علي جعفر العلاق يفتح ذاكرته على «أمل النجاة من النسيان»

سيرة «هادئة» تستعيد الستينات العراقية الصاخبة

علي جعفر العلاق يفتح ذاكرته على «أمل النجاة من النسيان»
TT

علي جعفر العلاق يفتح ذاكرته على «أمل النجاة من النسيان»

علي جعفر العلاق يفتح ذاكرته على «أمل النجاة من النسيان»

يفتتح علي جعفر العلاق سيرته الذاتية «إلى أين أيتها القصيدة؟ سيرة ذاتية» (دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2022) بتبريز الصلة غير المعلنة، عندنا في الأقل، بين السلطة وتأسيس المدن، ربما الأفضل أن نقول إن الشاعر يدشن سيرته باستظهار الصلة الخفية بين تأسيس المدينة «واسط: بناها الحجاج بن يوسف الثقفي سنة 78 هجرية وأتمها سنة 86 هجرية لتكون مقراً جديداً لجنده»، وحاجات السلطة لديمومة بقائها واستمرارها، وفي الطليعة منها، حاجة حكامها للاستبداد.
لكن «واسط» لم تكن، فقط، المدينة التي ابتلعت صرخات الجند والفلاحين على يد الحجاج، إنما هي، كذلك، سردية أخرى تعيدنا لمصائر المدن التي تظل محكومة بلحظة تأسيسها الأول. هكذا كانت واسط مقراً لجند الحجاج، وهي المدينة (السجن) التي مارس فيها الحجاج سلطته وشهواته العارمة نحو الاستبداد، مثلما تحكمت، في زمن آخر، لحظة التأسيس الأولى لـ«بغداد»، فكانت لحظة حرق الأساسات التي أمر بها مؤسسها، أبو جعفر المنصور، ليرى «بغداده» تاريخاً، أبدياً، يروي لنا الحكايات المختلفة عن المصائر التعيسة لبغداد، كما لو أنها تستعيد لحظة حرقها الأولى. لكن الاحتفاء بـ«واسط» المشبعة بالقمع والدماء يقابله تغييب جزئي لحاضرة «واسط» الحالية: الكوت «تأسست على الأرجح سنة: 694»؛ إذ يجري ذكر «الكوت» بصفتها قصة تتبع حكاية الشاعر الكبرى: قريته، أو أسطورته الأولى كما سيكتب في صفحات لاحقة من سيرته. لا احتفاء، إذن، إلا برغبة «الشاعر» بالاعتراف «هل يعني الاعتراف معنى الاحتجاج؟ لا أظن!»، ضد السلطة القامعة التي صنعت واسط، وهي سلطة مماثلة لأخرى شهد وعاش بطشها الشاعر ذاته في مراحل أساسية من حياته، فكان أحد «المتضررين»، بقدر ما، من إدارتها لملفات الثقافة.

سيرة ذاتية... أين الاعتراف إذن؟
لكن المفارقة أن السيرة لا تشهد اعترافات «أساسية» أو «صادمة» ضد السلطة القامعة، مثلاً، أو بعض مراتبها من «نخب» سياسية، أو ثقافية، أو حتى أدبية؛ ما دامت السيرة ذاتها تفتتح نصها بالغمز من قناة السلطة وتستعيد صراخات ضحاياها. لا أثر لهذا النوع من «المكاشفات» الجذرية سوى في نقطتين اثنتين، وبحدود ضيقة: حديث الشاعر، أولاً، عن جيله الستيني الصاخب سياسياً وثقافياً. ثمّ في حديثه، ثانياً، عن إدارته «المختلفة»، حقاً، لمجلة الأقلام العراقية الرائدة ذات التأثير الكبير على حركة الحداثة والتحديث الأدبي في العراق والعالم العربي كله. وهي، بهذا الوصف، ذاكرة أخرى للثقافة في العراق.
في استعادته لتجربة جيله الستيني الصاخب لا نجد تلك الرغبة المحتدمة، شأن شعرائه المشهورين بتأميم صخب الجيل ونسبته لكاتب «الشهادة» ولاتجاهه السياسي، كما حال سامي مهدي أو فاضل العزاوي. نحن هنا، إزاء سيرة تحاول، قدر المستطاع، أن تنأى بنفسها عن تلك الصدامات العنيفة بين قطبي ذلك الجيل المحتدم. ولعل لزمن كتابة السيرة، المتأخر على أي حال، دوره الفاعل في «تهدئة» النفس، ودفعها صوب التأمل الهادي لتجربة يصعب فيها فصل الثقافي عن السياسي. هي كذلك؛ منذ بداياتها الأولى، وليس ختاماً بمجلتها الشهيرة «69» وبيانها الشعري.
وظلت على حدتها، حتى بعد عقدين ويزيد، عندما جرى فتح الملفات مجدداً منتصف التسعينات؛ فكانت النتيجة أن جرى اختصار الجيل الستيني كله بعنوان مشبع باللحظة العابرة؛ فهو محض «موجة صاخبة»، فيما جعلها المقصي والخصم «الروح الحية».
فلا حدود وسطى، لا حياد يُعترف به. ظلت «سردية» الجيل المنتصر على سواه، لكن المنشطر على نفسه بين «داخل» تقلبت به أحوال البلاد بين ديكتاتورية لا حدود لبطشها وحروب لا تنتهي ثم حصار انتهى باحتلال البلاد، و«منفى» مطرود إلى أقصى الدنيا وممنوع من «العودة»، هي النسق المعلن والخفي، معاً، لأي «سيرة» تُكتب عن الجيل الستيني. حتى العلاق، صاحب هذه السيرة، وبرغم إشاراته الحذرة لهذه الحقائق، فإنه يعود ليؤكدها ويحاول، من ثمّ، أن يحيِّد شعره ووجوده الإنساني المتفرد؛ فهو يقول لنا إنه كان «ينمو» في مكان «بقعة» يحاذي الجيل الستيني. ولا سبب لهذا «التعفف» عن تصدر مائدة الستينيين سوى اثنين. الأول، يخص الشعر نفسه الذي رغب العلاق بكتابته والاختصاص به. وهو شعر يتقاطع مع الرغبة الجامحة للستينيين أنفسهم في الثورة على كل الأشكال الشعرية السابقة، لا سيّما ما يتصل منها بتجارب الرواد، مما يسميه العلاق نفسه بـ«الهرج الستيني الصاخب». ويتقاطع، كذلك، مع عمود الشعر العربي الذي تنتسب إليه قصيدة العلاق. والثاني شخصي يتصل بـ«التعفف» عما يمكن تسميته بالأسطورة الشخصية - الشعرية المبنية على نظام الشلل الحزبية أو الثقافية. فهل اختلف الأمر مع إدارة الشاعر لمجلة «الأقلام» الشهيرة؟

ذاكرة أخرى للثقافة في العراق
ربما تكون «شهادة» الشاعر علي جعفر العلاق الأولى في سياقها؛ إذ لم يسبق لي أن قرأت شهادة حقيقية يكتبها «شاعر» أو «كاتب» أو «مثقف» معروف تولى إدارة «مجلة» أدبية معروفة مثل «الأقلام» في حقبة البعث، وتأتي شهادته في سياق «كشف» حقيقة ما حصل. أكتب هذا الكلام وأنا أستعيد صرخات أحد الموقعين على البيان الشعري الشهير، وكان يعترض على كلامي في ندوة نظمتها إحدى كليات جامعة بغداد لمناسبة الميلاد الخمسين لمجلة «الأقلام» قبل سنوات. في وقتها، كنت أتحدث عن «الأقلام» بصفتها ذاكرة أخرى للثقافة في عراق مبتلى بالاستبداد وثقافته. لكن «شهادة» العلاق عن مجلة «الأقلام» أكثر من مجرد شكوى من «تطفل» أو «نميمة» مغرضة ضده شخصياً، أو حتى تقرير حزبي يُرفع مباشرة لوزير الثقافة آنذاك (لطيف نصيف جاسم)، بسبب ملف أدبي معروف بعنوان «الشاعر العربي الحديث ناقداً»، نُشر في أحد أعداد المجلة عام 1985، وتضمن مشاركة لأكثر شاعر عربي إشكالية، والمقصود أدونيس ولا شك، مع كمال أبو ديب؛ فهذا مما كان يحصل كثيراً، وربما بانتظام مذهل، في وسط ثقافي، عراقي أو عربي، يعتاش على النميمة الشخصية والحزبية. إنما لشهادة العلاق قيمة مضافة، تاريخية ذات ترميز عميق؛ فالعلاق هو ابن المؤسسة الثقافية العراقية، وإن شئت فقل: المؤسسات التي أعيد بناؤها في عهد البعث، وهي التي أحكمت قبضتها على مفاصل الثقافة العراقية في العقود الثلاثة الأخيرة حتى سقوط النظام واحتلال البلاد.
ولا أظن أن هذا التوصيف يضر شاعراً وناقداً مكرساً مثل العلاق؛ فهو قد تحول للعمل الوظيفي «الثقافي» في عهد البعث الثاني، وأكمل في عهده دراسته العليا بلندن، وأدار مجلة «الأقلام» (1984 - 1990) بتكليف من وزير الثقافة والإعلام. مثلما لا يضير العلاق قولهم إنه كتب شهادته بعد طرد صدام من الكويت «وهل كان هناك سبيل آخر غير الصمت أو الموت؟!»، ربما يؤخذ على العلاق صمته الطويل، حتى بعد خروجه من العراق مطلع التسعينات عن كتابة شهادته - سيرته، ولا بأس، فالسير الشخصية تُكتب لاحقاً، وهو الشاهد الحي على ما حصل في عهد إدارته لـ«الأقلام»، وفي بلاده حتى خروجه من العراق وإقامته الطويلة بعيداً عنه.
في النهاية؛ فإن السيرة تتضمن، لا سيّما في كلام الشاعر عن جيله الستيني وإدارته لمجلة «الأقلام»، إشارات نصية واضحة لتحكم السلطة بالثقافة وإدارتها لمؤسساتها، بل إن السيرة تقول الكثير ضمناً عن مثقفي السلطة، أو من صنعتهم وفرضتهم على المؤسسات والجامعات، ثم تسربوا خارج البلاد فصاروا يكتبون باسم «المنفى» والمعارضة الثقافية للنظام الذي صنعهم. لا يقول علي جعفر العلاق هذا الكلام بنصه، إنما يترك القارئ يستنتج كيف جرت محاربة فكرة الحداثة وتحديث الشعر والخطاب النقدي، كما حاولت مجلة «الأقلام» تقديمه بإدارة العلاق، وليس إقصاء كتاب أدونيس التأسيسي «الثابت والمتحول» من التداول النقدي في العراق سوى صيغة أولى وشائعة، أيضاً، للرقابة الصارمة، وبرغم ذلك، فقد ترك العلاق نفسه أن تواجه مشقة الصدام مع الممنوع.
وفي كل مرة، وكلما جرى الكلام في السيرة عن خراب البلاد، نستعيد دلالات افتتاح السيرة بمشهد الحلاج ومدينته واسط، كأن هذا الافتتاح «تميمة»، أو كناية عن أي مدينة «تصنعها» السلطة على مقاسها، تصنعها مرة وتخربها مرات.
خلال اللحظات الثلاث «السلطة - المدينة، جيل الستينات، مجلة (الأقلام)»، فإن السيرة تمضي هادئة؛ إنها حكاية عائد إلى قريته النائمة قريباً من دجلة، على مقربة من مدينة الكوت التي تمر على ذكرها السيرة سريعاً؛ وهي «عودة» متأخرة، أو استعادة لحياة مضت بعيداً عن بداياتها الأولى. لكنها سيرة أي عراقي، وربما أي عربي، عاش الظروف والحياة ذاتها. الفارق، فقط، في الاحترافية البالغة في كتابة السيرة؛ فالسيرة تبرع في الاقتصاد السردي، فيما يتصل بعرض المقاطع المثيرة الجاذبة لانتباه القارئ، لا سيّما ما يتصل منها بحياة ذلك الفتى الفقير النازح مع عائلته إلى بغداد من وسط العراق.
فلا نرى السيرة ساعية لتوريط القارئ في «تراجيديا» تعلِّق «الشاعر» بأمه، كما يحدث كثيراً في السرديات السيرية العربية، برغم أنه يذكر ويسرد أصول علاقته بأمه، لا سيّما موته بعيداً عنها، لكنه لا يجعلها «دراما» كلية ووحيدة. إنما يجري التركيز على سيرة الأب حتى لحظة موته. وأظن أن هذا التركيز يرجع لإغراءات سردية «الفقدان» المبكر والمؤسس للمسارات اللاحقة في حياة الشاعر.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.