف يمكن تقليص ظاهرة التطرف الديني في العالم الإسلامي؟ أجاب بما معناه: الحل الوحيد هو في التربية والتعليم والتنوير. ونضيف من عندنا: ما دام كلام الشيوخ المتزمتين هو السائد وليس التعليم الفلسفي النقدي للدين، فلا حل ولا خلاص. المسألة فكرية قبل أن تكون سياسية. ولن تُحل سياسياً ما لم تُحل فكرياً ومعرفياً في العمق. ينبغي أن يظهر تعليم جديد للدين الإسلامي في العالم العربي. المقصود تعليم مستنير بضوء العقل ونور الفلسفة. هذا الشيء أصبح حاجة ماسة. وينبغي أن ينتشر هذا التعليم الجديد المستنير لتراثنا العربي الإسلامي الكبير في المدارس والجامعات والفضائيات لكي يواجه التعليم التقليدي، وأكاد أقول: الظلامي المسيطر كلياً تقريباً. فالفلسفة، أي الفكر النقدي المضيء، هي وحدها القادرة على تحجيم العقلية الدوغمائية المتحجرة التي تفرّخ المتطرفين والإرهابيين. نقول ذلك ونحن نعلم أن تراثنا الديني العظيم يحتمل قراءتين: الأولى منفتحة والأخرى منغلقة، الأولى متسامحة والأخرى متعصبة، الأولى تنويرية والأخرى تكفيرية. ولكم الخيار!


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم