ميلانو احتفلت... وباريس تألقت... والرجل فاز بتصاميم أنيقة

العقلانية والابتعاد عن إحداث الصدمة سادا أسابيع الموضة الرجالية لخريف وشتاء 2023 ـ 2024

المصمم جيورجيو أرماني يتوسط العارضين المشاركين في عرضه لخريف 2023 وشتاء 2024 (خاص)
المصمم جيورجيو أرماني يتوسط العارضين المشاركين في عرضه لخريف 2023 وشتاء 2024 (خاص)
TT

ميلانو احتفلت... وباريس تألقت... والرجل فاز بتصاميم أنيقة

المصمم جيورجيو أرماني يتوسط العارضين المشاركين في عرضه لخريف 2023 وشتاء 2024 (خاص)
المصمم جيورجيو أرماني يتوسط العارضين المشاركين في عرضه لخريف 2023 وشتاء 2024 (خاص)

أخيراً تنفس صناع الموضة الصعداء. الكل متفائل بمستقبل الموضة الرجالية تحديداً بعد سنتين عجاف زعزعتا أركان هذا القطاع وغيرتا بعض قناعاته. حتى الحرب الأوكرانية التي أثارت بعض القلق في بدايتها بسبب ما يمكن أن يترتب عنها من أزمات على سلسلة التوريد والإنتاج وغيرها، لم تُؤثر عليها بالحجم الذي كان صناع الموضة يتخوفون منه. بالعكس، سجّلت الأزياء الإيطالية في عام 2022 زيادة في الإيرادات بنسبة 16 في المائة لتصل إلى 96. 6 مليار يورو. كما سجلت بيوت أزياء مثل «سان لوران» و«غوتشي» و«جيفنشي» إيرادات مهمة في مجال الأزياء الرجالية أهم من تلك المُسجلة في مجال الأزياء النسائية. هذا الانتعاش أكدته عروض الموضة التي جرت مؤخرا في كل من ميلانو وباريس لخريف وشتاء 2023.

من عرض «غوتشي» (رويترز)

أهم ما لفت الأنظار فيها أنها عادت إلى سابق عهدها: حية، مركزة وبأعداد كبيرة. والطريف أن رياح التغيير الأخيرة التي تميزت بعودة قوية إلى السفر وتنظيم العروض المُبهرة بعد سنتين من العروض الافتراضية والرقمية قوبلت بترحيب. لم يخطر على بال أحد من المتابعين أن يُحاسب المسؤولون من صناع الموضة على عدم إيفائهم بالوعود التي تبرعوا بها خلال سنوات الجائحة، مثل التخفيف من عدد العروض، وعدم السفر إلى أماكن بعيدة؛ حفاظاً على البيئة، وما شابه من وعود إنسانية. ففي زمن تبدو فيه المحاسبة على أبسط الأشياء هي المعمول بها على منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، كانت الرغبة في العودة إلى الحياة كما تعودنا عليها من قبل أقوى من المبادئ والقناعات. ما أكدته فترة الجائحة أن لا شيء يعوض عن تجربة العروض الحية وما يصاحبها من حماس وترقب وأضواء وموسيقى، وغيرها من العناصر التي تُدغدغ الحواس وتثير المشاعر. أسبوع باريس مثلا شهد ما لا يقل عن خمسين عرضاً حياً منها عرض «سان لوران» الذي افتتح به الأسبوع مساء يوم الثلاثاء الماضي، مع العلم أنه أول عرض أزياء رجالي للدار الفرنسية في باريس منذ أن تولّى البلجيكي أنطوني فاكاريللو منصب المدير الفني فيها عام 2016، حيث كان يفضل العرض في عواصم عالمية أخرى لكي تخلو له الساحة. دار «جيفنشي» أيضا استغنت عن خط «الهوت كوتور» لصالح خط رجالي يُشرف عليه حاليا المصمم الأميركي ماثيو ويليامز الذي قدم يوم الأربعاء مجموعة من الإطلالات لعب فيها على مفهوم الطبقات المتعددة، حيث جمع فيها بين سترات مفصلة وكنزات بقلنسوات وبنطلونات واسعة وقصيرة.

من عرض «سان لوران» (خاص)

في ميلانو، قدمت دار غوتشي بدورها عرضاً حياً بعد غياب ثلاث سنوات. كان وراء هذا الغياب قرار اتخذه مصممها الفني السابق أليساندرو ميكيلي، حين أعلن منذ سنتين تقريباً عدم ضرورة الالتزام بالبرنامج الرسمي لأسابيع الموضة. في المقابل قرر السفر إلى أماكن جديدة لتقديم عروضه. كان عرض الدار بسيطاً وبعيداً عن الأسلوب الصارخ، بالألوان المتضاربة والنقشات المتناقضة، الذي ابتدعه ميكيلي. قالت غوتشي إنها تحتفل فيه بـ«الجمال العفوي». كانت الكلاسيكية هي السمة الغالبة من دون أن تغيب اللمسة الجريئة كُليا. فهذه الأخيرة ظهرت في المزج بين المواد والألوان المعدنية، وبين الجينز الباهت والقمصان المزينة بالترتر، والأحذية المستوحاة من موضة السبعينات. كما ضمت التشكيلة معاطف طويلة مزركشة تم تنسيقها مع بنطلونات واسعة. كان واضحا أن الدار تريد أن تتخلص من الأسلوب السابق بالتدريج حتى لا تُسبب صدمة لمعجبيها من الشباب.

من عرض «جيفنشي» في باريس (رويترز)

هذه الكلاسيكية طبعت أغلب عروض ميلانو وباريس تقريباً، حيث تميزت بالعقلانية والابتعاد عن التعقيدات والجنوح نحو الجنون أو التأنيث المبالغ فيه للرجل. السبب شرحته المصممة ميوتشا برادا بقولها: «في الأوقات العصيبة، يجب أن يعمل الواحد منا بجدية ومسؤولية. ليس هناك مكان لشطحات لا داعي لها. أما الابتكار فيكتسب مفهومه الإبداعي ومكانته الحقيقية فقط عندما يرتبط باكتشاف أشياء جديدة».

من اقتراحات «تودز» (خاص)

بالفعل، ففي أوقات الأزمات، يمكننا توقع أي شيء في المجالات الإبداعية. قد تميل الكفة إلى رغبة محمومة في إثبات الذات وإطلاق موجات جديدة وإن كانت سريالية، أو إلى رغبة في الهدوء إلى أن تمر العاصفة بسلام. ما كان واضحاً خلال أسبوعي ميلانو وباريس الأخيرين أن الكفة الثانية كانت أرجح. فالجائحة كان لها تأثير إيجابي على خزانة الرجل العادي، تجسد في أزياء أنيقة بعيدة عن الصرعات الموسمية. يمكن القول: إن أغلب التشكيلات التي طُرحت، كانت تتمتع بكلاسيكية في التفصيل والألوان وبساطة في التفاصيل إلى جانب تنوع جعلها تخاطب معظم الأذواق. قد يأخذ عليها البعض أنها تجارية وتفتقد إلى الجديد بمفهومه الثوري، لكن ما يشفع لها أن كلاسيكيتها جاءت مطعمة بلمسات شبابية منطلقة، تتوق أن تعيد للرجل شكله الذكوري. فحتى النعومة التي سادت في بعض العروض كانت بجرعات أخف مما كانت عليه في المواسم الأخيرة. البدلات المفصلة والمعاطف الأنيقة إلى جانب قطع منفصلة أخرى تخدم الرجل أياً كانت أهواؤه وميوله ومناسباته، هي التي سرقت الأدوار البطولية. في عرض «برادا» مثلاً كانت الصورة عصرية وبسيطة للغاية. لم يكن فيها أي جديد يُذكر ومع ذلك كانت مُنعشة للنظر، متوازنة في أحجامها. في باريس لم تختلف القصة والقصات عما تم تقديمه في ميلانو. افتتحت المصممة البريطانية غرايس ويلز بونر (31 عاماً) الأسبوع الرجالي بأول عرض لها ضمن الحدث. بونر التي يُرشحها البعض لخلافة فيرجيل أبلوه في دار «لويس فويتون»، تمزج في تصاميمها بين تقنيات خياطي سافيل رو في لندن واللمسات الأفريقية والكاريبية. وحظيت المصممة المولودة لأم بريطانية وأب جامايكي بعدة جوائز لما تتضمنه تصاميمها من إيحاءات لرموز من أصحاب البشرة السوداء وللتاريخ الاستعماري، بالإضافة إلى الراحة التي توفّرها ملابسها.

من عرض «برادا» في ميلانو (إ.ب.أ)

في فندق «إيفرو» الواقع في ساحة فاندوم الشهيرة، قدمت عرضا تضمن بدلات رسمية مصنوعة من الحرير ومعاطف من قماش التويد وسراويل مخملية قصيرة. شرحت المصممة بعد العرض أنها استوحته من شخصيتين أثرتا على ثقافة السود، هما الكاتب جيمس بادوين والراقصة جوزفين بايكر اللذان أقاما في باريس في القرن العشرين. شرحت اختيارها هذا بقولها إنّ «حرية التعبير التي وفّرتها لهما باريس هي أكثر ما أثار اهتمامي».»سان لوران» Saint Laurent
في اليوم نفسه قدمت دار «سان لوران» عرضا غلبت عليه تصاميم موجهة للمساء والسهرات، غلبت عليها معاطف داكنة بأكتاف بارزة وقمصان بيضاء، بعضها من الموسلين، تُلف حول العنق على شكل فيونكات، إضافة إلى قمصان مفتوحة تظهر جزءاً من الصدر. كان واضحاً أن الغرض الأساسي منها هو إبراز التفاصيل الدقيقة من كل جانب. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن السترات المحبوكة والمعاطف الطويلة. ما يُحسب لفاكاريللو في هذه التشكيلة أنه ظل وفياً لأسلوب الدار الذي يتميز بالتصاميم الرشيقة عند الخصر والصدر، والتي يمكن أن تخاطب المرأة والرجل على حد سواء، مع إضافته بصمته الخاصة التي تمثلت في تبنيه الأسلوب الانسيابي مع بعض الهندسية التي تجسّدت في إبراز الأكتاف بشدها إلى أعلى.

من عرض «فندي» (خاص)

«فندي» Fendi
جاءت التشكيلة التي صممتها سيلفيا فينتوريني فندي دافئة وأنيقة تضمنت بعض البريق الذي لعب على خُدع بصرية أبدعتها أنامل حرفيين متمرسين في مقرها الرئيسي بروما. تقول الدار إنها أرادت هنا «استكشاف صخب المدينة والأضواء التي تُنير وتتلألأ بعد حلول الظلام، وهو ما تجسد في تلاشي الخطوط الصارمة التي كانت تطبع الأزياء الرجالية التقليدية لتمنح التصاميم الجديدة جاذبية بنكهة مختلفة». في السياق ذاته، أضفى عدم التناسق في الأحجام حركة هندسية مميزة على القمصان المفككة والعباءات المحبوكة بالكشمير المضلع كما على السترات المنسدلة عند الأكتاف. ربما تكون السراويل المنسابة وكأنها تنورات درابية هي الأكثر جُرأة لكن المعاطف مُزدوجة الصدر والمزينة بطيات من الساتان وشراشيب عند الحواف جعلتها تبدو عصرية وحداثية. أما الخامات الغالبة في التشكيلة فكانت الكشمير ذا الوجهين، والجلود المصممة هندسياً وحرير الجاكار الذي تتخلله ألوان براقة شكلت لوحة تتماوج بين ظلال من الرمادي الأنيق ولون الشوفان والأصفر المحترق والموكا والبنفسجي والأزرق بالدرجات المختلفة.

تودز TOD’S
كانت «تودز» من بين بيوت الأزياء القليلة التي اختارت معرض عوض عرض ضخم. ما لم تتنازل عنه هو أسلوبها الإيطالي الذي عودتنا عليه. فهو جُزء من شخصيتها وجيناتها، لكن ما قامت به لخريف وشتاء 2023 أنها ركزت على لغة شبابية أرادت بها أن تخاطب رجلا يتعرف عليها للتو. أخذته في رحلة اكتشاف لجوهر الأسلوب الإيطالي من خلال مجموعة أزياء كلاسيكية وعملية في الوقت ذاته مستعملة لوحة ألوان بدرجات دافئة، تتباين بين البني والكراميل والبيج، تتقاطع بين القطعة والأخرى بالرمادي والأبيض. أقيم العرض في فيلا نيتشي Villa Necchi، حيث تلتقي التقاليد والحداثة في المعمار والديكورات، وهو ما انعكس على تصاميم تميزت بلمسات رياضية وعصرية بقيت فيها الأساسات كلاسيكية، لا سيما في سترة «باش» Pash Jacket التي «ابتُكرت في مختبرات تودز من أقمشة معالجة وتفاصيل صُنّعت يدوياً بحرفيّة وتقنيات من الشمع تُضفي عليها لمعانا وطلة ثلاثية الأبعاد» حسب قول الدار. بيد أن هذه لم تكن السترة الوحيدة التي جذبت الأنظار. فقد كانت هناك مجموعة لا تقل أناقة من جلود النابا والغزال تُذكرنا بأن «تودز» تأسست على تطويع الجلود أساسا، وأنها انطلقت كدار متخصصة في صناعة الأحذية. هذه الرغبة في تذكيرنا بهذا التاريخ كان واضحا في الأحذية الرجالية المتنوعة التي صاحبت الأزياء.
«زينيا» zegna
مثل أغلب بيوت الأزياء الميلانية التي حرصت على العودة إلى الجذور، ركزت علامة «زينيا» على مكمن قوتها: الكشمير. من هذا المنظور أخذت ضيوفها في رحلة لاكتشاف أهم مرحلة في عملية صناعة البدلات الرجالية ألا وهي إنتاج هذه الخامة المترفة قبل أن تُغزل وتُنسج لتتحول إلى قطع أنيقة. أطلقت على المجموعة «واحة الكشمير» وزينت قاعة بالكامل بألياف هذه الخامة بلونها الأبيض. مصمم الدار أليساندرو سارتوري شرح هذا الاهتمام أنه منذ التحاقه بـ«زينيا»: «حظيتُ بفرصة غير مسبوقة لابتكار الأقمشة من نقطة الصفر، بدءاً من النسج وصولاً إلى وضع اللمسات النهائية، مما يمثّل تحدّياً كبيراً بالنسبة إلى المصنّعين الذين نتعامل معهم وحافزاً يدفعهم إلى استكشاف المجهول». والنتيجة حسب قوله: «تصاميم متكاملة وعصرية تخاطب الروح». أكثر ما ميز هذه التشكيلة السترات القصيرة والمنفوخة بعض الشيء، وأخرى بحياكة خفيفة أقرب إلى كنزة مفتوحة منها إلى سترات مفصلة. كانت هناك مجموعة من المعاطف ذات القصّات الرشيقة وأخرى واقية من المطر. بيد أن الملاحظ رغم عنوان التشكيلة «واحة الكشمير» هو حضور خامات أخرى؛ مثل جاكار ميلتون الفاخر الذي يمكن ارتداؤه على الوجهَين، ونسيج البوكليه المطلي وغير المطلي، وقماش الجاكار المجعّد، واللبّاد، والجيرسيه وصوف الألبكة، ومزيج قطني من قماش الكوردروي، ونسيج من التويل والصوف الناعم.


مقالات ذات صلة

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

من قلب المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلاقى الأصالة والحداثة، تبرز مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي واحدةً من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء.

أسماء الغابري (جدة)
لمسات الموضة كانت روح ماريا تحوم في قصر غارنييه بكل تجلياتها (ستيفان رولان)

من عاشقة موضة إلى مُلهمة

كل مصمم رآها بإحساس وعيون مختلفة، لكن أغلبهم افتُتنوا بالجانب الدرامي، وذلك التجاذب بين «الشخصية والشخص» الذي أثَّر على حياتها.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يقودها ويحدد اتجاهاتها... فشخصيتها واضحة، كما أنها تمتلك نجماً ساطعاً يتمثل في أليافها وصوفها الملكي.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة النجمة المصرية نيللي كريم كما ظهرت في عرض هنيدة الصيرفي (هيئة الأزياء)

الرياض... لقاء الثقافة والأناقة

غالبية العروض في الدورة الثانية من أسبوع الرياض منحتنا درساً ممتعاً في كيف يمكن أن تتمازج الثقافة والهوية بروح الشباب التواقة للاختلاف وفرض الذات.

جميلة حلفيشي (لندن)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)
لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)
TT

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)
لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

كانت تشكيلة «لورو بيانا» الأخيرة لخريف وشتاء 2024، مُغرية من كل الجوانب والزوايا. في بساطتها رُقي يداعب الخيال، وفي هدوئها همس بالجاه والذوق، وفي كل حالاتها، تستهدف زبوناً عارفاً ذا أسلوب خاص وجيب عامر. بلغت من العمر مائة عام، ومع ذلك لم تؤثر السنوات على جيناتها الوراثية المفعمة بالحرفية والتميز.

تتمتع هذه التشكيلة التي تحتفل بمئوية الدار بكل ما يطلبه زبون يتمتع بذوق رفيع وجيب عامر (لورو بيانا)

الألوان التي رسمت بها هذه اللوحة الاحتفالية، كانت كلاسيكية معاصرة تتوخى أن تكون مريحة للعين. التصاميم في المقابل اتسمت بأسلوب خاص أكد أن الدار؛ التي لم توظف مديراً إبداعياً في أي مرحلة من تاريخها، لا تحتاج إلى مَن يقودها ويحدد اتجاهاتها في هذا المجال. فتوجهاتها، وخطوطها، وكذلك شخصيتها، واضحة المعالم والأهداف، إضافة إلى أنها تمتلك عملة ذهبية، تتمثل في خاماتها وأليافها النادرة التي تفوح من بين خيوطها وشعراتها فخامة مبطنة. هذا الصوف تحصل عليه من مزارعين تُموّلهم في أستراليا ونيوزيلندا وبيرو ومانغوليا، ثم تنسجه في معاملها الإيطالية.

في لقاء سابق أجرته «الشرق الأوسط» مع رئيسها التنفيذي داميان برتراند صرّح بأنه ليست هناك أساساً نية لجعلها دار أزياء بالمعنى المتعارف عليه... «نحن لا نطرح منتجات تتبع خطوط الموضة الموسمية، بل منتجات تبقى مع صاحبها للأبد من دون أن تتأثر بموجات التغيير... جودة أليافها وخاماتها هي العنوان دائماً وأبداً».

تراعي الدار تقديم أزياء وإكسسوارات مفعمة بفخامة هادئة وعملية في الوقت ذاته (لورو بيانا)

لأنها تحتفل هذا العام بعيد ميلادها الـ100، كان من الطبيعي أن تركز في هذه التشكيلة على ورقتها الرابحة؛ أي الألياف الثمينة والأقمشة المترفة، وفي الوقت ذاته أن تبتكر تصاميم تجمع الأناقة بالعملية، بحيث تحمل أصحابها من النهار إلى المساء بغض النظر عن المكان... عادت فيها إلى أيقونات لازمت رحلتها منذ عام 1924 حتى اليوم، مثل «فيوري» أو «زھرة الأشواك»، التي تُستخدم أيضاً في تمشیط ألیاف الكشمیر في مصانعھا، لتأتي النتيجة في النهاية باقة متنوعة من الأزياء والإكسسوارات، ساهمت في رسم إطلالة متكاملة لا يحتاج فيها الرجل أو المرأة سوى إلى مؤهلات مادية عالية وذوق رفيع.

سيجد الرجل الشاب كل ما يحتاجه من تصاميم... بما فيها البدلات الرسمية التي تخففت الدار من صرامتها (لورو بيانا)

فرجل «لورو بيانا» التقليدي سيجد ما يُثلج صدره من بدلات ومعاطف وقمصان مفصلة بكل الأحجام والقوالب، كما سيجد رجل شاب يرغب في دخول نادي الأناقة الراقية من دون استعراض أو بهرجة، كل ما من شأنه أن يغطي مناسباته الخاصة والعامة على حد سواء. فالسترات المفصلة تخفّفت من رسميتها بتفكيك الأكتاف من صرامتها، وسترات البومبر عصرية، والصدیریات متعددة الجیوب، والكنزات محبوكة بكل ما غلا من الصوف وخفَ وزناً. كان له أيضاً نصيب في ملابس المساء والسهرة، التي استُبدلت فيها بالقمصان كنزات حریریة بیاقات عالية تُغني عن ربطات العنق لتزيد الإطلالة تميزاً.

اللمسة الذكورية امتدت إلى أزياء السهرة والمساء من خلال التوكسيدو أو البدلات الأنيقة (لورو بيانا)

التصاميم الموجهة للمرأة اتسمت هي الأخرى بلمسة ذكورية خفيفة تجسدت في عدد لا يستهان به من المعاطف والسترات خفّفت طبعات بزهرة الكاردو من هرمون الذكورة فيها. هذه اللمسة الذكورية، شملت أزياء المساء والسهرة أيضاً، من خلال التوكسيدو وسترات بياقات تزيّنها أشرطة. الجانب الأنثوي لم يغب تماماً؛ إذ ظهر في معاطف من الحرير وفساتين منسدلة من الصوف الناعم أو من الجاكار، وتنورات ببليسيهات، وقمصان من الجاكار، فضلاً عن فستان يتيم من الحرير المطرز بالترتر.

الجانب الأنثوي لم يغب بوجود النقشات والفساتين المنسدلة (لورو بيانا)

القاسم المشترك بين المجموعتين؛ الرجالية والنسائية، هو صوف الكشمير وصوف الفيكونا النادر، إلى جانب صوف «بيكورا نيرا» المتين والناعم الذي تعود أصوله إلى جبال سيبيليني في إيطاليا. فقد كان واضحاً أن الدار لا تقبل التنازل عن عُملتها الذهبية؛ لهذا تفننت في كل التقنيات لتجعلها بملمس الحرير ونعومة الساتان؛ «لأن جمال أي قطعة»، وفق تصريح داميان برتراند، «يُعرف عند لمسها وليس فقط بالنظر إليها». بيد أنها لم تنس تطعيم هذا الصوف بأنسجة أخرى، مثل الكتان أو الدينم اللذين خضعا لتقنيات جد متطورة جعلتهما يندمجان بشكل رائع ومتجانس معه.

استُعملت الدبابیس على شكل زھرة الكاردو لإغلاق الیاقات بدلاً من ربطات العنق (لورو بيانا)

كالعادة في كل الاحتفاليات، استُلهم كثير من التفاصيل من أرشيف العائلة، تحديداً من صور للأخوين سيرجيو وبيير لويجي لورو بيانا، اللذين يعود إليهما الفضل في إدخال الدار مجال تصميم الأزياء الجاهزة في السبعينات، بعد أن كانت الدار تكتفي بتوفير الأنسجة والصوف لأكبر بيوت الأزياء العالمية وخياطي شارع «سافيل رو» بلندن. كانا يتمتعان ببُعد نظر وبذوق رفيع يتجلى في اهتمامهما بأدق التفاصيل، مثل الدبابیس على شكل زھرة الكاردو التي تُستعمل لإغلاق الیاقات، واستُعملت هذه التشكيلة بسخاء. تشير الدار إلى أن سيرجيو لورو بيانا كان يستعمل هذه الدبابيس أيضاً لترتيب السترات في خزانة ملابسه؛ لرفع الیاقات إلى أعلى ولغلق طَیّات الصدر وتثبيتها للحفاظ على شكل الطَّیّة.

البدايات:

منذ البداية كان الصوف هو النجم والورقة الرابحة التي اعتمدت عليها الدار لبناء إمبراطوريتها (لورو بيانا)

لفهم حاضر «لورو بيانا»، لا بد من العودة إلى البدايات، وتحديداً إلى عام 1924 لدى تأسيسها على يد مهندس إيطالي اسمه بيترو لورو بيانا. كان ينتمي إلى عائلة تتاجر في الصوف. وبعقلية الإيطاليين، ارتأى أن يتخصص في إنتاج أجود أنواع الصوف، مثل المارينو والكشمير حتى يتفوق ويتفرد في هذا المجال. ما لبثت سمعته أن وصلت إلى كل أنحاء العالم. في عام 1941، تولى فرنكو، ابن شقيقه، إدارة الشركة، وكان مسؤولاً عن توسيعها لتصبح مُورّداً محترماً للأقمشة الفاخرة لصناعة الأزياء الراقية من قبل مصممين كبار من أمثال إيف سان لوران في أوج شهرته بباريس؛ وبعده جيورجيو أرماني الذي أدخله في البدلات الرسمية... وغيرهما كُثر. أما في لندن فكان، ولا يزال، مطلب معظم خياطي «سافيل رو».

الفخامة يجب أن تهمس لا أن تصرخ وفق الدار منذ تأسيسها... وهو ما يتجلى في ألوان وقصات لا تعترف بزمن (لورو بيانا)

وبحلول سبعينات القرن العشرين، تولى أبناء فرنكو، بيير لويجي وسيرجيو، إدارة الشركة. هما من أدخلا «لورو بيانا» مجال تصنيع السلع الفاخرة الجاهزة. أدركا أن الدار تمتلك كنزاً يتمثل في خاماتها المترفة، ويمكنها الاستفادة منه بشكل أكبر. لم تتوقف عن توفيره لباقي صناع الموضة الراقية تحديداً، إلا إنها تحتفظ بأجوده وأرقه لنفسها. لم يكن هدفهما الدخول في منافسة معهم، وهو ما يتأكد من أن الدار خطّت لنفسها منذ البداية إلى اليوم نهجاً مختلفاً يهمس بفخامة مبطنة لا تكتشفها إلا بعد لمسها... فحتى الآن ترفض استعمال أي «لوغو» يشير إليها، ولا تلجأ إلى حيل وأساليب تستهدف الإثارة. تتوقع في المقابل من زبونها أن يستشعر فخامة وتفرّد منتجاتها عندما تلامس جلده: تُنعشه صيفاً وتبثه فيه الدفء شتاءً.

صوف الملوك:

كان الصوف ولا يزال عملتها الذهبية الذي تستعمله في كل المواسم (لورو بيانا)

احتفاظ الدار بأرق أنواع الصوف لاستعمالها الخاص قد يكون نوعاً من الأنانية، لكن في ظل المنافسة على التميز والارتقاء بالموضة إلى مستويات عالية، فإنها أنانية «صحية» لها مبرراتها. في عام 1997 أطلقت ما أصبحت تُعرف بجائزة «World Record Bale»؛ مشروع يُحفز المزارعين الذين تتعامل معهم في نيوزيلندا وأستراليا وبيرو على التنافس في إنتاج أرق أنواع الصوف، بتوفير أجواء طبيعية جيدة لرعي الأغنام، وطرق جَزّ صوفها... وما شابه ذلك. هذا العام، مثلاً حطمت الرقم القياسي في إنتاج صوف مارينو بقطر 10.2 ميكرون. ولنا فقط تصور مدى رقة هذه النسبة؛ إذا أخذنا في الحسبان أن وحدة لقياس دقة الألياف تعادل جزءاً من الألف من المليمتر، وبأن قطر شعرة الإنسان يبلغ 80 ميكروناً. غني عن القول إن هذا الصوف مخصص للملوك والنخبة من الأثرياء والطبقات الأرستقراطية.