الفن الإسباني الحديث مستعيداً سقوط غرناطة

في مثل هذه الأيام قبل خمسة قرون سلمت مملكة بني الأحمر مفاتيحها

لوحة «خروج عائلة أبي عبد الله الصغير» للمؤرخ والرسام مانويل غوميز مورينو غونزاليس (1834 - 1918)
لوحة «خروج عائلة أبي عبد الله الصغير» للمؤرخ والرسام مانويل غوميز مورينو غونزاليس (1834 - 1918)
TT

الفن الإسباني الحديث مستعيداً سقوط غرناطة

لوحة «خروج عائلة أبي عبد الله الصغير» للمؤرخ والرسام مانويل غوميز مورينو غونزاليس (1834 - 1918)
لوحة «خروج عائلة أبي عبد الله الصغير» للمؤرخ والرسام مانويل غوميز مورينو غونزاليس (1834 - 1918)

في مثل هذا الشهر قبل ما يناهز خمسة قرون ونصف، تحديداً يوم 2 يناير (كانون الثاني) 1492، سقطت مملكة بني الأحمر بالأندلس، مخلّفة صدى واسعاً في الفن التشكيلي الإسباني على امتداد قرون، يكاد يماثل في حجمه وقوته الأثر الكبير الذي خلفته في حقول المسرح والرواية والشعر في شبه الجزيرة الإيبيرية، لدرجة باتت فيها القصة مدخلاً أساسياً لتشخيص تحولات المتخيل البصري الإسباني بصدد موضوعات: «المغاربة» و«الإسلام» و«المورسكيين» و«الضفة الجنوبية»، و«العمارة الإسلامية»، و«الاسترداد»، و«هزيمة الأندلسيين»، وغيرها من المثيرات والأحداث الكبرى التي وسمت تخيل الفن الحديث لتفاصيل الوجود العربي الإسلامي بالأندلس، وشكلت منظومات بالغة التعقيد من الصور المرئية المسكونة بألغاز ورموز ومضمرات عقدية وثقافية مرتهنة بوقائع زمن ومجتمع حضارة مختلفة.
صحيح أن تلك الأعمال التخييلية البصرية عن الأندلس الآفلة، تبقى مجرد تنويع على انشغال أعم لفنون التصوير والنحت في هذا الحيز الجغرافي بتمثيل الموضوعات التاريخية وحفظها من النسيان، بيد أن عرضها في أكثر الأماكن دلالة على الهوية والسيادة، بدءاً من القصر الملكي ومقر البرلمان الإسباني (الكوتيس خينيراليس) في مدريد وانتهاءً بالأديرة الموزعة بين الجهات والأقاليم الإسبانية المتباعدة، مرورا بالمتاحف الوطنية والمحلية، ومقرات حكومات الأقاليم والبلديات، والكاتدرائيات والكنائس، حولها من مجرد تحف للإبهار الجمالي، دالة على روعة الفن الإسباني الحديث، إلى رموز للعبقرية القومية، وشهادات بالغة الإتقان على قوة ومجد المملكة.
وتضعنا كاتالوغات الفن الإسباني الحديث إزاء مئات اللوحات الزيتية والمائية، والمنحوتات، بأحجام ضخمة ومتوسطة وصغيرة، لأعلام الفن الإسباني المعروفين، ولأكاديميين محدودي الشهرة، ولحرفيين مجهولين، كان حافزهم إبراز عظمة المملكة الوارثة لحضارة الأندلس، عبر مراحل نهوضها وانتكاساتها، من حروب الاسترداد إلى العصر الإمبراطوري، حتى الحقبة النابوليونية، وانتهاءً بالملكية الحديثة، فنانين من حقب شتى، تراوح بين نهايات القرن الخامس عشر، وحتى الطفرة الحديثة للفنون البصرية في تياراتها المتشعبة في القرن التاسع عشر. تحف فنية بديعة وموحية بقدرة القصة القديمة على إلهام فنانين لم ينتمِ أي منهم إلى زمن التجربة وظلالها، وإنما شكلت بالنسبة إليهم ذاكرة للتمثيل، وسؤالاً للصنعة والفن، وسرعان ما ستكتسي وقائع فارقة في تلك الذاكرة من قبيل: «تسليم غرناطة»، و«مذبحة بني سراج» و«المسيحيون الجدد» و«زفرة العربي الأخيرة على الربوة» و«خروج النصريين من قصر الحمراء» و«محاكم التفتيش»، و«محرقة كتب الكفار» صبغة رواشم فنية أثيرة، تكررت على نحو لافت للنظر في عشرات اللوحات الشهيرة لفنانين بارعين، بحيث تمكن المقارنة بين طرز التمثيل وأحجام الرسومات وصيغ التشكيل، بصدد تلك الموضوعات، من رصد تطور النظرة تجاه القصة الأندلسية، ورصد تحولات التقنية والجماليات التعبيرية لهذا الفن البصري العريق في الضفة المقابلة.

لوحة «تسليم غرناطة» لماريانو فورتوني (1838 - 1874)

هكذا ستكون قصة غرناطة حاضرة في مجمل التيارات الفنية الإسبانية، طابعة الفن النهضوي، والرومنسي، والانطباعي والتعبيري... كما أن بعض التفاصيل الأندلسية ستمثل رهاناً من قِبل بعض الفنانين الإسبان على نوع من الأصالة والمحلية في الآن ذاته الذي ستمثل لدى آخرين سعياً إلى الانفتاح وتعبيراً عن «الغيرية»، التي تراوح ما بين الرؤية الاستشراقية الكلاسيكية، والحداثة الفنية.
وتتجلى واقعة سقوط غرناطة وما يتصل بها من تفاصيل عن قبيل: «خروج بني نصر»، و«تسليم المفتاح خارج الأسوار»، من حيث هي مثيرات موضوعية خالبة لخيال شرائح مختلفة من الرسامين الإسبان في العصر الحديث، ممن جاءت أعمالهم مفعمة بالدرامية وبالوضوح الحسي في التقاط عواطف الفقد، وتخييل ظلال الهزيمة، كما مثلت تلك الرواشم، عناوين متكررة في مجموعات المتاحف الفنية وكاتالوغات اللوحات التاريخية الإسبانية، ولعل لوحة الفنان الأراغوني «فرانسيسكو براديا» (1848 - 1921) الشهيرة «تسليم غرناطة»، أن تكون أبرز مثال على هذا التعلق بإعادة تمثيل الحكاية التي تلتبس فيها المشاعر الأسية بظلال الفخر القومي، بالجانب الكهونتي القدسي لمأثرة إنهاء دولة المسلمين بشبه الجزيرة الإيبيرية. حيث يُصَوَّر السلطان أبو عبد الله الصغير، بلباس مرتجل، على فرس أسود، حاملاً مفتاح المدينة المهزومة، متقدماً حاشية صغيرة من الأعوان بملامح بلهاء، وهم في حالة ذهول، يراقبون موكب فيرناندو وإيزابيلا البالغ الفخامة. والشيء الأكيد، أن هذه الواقعة لا سند تاريخيا لها، حيث سلم السلطان النصري الأخير، مفاتيح الحمراء، إلى «الكونت دي تانديلا» في القصر ذاته، ولم يلتق لا بالملك ولا بالملكة وهو خارج مع أهله وحاشيته من المدينة، هي فقط صيغة تمثيلية للحظة الظفر، بما تنطوي عليه من مفارقات في الأحجام والتقاسيم والألوان والأضواء بين المالك الأصلي والوافد، بين منتصر مشع ومهزوم منطفئ، بين مسيحي يحوطه البياض وكافر غارق في العتمة.
رسمت لوحة «تسليم غرناطة» «بناءً على رسالة من رئيس مجلس الشيوخ الإسباني إلى فرانسيسكو براديا سنة 1878، يطلب فيها منه، إنجاز عمل فني يمجد وحدة الأمة الإسبانية، وهو ما استجاب له الفنان الآراغوني بتخيل مواجهة مفترضة بين الملكين الكاثوليكيين والملك الطريد على أبواب غرناطة، لقطة تختصر كل معاني القوة المتأتية من وحدة قشتالة وآرغون في وجه «مملكة بني الأحمر». وتُعرض اللوحة، لكل هذه الأبعاد الدينية والسياسية الكثيفة، في موقعين مركزيين، النسخة الأصلية بمقر البرلمان الإسباني، وصورة لها، مجهول صاحبها، بكاتدرائية «غرناطة»، مثلها مثل مئات اللوحات الأخرى لوقائع الانتصار على المورو، في كاتدرائيات: «مالقة» و«إشبيلية» و«قرطبة» و«برشلونة»، ذات المضمون المسيحي، والعمق أيقوني.
ثاني الأعمال الفنية التي أرّخت لقصة الهزيمة والخروج من غرناطة، لوحة «خروج عائلة أبو عبد الله الصغير من قصر الحمراء» للمؤرخ والرسام مانويل غوميز مورينو غونزاليس (1834 - 1918) أحد الرومانسيين الأكاديميين، والمشتغلين على تراث بني نصر والعمارة الإسلامية بالأندلس، وهي معروضة بمتحف الفنون الجميلة بـ«قصر كارلوس الخامس» بغرناطة. تصور اللوحة لحظة الخروج المفترضة للسلطان مع عائلته، رجلان يعانقان بعضهما بحرارة، وجارية تقبّل طفلاً، وثانية تمسك بمحياها مدارية لوعة دفينة، وثالثة تشد ثيابها حولها في ارتباك باك، ورابعة مستلقية على سجادة شبه منهارة، ساهمة في الأفق، وستارة حمراء تداري عبدا أسود، بينما ينحني بعض المعاونين في المدخل للعائلة السلطانية المنكوبة. تنقبض اللوحة على إحساس عال بمشاعر الفقد والرحيل، وتكشف بشاعرية شفيفة عن الارتباط الفطري بالأمكنة الأليفة، كما تعري هشاشة الكائن البشري. لا يشعر الناظر إلى التكوين الصوري أن ثمة شماتة من الرسام ولا نشوة بالانتصار، رسمت اللوحة بشبه حياد تجاه الواقعة الأسية، تشخص على طريقة الأعمال الرومانسية الكبيرة، الداخل العميق للشخصيات المكلومة، مع معرفة مقنعة بطبيعة الأزياء والعمارة والأثاث الأندلسي، هذا ويخلو المشهد من أي رمز مسيحي، لا وجود للمنتصرين لا في مركز الصورة ولا في خلفيتها.
ومن أبرز اللوحات التي تضاف إلى رصيد الأعمال الفنية المتصلة بموضوع «سقوط غرناطة» لوحة الرسام ماريانو فورتوني (1838 - 1874)، الذي يعدّ من أعلام الرومانسيين من ذوي النفس الانطباعي في إسبانيا القرن التاسع عشر، وأحد المولعين الكبار بتصوير الموضوعات الأندلسية والمغربية، ولع قاده إلى قضاء سنوات في المغرب وتعلم مبادئ اللغة العربية، أثمرت عشرات من الأعمال الفنية العالية القيّمة. نستحضر في هذا السياق تحديداً لوحته المعنونة بـ«مذبحة بني سراج» المعروضة في المتحف الوطني للفن الكطلاني ببرشلونة، مع عشرات الأعمال الأخرى لهذا الفنان.
تصور اللوحة واقعة شهيرة في تاريخ مملكة بني الأحمر، سبقت بسنوات قليلة سقوط غرناطة ومهدت لها بشكل من الأشكال، هي مذبحة بني سراج في أحد غرف قصر الحمراء، التي تمت في عهد السلطان أبي الحسن النصري والد أبي عبد الله الصغير، وهي الواقعة التي سكنت الخيال الشعبي الإسباني بما تضمنته من أساطير جعلت تمثيلاتها تنتشر في حقلي الآداب والفنون على حد سواء، بيد أن ما يميز عمل ماريانو فورتوني عن سابقيه، ممن تناولوا المذبحة، أنه تخلص إلى حد كبير من تلك المستنسخات المسكوكة التي التصقت بعشرات الأعمال الفنية الاستشراقية، حيث يظهر عبد أسواد وفي يده سيف يقطر دماً، في إحدى غرف قصر الحمراء بجوار جثة مفصولة الرأس؛ لقد اختار فورتوني التركيز على البعد الشَّبَحي للجثث المتناثرة، غير واضحة الملامح، حيث تغوص تقاسيمها في الهيئة العامة للجسد المبهم، وأحياناً لا نكاد نتعرف على بعض الأكوام في فضاء اللوحة، التشويش القصدي التي تحدثه ضربات الفرشاة، على سطح السند، يوحي بالجريمة المفزعة، وينقلها من حيز الواقعي إلى الفنتازي. وتكثف ظلال ذلك الكنه الشَّبَحي الغموض المكتنف للزخارف في الجدران والأقواس العتيقة، التي تطل من إحداها مجموعة من الدوائر تشبه الرؤوس، ولا نستطيع التمييز هل يتعلق الأمر بأموات أم بأحياء يتلصصون على الجريمة. لا يحيل عمل فورتوني بسهولة على واقعة المذبحة، ومثلما هو الشأن عموماً في أسلوب الانطباعيين، فإن الدقة والحرفية ليست هي الجوهر الفعّال في نقل الموضوعات والأحجام والكتل، بل الأهم نقل الإدراك الوجداني لها، والإحساس البصري بها، وهو ما تقوله لوحة «مذبحة بني سراج» الحالية ببلاغة صادمة، جعلت منها إحدى أهم التمثيلات الفنية لقصة بني الأحمر في الفن الإسباني على مر العصور.
وليس من شك أن استعادة التشكيل الإسباني الحديث عموماً لتفاصيل قصة سقوط مملكة غرناطة المسلمة، هو في العمق سعي إلى امتلاك معنى غائب، لم يعد له وجود إلا داخل حقل المرويّات، وما استتبعته من تأويلات لفظية، إنه الافتراض الذي يُمكّن الناظر، إلى تلك اللوحات، من تفسير ما تخلل أنحاء التشكيل فيها، وأساليب الإنجاز داخلها، من مراوحة بين أهواء فكرية وجمالية، أنتجت تباينات جمة في الأثر البصري، ما بين منطلق مزهو بعقيدة النصر، ورسم لمعالم ملحمة قومية، إلى الانغمار في إنتاج وثائقية مشهدية، إلى التماهي مع عواطف المهزومين الممحوّين... وذلك عبر تمثيل عاطفة الفقد والتلاشي، التي استنبتت عراقة ممتدة في غير اللسان والمعتقد.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

«الميلاد» حول العالم... رسائل أمل وسلام واحتفالات تُعيد الحياة

قداس منتصف الليل في كنيسة المهد ببيت لحم في فلسطين المحتلة (رويترز)
قداس منتصف الليل في كنيسة المهد ببيت لحم في فلسطين المحتلة (رويترز)
TT

«الميلاد» حول العالم... رسائل أمل وسلام واحتفالات تُعيد الحياة

قداس منتصف الليل في كنيسة المهد ببيت لحم في فلسطين المحتلة (رويترز)
قداس منتصف الليل في كنيسة المهد ببيت لحم في فلسطين المحتلة (رويترز)

وسط أجواء من الفرح والأنشطة المتنوعة، عادت المدن حول العالم لتزيين شوارعها واستقبال موسم الميلاد بألوان زاهية، من بيت لحم وغزة إلى الأقصر في مصر وسيدني في أستراليا، معبرة عن الأمل وتجدد الحياة رغم التحديات.

قداس عيد الميلاد في كنيسة المهد ببيت لحم مع مسيرة كشافة فلسطينية (أ.ف.ب)

شهدت بيت لحم والأراضي الفلسطينية احتفالات ميلادية بعد عامين خيّم عليهما النزاع في غزة، حيث عادت الحياة تدريجياً بعد اتفاق وقف إطلاق النار. شارك المئات في ساحة المهد وشارع النجمة في قداس ومسيرة للكشافة، وسط أصوات الطبول وألحان الترنيم الميلادي.

رئيس الوزراء الأسترالي ألبانيزي يقدم الطعام في غداء عيد الميلاد بسيدني (إ.ب.أ)

وقالت كاتياب عمايا، إحدى المشاركات في الكشافة، إن عودة الاحتفالات تمثل رمزاً مهماً لوجود المجتمع المسيحي في المنطقة، وتمنح سكان غزة الأمل في مستقبل أفضل. وأكد السكان أن الاحتفالات تعكس رغبتهم في إعادة الحياة إلى المدينة وتحفيز عودة السياح، بعد فترة من عزوف الزوار وارتفاع معدلات البطالة.

في غزة، أحيا المسيحيون قداس الميلاد في الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة بعد وقف إطلاق النار، معبرين عن رغبتهم في عودة الحياة الطبيعية إلى المدينة.

شجرة عيد الميلاد المضيئة في إحدى حدائق بكين (أ.ف.ب)

احتفلت الأقصر التاريخية في صعيد مصر بعيد الميلاد بعروض فلكلورية وألعاب التحطيب، على أنغام الربابة والمزمار، مستعرضة إرث المصريين القدماء في الاحتفال بالأعياد والمواسم. واستمرت الاحتفالات طوال فترة الميلاد ضمن فعاليات الدورة الـ15 للمهرجان القومي للتحطيب، ما أضفى بهجة وفرحاً على السكان والزوار.

أعضاء جوقة أغابي يقدمون عرضاً بمتحف الحضارة المصرية بالقاهرة (أ.ب)

شهد شاطئ بونداي في أستراليا احتفالات محدودة بسبب هجوم إرهابي أودى بحياة 15 شخصاً قبل أيام، حيث حافظ المشاركون على طقوس الميلاد مع احترام ذكرى الضحايا، وسط تعزيز الإجراءات الأمنية، بينما قلل الطقس العاصف من عدد المحتفلين.

وفي الوقت نفسه، تواجه بعض مناطق العالم ظروف طقس صعبة، مثل كاليفورنيا التي أعلنت السلطات فيها حالة الطوارئ تحسباً لفيضانات محتملة، ما يعكس التحديات المتعددة التي تواجه المجتمعات خلال موسم الأعياد.

أوكرانيون يرنمون للميلاد حاملين نجوم بيت لحم وسط مدينة لفيف (إ.ب.أ)

على الرغم من الظروف الصعبة، حملت الاحتفالات الميلادية هذا العام رسائل فرح وتجدد للأمل، سواء في فلسطين أو مصر أو أستراليا. وتجسد هذه الفعاليات قدرة المجتمعات على التعبير عن التضامن والحياة المشتركة، والحفاظ على التراث والثقافة، حتى في أصعب الأوقات.


«مقابر الخالدين» تفشل في ابتلاع انتقادات هدم ضريح «أمير الشعراء»

الضريح الذي دُفن فيه أحمد شوقي يخص عائلة زوجته (صفحة «جبانات مصر» على «فيسبوك»)
الضريح الذي دُفن فيه أحمد شوقي يخص عائلة زوجته (صفحة «جبانات مصر» على «فيسبوك»)
TT

«مقابر الخالدين» تفشل في ابتلاع انتقادات هدم ضريح «أمير الشعراء»

الضريح الذي دُفن فيه أحمد شوقي يخص عائلة زوجته (صفحة «جبانات مصر» على «فيسبوك»)
الضريح الذي دُفن فيه أحمد شوقي يخص عائلة زوجته (صفحة «جبانات مصر» على «فيسبوك»)

رغم إعلان محافظة القاهرة نقل رفات أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 - 1932) إلى مقابر الخالدين التي تضم رفات رموز المجتمع المصري من ساسة ومبدعين وعلماء وأمراء، فإن خبر هدم ضريح أحمد شوقي في مكانه التاريخي قوبل بردود فعل غاضبة، جاء معظمها من مهتمين بتراث المقابر ذات الطرز المعمارية المتميزة، وأضرحة الشخصيات التاريخية، والعارفين بقدر شوقي، ومكانته في تاريخ الشعر المصري والعربي الحديث.

ويؤكد الباحث في التاريخ الدكتور مصطفى الصادق أن «هدم ضريح أمير الشعراء أحمد شوقي، يأتي ضمن لائحة طويلة من قبور المشاهير والعظماء التي تمت إزالتها»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «هناك غضب كبير، إلا أن عملية الهدم نفسها غير مستغرَبة، ومتوقَّعة، فقد سبقه كثيرون، جرفتهم المعاول، حيث سبق هدم ضريح محمود الفلكي، والسردار راتب باشا، وكثيرون آخرين».

وتحدث الصادق عن «وعود لم يفِ بها أحد»، على حد قوله، مضيفاً: «بعد هدم قبة حليم بن محمد علي باشا، أعلن المسؤولون أن أعمال الهدم سوف تتوقف، لكن ما جرى بعدها فاق الوصف، كانت أعمال الإزالة بعد ذلك خرافية»، ولفت إلى أن الحديث الذي يدور حالياً عن «مقابر فاخرة» لا معنى له في ظل هدم أضرحة لا مثيل لها في الفخامة والإبداع والعمارة.

من جهتها أعلنت محافظة القاهرة قرب افتتاح «مقابر تحيا مصر للخالدين»، التي «أقامتها الدولة خصيصاً لنقل رفات الشخصيات التاريخية، وسيخصص جزء منها لعرض التراكيب المعمارية الفريدة ذات الطراز المعماري المتميز».

جانب من أعمال الهدم في المقابر (صفحة «جبانات مصر» على «فيسبوك»)

وقالت المحافظة في بيان: «إن المقابر شرفت بإعادة دفن رفات شوقي، إذ تم وضعه في المكان الذي يليق بمكانته الأدبية والتاريخية». فيما قال الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد لـ«الشرق الأوسط» إن «هدم ضريح شوقي جاء على خلاف ما أعلن عنه المسؤولون، فقد كان الحديث عن عدم المساس به، لكننا فوجئنا بنقل رفاته منذ شهور، ثم هدم المقبرة الذي لم يراع مكانة شوقي؛ فهو أشهر شعراء العربية في العصر الحديث».

وأضاف عبد المجيد أن «الخبر مؤلم جداً، خصوصا أنه يأتي في ظل الحديث عن هدم أضرحة رموز إبداعية مهمة في تاريخ مصر، بدءاً من مدفن محمود سامي البارودي، وصولاً إلى ضريح عميد الأدب العربي طه حسين، الذي يختفي الآن تحت الجسر».

ووفق عبد المجيد: «هناك أضرحة عديدة هدموها وكانت بمثابة متاحف زاخرة بالتحف والتماثيل والرسومات والزخارف الفنية المرصعة بالمعادن، تعرضت للسرقة وبيعت في السوق، وبينها شواهد قبور وتركيبات لمشاهير كان يجب حمايتها ومنع المساس بها».

المحزن في واقعة هدم ضريح شوقي، وفق الباحث في التراث إبراهيم طايع، أن «عمليات الإزالة سبقها بشهور نقل رفاته، وقام مجهولون بسرقة تركيبات عدد من المقابر داخل الضريح»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «كان من الواضح أن مصير الضريح إلى زوال، لأن كل ما حوله من مدافن جرفتها المعاول».

من جهته وصف الشاعر المصري، أحمد عبد المعطي حجازي، إزالة مقبرة شوقي بأنها بمنزلة «هدم جسم حي وكيان باقٍ وخالد بأيدي فانين وعاجزين عن تقدير القيم». وأضاف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «ما يحدث لمقبرة شوقي يطول الثقافة المصرية كلها، منذ عقود وحتى الآن، ومَن هدموا مقبرة شوقي هم أنفسهم الذين يهدمون الثقافة المصرية».

دُفن أمير الشعراء في مقبرة تخص عائلة زوجته، وتعود لحسين باشا شاهين، وهناك يوجد رفاته أيضاً، ورفات زوجته ووالده. «أكثر من 5 تركيبات اختفت قبل هدم الضريح، ولم يتبقَّ سوى التركيبة الرخامية الخاصة بشوقي، التي ظلت حتى هدم الضريح»، وفق طايع.


«بين ثقافتين» يَعبر الحدود ويبرز تنوع الثقافتين السعودية والصينية تحت سقف واحد

ثقافتان تتشاركان التعبير عن الموروث وصور الإبداع في مكانٍ واحد (وزارة الثقافة)
ثقافتان تتشاركان التعبير عن الموروث وصور الإبداع في مكانٍ واحد (وزارة الثقافة)
TT

«بين ثقافتين» يَعبر الحدود ويبرز تنوع الثقافتين السعودية والصينية تحت سقف واحد

ثقافتان تتشاركان التعبير عن الموروث وصور الإبداع في مكانٍ واحد (وزارة الثقافة)
ثقافتان تتشاركان التعبير عن الموروث وصور الإبداع في مكانٍ واحد (وزارة الثقافة)

من جديد، يعود مهرجان «بين ثقافتين» ليعبر حدود الثقافة، ويحتفي بتجارب استثنائية تجمع بين الفنون والموسيقى ومذاقات المأكولات التقليدية وشتى العروض الحيّة، جامعاً في نسخته الثالثة بين الثقافتين السعودية والصينية، لإبراز التنوع الثقافي وحدود التلاقي بينهما في قلب الرياض.

وأطلقت وزارة الثقافة النسخة الثالثة من مهرجان «بين ثقافتين» التي تستضيف جمهورية الصين وثقافتها وتقاليدها المتنوعة، وذلك في قاعة «الملفى» بمدينة محمد بن سلمان غير الربحية «مدينة مسك» في العاصمة الرياض، ضمن حدث دولي يُقام بالتزامن مع العام الثقافي السعودي الصيني 2025؛ بهدف ترسيخ الحوار الحضاري، وتعزيز التبادل الثقافي بين السعودية والصين.

وتُقدم الفعالية تجربة فنية متكاملة تستعرض الإرث الحضاري والممارسات الثقافية لكلا البلدين، وتكشف عن أوجه التشابه والتكامل بينهما في مجالات الفنون والطهي والحرف اليدوية والموسيقى، ما يعكس عمق الروابط التي تجمع الشعبين.

ويضم المهرجان معرضاً فنياً يزخر بأعمال لفنانين سعوديين وصينيين بارزين، ومتاجر متنوعة تُقدم منتجات من كلتا الثقافتين، وفعاليات تفاعلية تشمل عروضاً أدائية حية، وتجارب طهي فريدة، وأنشطة ثقافية مصممة لإثراء تجربة الزوار.

‏أصالة الموروث السعودي والصيني تتجلّى في عروض ثقافية متنوّعة في ⁧‫المهرجان (وزارة الثقافة)

حينما تهب الرياح شرقاً

يحضر الفن في المهرجان بوصفه لغةً وجسراً يربط بين ثقافتين وشعبين اختارا، عبر العصور، التعبير عن مكنونات ثقافتيهما من خلال العطاء الفني والإبداعي الرصين. وفي معرض يحمل عنوان «حينما تهبّ الرياح شرقاً»، تلتقي الأعمال السعودية والصينية في حوار إبداعي يعكس التلاقي الثقافي المعاصر، من خلال لوحات ومنحوتات وأعمال تركيبية، تسعى إلى استكشاف نقاط الالتقاء بين الطبيعة والفكر، وبين الماضي والحاضر، ضمن رؤية فنية مشتركة.

‏تناغم ثقافي يتوهّج بألوان الفن في ⁧‫المهرجان (وزارة الثقافة)

وتتوزع أعمال المعرض في 3 أقسام؛ حيث تلتقي الصحراء ببحر الذاكرة في القسم الأول من المعرض الفني، ويتناول كيف تُشكِّل الصحراء والبحر ذاكرة الفنانين ورؤيتهم الفنية، إذ تتحول العناصر الطبيعية إلى لغة للتأمل تربط بين ثبات الأرض وسيولة الزمن.

وفي قسم «نسيج من نور وتراب»، وهو القسم الثاني من المعرض، يُسلط الضوء على العلاقة بين المادي واللامادي، إذ يذيب الفنانون الحدود بين الضوء والطين والنسيج ليكشفوا جوهر المادة واتحاد الروح بالبيئة.

وفي قسم «آثار المستقبل»، تُركز المعروضات على إعادة قراءة التقاليد برؤية معاصرة تمزج بين الذاكرة والابتكار، لتغدو الأعمال بمثابة خريطة زمنية تصل الماضي بالحاضر، وتستشرف ملامح المستقبل.

‏صور توثّق الالتقاء الثقافي البديع بين المملكة والصين (وزارة الثقافة)

14 يوماً من جسور الثقافة

يُقدم المهرجان الذي سيستمر حتى 6 يناير (كانون الثاني) 2026، تجربة ثقافية شاملة تُبرز عُمق الحضارة الصينية وتَنوُّعَ موروثها، كما يستعرض أوجه التلاقي والتباين بينها وبين الثقافة السعودية، وذلك في إطار جهود وزارة الثقافة لمدّ جسور التواصل الحضاري، وتعزيز حضور السعودية إقليمياً ودولياً، وترسيخ مكانتها بوصفها مركزاً فاعلاً للحوار الثقافي العالمي.

ويستهدف المهرجان العائلات والأفراد، والسياح والزوار الأجانب، والوفود الرسمية، والمهنيين في القطاعات الثقافية، من خلال برنامج متنوع يشمل معرضاً فنياً، وتجربة «الشارع الصيني» التي تجمع بين الثقافتين عبر الحِرف اليدوية، إلى جانب العروض الأدائية والموسيقية، وغيرها من الفعاليات التي تعكس القيم المشتركة في التراث والهوية، وتُسهم في تعزيز التقارب الإنساني عبر الثقافة بوصفها لغةً عالمية.

من الصين إلى المهرجان وجوه متعددة للمتعة واستكشاف الفن والتراث (وزارة الثقافة)

يُذكر أن النسخة الأولى من مهرجان «بين ثقافتين» استضافت الثقافة اليمنية، فيما استضافت النسخة الثانية الثقافة العراقية، إذ شهدت النسختان إقبالاً جماهيرياً واسعاً وتفاعلاً ملحوظاً من المهتمين والمثقفين؛ ما أسهم في ترسيخ مكانة الفعالية منصة ثقافية سنوية تحتفي بالتنوّع الحضاري الإنساني.

وتسعى وزارة الثقافة، من خلال مهرجان «بين ثقافتين»، إلى تقديم الثقافة السعودية في سياق تفاعلي مُقارَن، يُبرز أوجه التقارب والاختلاف مع ثقافات العالم، ويُعزز الوعي بالتنوّع الثقافي، ويدعم تمكين المبدعين والحرفيين والفنانين، ويوسّع آفاق فرص التعاون الثقافي الدولي، إلى جانب بناء شراكات استراتيجية تُسهم في تنمية الصناعات الإبداعية، بما ينسجم مع مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للثقافة تحت مظلة «رؤية 2030».

أبعاد ثقافية رحبة يضمها المهرجان بين الثقافتين (وزارة الثقافة)