من دون معالجة الخلفية السياسية.. لا فرصة لنجاح الحرب على «داعش»

شعور سنّة العراق بالغبن والاضطهاد أهدى التنظيم بيئة حاضنة

صورة تعود لعام 2014 لعناصر داعش في عربة مدرعة للجيش العراقي في الفلوجة (أ.ب)
صورة تعود لعام 2014 لعناصر داعش في عربة مدرعة للجيش العراقي في الفلوجة (أ.ب)
TT

من دون معالجة الخلفية السياسية.. لا فرصة لنجاح الحرب على «داعش»

صورة تعود لعام 2014 لعناصر داعش في عربة مدرعة للجيش العراقي في الفلوجة (أ.ب)
صورة تعود لعام 2014 لعناصر داعش في عربة مدرعة للجيش العراقي في الفلوجة (أ.ب)

يحتدم الجدل منذ وقت غير قصير بين المحللين السياسيين والخبراء الأمنيين حول أنجع السبل للتصدي للإرهاب واستئصاله.. فثمة فريق يؤمن بأنه ليس هناك إطلاقا ما يبرّر الجرائم الإرهابية، لا سيما تلك التي تنطوي على فظائع صادمة كتلك التي يقترفها تنظيم «داعش»، وقبله العمليات الخطرة ضد المدنيين التي ادعى مسؤوليته عنها تنظيم «القاعدة» كهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2011 في نيويورك وواشنطن.
وفي المقابل، يرى آخرون أن تجفيف منابع الإرهاب لا بد أن يشمل مقاربات سياسية عقلانية وواقعية، ويعد أن تحليل الجذور الدينية والفكرية والبيئية والسياسية والمصلحية للحركات والتنظيمات الإرهابية خطوة لا بد منها لفهم كيفية تحوّل الإحباط والغضب إلى حركات تنتهج العنف، أو كيف تعمد بعض الجماعات إلى تشويه المفاهيم التعليمية والتلقينية عند الشباب فتحرفهم عن الفهم السليم للدين وتجندهم لخدمة مخططاتها المتطرفة.

كثر الحديث عن تنظيم «داعش» المتطرف وعن سبل محاربته. وحتى اليوم، ركّز التحالف الغربي والعربي من جهته على ضرب قوة التنظيم العسكرية في العراق من خلال حرب جوية مع دعم أرضي تولته قوات عراقية مسلّحة يغلب عليها الطابع الطائفي. وأعلنت «خلية الصقور» الاستخباراتية، الخميس الماضي، بحسب موقع «المدى» العراقي، عن مقتل أكثر من 53 عنصرًا في التنظيم، بينهم قياديون؛ أبرزهم المسؤول العسكري للتنظيم ومسؤول تجهيز الانتحاريين، بقصف جوي عراقي في ثلاث عمليات منفصلة غرب مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار في غرب العراق.
غير أن هذا النهج، الذي قد يبدو في الظاهر مناسبًا للجميع، مع إصابة كثير من مسؤولي التنظيم، لا يأخذ في الاعتبار - إلا قليلاً - الواقع القائل إن «داعش» تنظيم إرهابي لها حساباته ومخطّطاته الخاصة، وإن الإرهاب هو أسلوب من أساليب الحرب التي تستخدمها تنظيمات من هذا النوع لتحقيق أهداف سياسية شتى. ذلك أن قتال «داعش» في ميدان المعركة فقط ستكون له نتائج محدودة ما لم يترافق، فعليًا، مع عملية سياسية شاملة.
لقد تمكن تنظيم داعش من تأمين ديمومته، لا بل شهد كثيرا من التغيّرات والتحوّلات إبّان الحرب الدائرة في سوريا، وأيضا نتيجة الفراغ الأمني الذي أعقب رحيل القوات الأميركية الأخيرة من العراق. بالنسبة لكثيرين، يتمثل الهدف الأساسي للتنظيم في «إقامة دولة إسلامية» - وفق مفهومه طبعًا - في مناطق الكثافة السنّيّة في العراق وفي سوريا، إلا أنه في شهر أبريل (نيسان) الماضي، كشفت مجلة «دير شبيغل» الألمانية ملفّات سرّية يملكها سمير عبد محمد الخلفاوي، المعروف أيضا باسم «حجي أبو بكر»، وهو عضو في تنظيم داعش وضابط استخبارات سابق في الجيش العراقي، تضمنّت معلومات ومخططات لما يعرّفه اليوم باسم «الدولة الإسلامية» المزعومة. وأظهرت هذه المخططات كيف ينظر حجي أبو بكر إلى الدين باعتباره وسيلة فعّالة للتجنيد تحت راية «الدولة الإسلامية» المزعومة، ومصدرًا لا ينضب لتدفق المقاتلين.
لقد كان لهذا الكيان الجديد، الذي نشأ وتطوّر في خضم الفوضى العارمة في سوريا والعراق، هدف أساسي واحد: بناء دولة تسمح للسنّة باستعادة زمام السلطة بعدما خسروها في الحكومة العراقية التي يسيطر عليها الشيعة حاليًا بشكل أساسي. وهكذا وقع الخبراء ووسائل الإعلام في فخ حجي أبو بكر، وانغمسوا في مناقشات وتحاليل مطوّلة ومعمّقة حول ما إذا كان تنظيم داعش إسلاميا أم لا. وفي هذا السياق، انكبّوا على دراسة كثير من أشرطة الفيديو المرعبة حول أساليب «داعش» الهمجية التي تظهر فظائع الذبح والحرق والقتل إغراقًا التي استهدفت كل من اعتبره التنظيم «عدوًا للإسلام»، مركّزين بشكل حصري على وحشية الآيديولوجية المزعومة، كما على نجاحاتها العسكرية، ومطالبتها بالعودة إلى أيام الخلافة.
أما اليوم، فإن السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يريده «داعش»؟
منذ أن نشأ التنظيم، عمد إلى فرض الشريعة في المدن التي يسيطر عليها، وإلى فصل البنين عن البنات في المدارس، وإلى إجبار النساء على ارتداء النقاب، كما أدخل المحاكم الشرعية لبسط «عدالته»، مستهدفًا الأقليات الذين إما أجبرهم على اتباع تعاليمه وقوانينه أو قام بتصفيتهم بوحشية على غرار الإيزيديين (في شمال غرب العراق) الذين عمد التنظيم إلى استعبادهم وسبي نسائهم.
أدّت هذه التصرّفات إلى تكوّن اقتناع لدى كثيرين بأن هدف «داعش» الرئيسي هو تأسيس خلافة تحكمها شريعة الله. ولكن هل هذا حقًا الهدف الأساسي أو الوحيد للتنظيم؟
بغض النظر عما إذا كانت هذه الادعاءات صحيحة أم لا، وعلى الرغم من أنها نجحت في استقطاب كثير من الشباب المسلم من مختلف أنحاء العالم الذين شعروا بالتهميش في مجتمعاتهم، فإن الواقع على الأرض يشير إلى عكس ذلك؛ ففي الوقت الذي ما زال فيه السنّة في بغداد يقاتلون للدفاع عن «إقليمهم»، عمد «داعش»، بحكم قوة الأمر الواقع، إلى عرض «إقليم» آخر عليهم تحت حجة «الأمة الإسلامية».
وهكذا تمكّن «داعش» من السيطرة على مئات الأميال المربّعة بين سوريا والعراق، حيث انعدمت سلطة الدولة.. فمنذ البداية، استطاع التنظيم المتطرف بسط حكمه على معابر على الحدود السورية مع تركيا وصولاً إلى المدن المتاخمة للعاصمة العراقية بغداد. ومن ثم، نجح في إرساء شكل من أشكال الحكم وإنشاء ما يشبه شكل «دولة» في المناطق التي يسيطر عليها، مركّزًا على استغلال الاقتناع السائد بين «كثرة كاثرة» من السكان السنّة بأنهم مضطهدون على يد الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة بزعامة نوري المالكي، وأنهم محرومون من الموارد الأساسية في البلاد ولا يحق لهم المشاركة في السلطة.
ولقد تنطبق المقولة التالية على «داعش»، إذ ترى البروفسورة لويز ريتشاردسون، مؤلفة الكتاب الشهير «ماذا يريد الإرهابيون: فهْم العدو لاحتواء الخطر» أن الإرهاب «ظاهرة معقدة، وهو تكتيك يلجأ إليه كثير من الجماعات لغايات متعدّدة ومختلفة».
وعليه، فإن جزءًا مما يريده بعض أعضاء «داعش» هو استعادة السلطة المفقودة؛ حيث أشار تقرير مجلة «دير شبيغل» إلى أن وراء تطور فكرة «داعش» لدى حجي أبو بكر وكثير من البعثيين الذين ساهموا في إنشاء التنظيم، قرار بول بريمر، رئيس سلطة الاحتلال الأميركي في بغداد حينذاك، الذي قضى بحل الجيش بمرسوم في مايو (أيار) 2003. وذلك القرار، كما هو معروف، حرم الآلاف من الضباط السنّة المتمرّسين لقمة عيشهم. ولاحقًا، اتسع تهميش السنّة ليطال القبائل العراقية الكبيرة لا سيما غرب البلاد وشمالها. وتأكيدا على ذلك، عدّ الشيخ رعد سليماني، وهو شخصية عراقية بارزة في قبيلة الدليم الكبيرة، في مقابلة سابقة أجرتها معه «الشرق الأوسط» في العاصمة الأردنية عمّان، أن «نحو 90 في المائة من قوى (داعش) مؤلفة من عشائر عراقية»، شارحًا أن التهميش السياسي والاجتماعي لأهل السنّة في العراق يمثل أحد الأسباب التي تفسّر دعم القبائل والعشائر العراقية لـ«داعش».
أضف إلى ما تقدم، المظالم التي تعرّض لها السنّة في ظل حكم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي اتبع نهجًا طائفيًا صريحًا؛ إذ جاءت حملة القمع العنيفة التي شنها المالكي إثر الاحتجاجات في المناطق السنّيّة خلال عام 2013 ضد عشرات الآلاف من السنّة في مدن الرمادي والفلّوجة والموصل وكركوك، لتفاقم الأمور سوءًا وتؤجّج سخط المعارضة، ومن نماذج تلك الحملة الغارة التي شنّت على مخيم احتجاج في الحويجة يوم 23 أبريل 2013 وأدّت إلى مقتل 44 مدنيًا، وفقا لتقرير لجنة برلمانية. ولذا، عندما اجتاح «داعش» ثلث أراضي العراق خلال الصيف الماضي، رحب كثيرون من السنّة به في بداية الأمر، وعدوه محرّرًا لهم. ويعتقد مراقبون جيّدو الاطلاع أن الغالبية العظمى في المناطق الخاضعة لسيطرته ما زالت تؤيده، على الرغم من أن عددًا من المواطنين يعترضون على ممارساته الوحشية، وهذا ما قاله مصدر في الموصل تحدثت معه «الشرق الأوسط» أخيرًا.
ما يجب قوله، هنا، هو أنه حتى الآن يشعر السنّة في العراق بأن حكومة بغداد برئاسة حيدر العبادي، الذي خلف المالكي والذي ينتمي للخلفية المذهبية والحزبية ذاتها، تتجاهل وضعهم، وقد يكون خير مثال على ذلك «مشروع الحرس الوطني» الذي ما زال مطروحًا للنقاش أمام البرلمان على الرغم من أن مجلس الوزراء وافق عليه. ويهدف هذا «المشروع» إلى ضم مختلف الميليشيات والقوات المحلية مثل «قوات التعبئة الشعبية» و«أبناء العراق» و«قوات البيشمركة» الكردية، تحت مظلة واحدة هي «الحرس الوطني». ووفق مخطّط الحكومة، فمن المفترض أن يُنشر هذا «الحرس الوطني» في كل المحافظات العراقية وأن يصار إلى استدعائه عند الحاجة لأغراض مكافحة الإرهاب في فترات الحروب وحالات الطوارئ أو الكوارث الطبيعية. وكانت شبكة «الجزيرة نت» قد ذكرت أنه منذ 24 يونيو (حزيران) الماضي يبدو أن التعديلات التي وافق عليها مجلس الوزراء العراقي بشأن قانون «الحرس الوطني» تقرر وضعها على السكة.
يذكر أن المطالب السنّيّة الأخرى تشمل مشاركة أكبر في العملية السياسية، والعفو العام عن السجناء الذين لم يشاركوا مباشرة في التفجيرات الإرهابية، مع العلم بأنه كان قد ألقي القبض على الآلاف من السنّة بعد انتهاء الاحتلال الأميركي في أعقاب موجة من الهجمات الإرهابية، ومن البديهي أنه لم يشارك بالضرورة فيها جميع الموقوفين. وهذا فضلا عن إدراج البعثيين السابقين في النظام السياسي.. وقد استند «داعش» إلى كل هذه المطالب ليفرض نفسه قوة يحسب لها حساب في العراق.
إلى ذلك، تشير البروفسورة ريتشاردسون، وهي مديرة جامعة سانت آندروز في اسكوتلندا، إلى أن الإرهاب «خليط قاتل مكوَّن من عناصر مهمشة، ومجتمع مؤات، وآيديولوجية مشرِّعة». والواضح إذن أنه بالنسبة إلى «داعش» ليست الآيديولوجية «المزعومة» هي الهدف الأساسي للتنظيم الذي يركز في الوقت عينه على أهداف قريبة وبعيدة المدى، لا بل إن تأسيس «الدولة الإسلامية» المزعومة ليس سوى واجهة لمخطّطات خفية كبرى.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.