اكتشاف مخطوط من أقدم نسخ للقرآن في العالم في مدينة بريطانية مغمورة

يعود إلى نحو عام 600 ميلادية أي عصر النبي محمد وكتب بخط حجازي

من خلال فحص المخطوط في أحد المعامل بجامعة أكسفورد عبر تقنية الكربون المشع تبين أن تاريخه يعود إلى نحو عام 600 ميلاديا (أ.ب)
من خلال فحص المخطوط في أحد المعامل بجامعة أكسفورد عبر تقنية الكربون المشع تبين أن تاريخه يعود إلى نحو عام 600 ميلاديا (أ.ب)
TT

اكتشاف مخطوط من أقدم نسخ للقرآن في العالم في مدينة بريطانية مغمورة

من خلال فحص المخطوط في أحد المعامل بجامعة أكسفورد عبر تقنية الكربون المشع تبين أن تاريخه يعود إلى نحو عام 600 ميلاديا (أ.ب)
من خلال فحص المخطوط في أحد المعامل بجامعة أكسفورد عبر تقنية الكربون المشع تبين أن تاريخه يعود إلى نحو عام 600 ميلاديا (أ.ب)

لم تكن ضمن المخطوطات المحفوظة في المكتبات الشهيرة حول العالم، التي تحتوي الكثير من الذخائر الإسلامية مثل برلين ولندن أو إسطنبول. لكن هذه النسخة من القرآن الكريم وجدت في مكتبة مغمورة في مدينة بريطانية، لم يسمع الكثير من الناس بها. لكن مدينة برمنغهام الواقعة في وسط إنجلترا تحتوي على جامعة مرموقة، لكنها ليست بشهرة الجامعات الأخرى مثل أكسفورد أو كمبردج أو لندن أو مكتباتها، والتي تشتهر بعضها باحتوائها على ذخائر إسلامية وعربية. الشيء الوحيد الذي تشتهر به المدينة محليا أنها تحتوي على نسبة عالية من الآسيويين المسلمين. وهذه المدينة مرشحة أن يصبح فيها الإنجليز أقلية في المستقبل.
لكنها أمس تصدرت نشرات الأخبار، بعد أن كشفت جامعتها، أي جامعة برمنغهام، أنها تمتلك مخطوطا من أقدم نسخ للقرآن في العالم. وذكرت الجامعة أمس الأربعاء أنه تبين لباحثين من خلال فحص المخطوط في أحد المعامل بجامعة أكسفورد عبر تقنية الكربون المشع أن تاريخه يعود إلى نحو عام 600 ميلاديا.
وأضافت الجامعة أن هناك احتمالا بنسبة 4.‏95 في المائة أن يكون المخطوط قد تمت كتابته بين عام 568 و645 ميلاديا، ما يعني أنه يعود إلى عصر النبي محمد عليه الصلاة والسلام (نحو 570 - 632 ميلاديا)، ليكون بذلك من أقدم النسخ القرآنية المحفوظة.
وقالت سوزان ورال مديرة مكتبة كادبوري البحثية في الجامعة إن هذا الكشف يعد إسهاما مهما في فهم النسخ الأولى للقرآن، وأضافت: «نشعر بحماس شديد لوجود مثل هذه الوثيقة التاريخية المهمة هنا في برمنغهام، المدينة ذات التنوع الثقافي الأكثر في المملكة المتحدة».
ولفترة طويلة تم ربط هذا المخطوط عن طريق الخطأ بمخطوط آخر للقرآن مشابه، يرجع تاريخه إلى أواخر القرن السابع الميلادي.
الاكتشاف أثلج قلوب الباحثين وأهل المدينة المسلمين، والذي جاء بعد أن طلب أحد طلاب الجامعة الذي اكتشف صدفة خلال بحثه لرسالة الدكتوراه واكتشف أن المخطوط ارتبط بمخطوط آخر، وطلب هذا الطالب أن يجري فحصا على الورق الذي كتبت عليه النصوص القرآنية مستخدما تقنية الكربون المشع.
الفحص أثبت أن الكتابة تعود إلى عصر النبي محمد وأن هذه المخطوطة «قد تكون كتبت بعد وفاة النبي بقليل»، قال ديفيد توماس أستاذ الدراسات الإسلامية والمسيحية في جامعة برمنغهام، مضيفا: «النصوص القرآنية المكتوبة في المخطوطة هي نفس النصوص القرآنية المعروفة في النسخ القرآنية الموجودة الآن. هذا يدعم وجهة النظر بأن القرآن الذي نعرفه هو نفس القرآن الذي تم جمعه في البدايات الأولى للإسلام».
النصوص القرآنية وصلت إلى النبي محمد عن طريق الوحي، بين 610 و632 ميلادية، لكن لم يتم جمعها مباشرة. وبعد وفاة النبي محمد أمر الخليفة أبو بكر بجمعها، وكتبت عدة نسخ في فترة الخليفة عثمان بن عفان، أي عام 650 ميلادية.
ويضيف ديفيد توماس أن فحص الكربون المشع الذي استخدم أثبت أن الحيوان الذي استخدم جلده كورق للكتابة كان يعيش في فترة وجود النبي محمد، أو بعد وفاته بقليل. «ولهذا فإن كتابة أجزاء من القرآن على هذا الورق الجلدي، يمكن تحديدها بدرجة عالية من الثقة أنها قد تمت بعد أقل من عقدين من وفاة النبي محمد».
النصوص القرآنية تحتوي على أجزاء من سور (18 إلى 20) كتبت بحبر يظهر البدايات الأولى للكتابة العربية التي استخدم فيها الخط الحجازي. وأضاف توماس في مقابلة مع هيئة البث البريطاني (بي بي سي) «من المرجح أن الشخص الذي كتب هذه النصوص القرآنية كان على معرفة بالنبي، شاهده وسمعه يلقي الخطب، وربما كان على معرفة شخصية به».
المخطوط جزء من مجموعة من ثلاثة آلاف وثيقة شرق أوسطية حصل عليها في العشرينات من القرن الماضي الخوري ألفونسو مينانا، الذي ولد قريبا من الموصل في العراق. ورحلته للحصول على المخطوطات كانت بتمويل من قبل فاعل الخير المسيحي إدوارد كادبوري (من حركة كويكرز أو أصدقاء الإنسانية)، المشهور بتأسيسه مصانع الشوكولاته. دعم كادبوري أدى إلى تأسيس مكتبة تحمل اسمه، أي مكتبة كادبوري البحثية. لكن كان المخطوط قد أضيف بالخطأ إلى مخطوط آخر يحمل نصوصا شبيهة، لكنها ليست بنفس القدم. طالبة الدكتوراه، ألبا فضيلي، لاحظت الفرق بين النصين.
وتحتوي مكتبة كادبوري على 200 ألف كتاب تعود إلى ما قبل 1850، ابتداء من 1471، إضافة إلى أربعة ملايين مخطوط. وتم جمع الكتب والمخطوطات لرفع المستوى الثقافي لمدينة برمنغهام، وجعلها مركزا للدراسات الذهنية.
مدينة برمنغهام تحتوي على نسبة عالية من المسلمين، إذ يصل نسبة المسلمين فيها إلى ما يقارب 20 في المائة من سكان المدينة التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في بريطانيا بعد لندن. وتنوي الجامعة عرض مخطوطة النصوص الإسلامية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. الكثير من المسلمين أبدوا رغبتهم في الحضور إلى المدينة لمشاهدة هذه الاكتشاف التاريخي.
«الكثير من المسلمين من المدينة ومن خارجها» يريدون مشاهدة الوثيقة، قال محمد علي الذي يعمل في الجامع الرئيسي في المدينة، والذي دعي من قبل الجامعة لمشاهدة المخطوطة. «سالت دموعي عندما شاهدتها» قال علي، مضيفا: «إنه لمخطوط فريد من نوعه، إنه من فترة النبي محمد».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)