مجبولاً بالشعر ولد منصور الرحباني. كان شاعراً قبل أن يكون أي شيء آخر. نظم طفولته أبياتاً، أجلس الطيور والسهول والوديان وذئاب الليل على سطوره، حوّل الفقر إلى قصيدة، حتى الموت استحال شعراً فوق أوراقه.
ترك منصور إلى جانب توأم روحه وفنه عاصي، تِلالاً من القصائد والأغاني والمسرحيات والأفلام. وبعد رحيل أخيه، حمل الكلمة وسار وحده صوب مملكة الشعر. كتب وخبأ حروفه في الأدراج، ليس ضناً بأفكاره على الناس إنما تمنّعاً عن إحداث أي فصل بين «الأخوين»، على ما يخبر صديقه الشاعر هنري زغيب «الشرق الأوسط». يقول: «كان منصور مسكوناً بعاصي، إلى درجة أنه ألغى نفسه من أجل أخيه وظل يبكيه حتى سنواته الأخيرة. لم يعتد أن يقول (كتبت) بل (كتبنا)، لذلك لم يقتنع بنشر دواوينه إلا بعد مؤامرة مني ومن أولاده مروان وغدي وأسامة». قبل تلك المؤامرة، كان كلما طلب زغيب من منصور أن ينشر شعره المكدس في الأدراج، يجيبه: «أبدّيش».
عام 2007، اقتنع الرحباني بصعوبة أخيراً، فجمع زغيب الأوراق وأبصرت 6 دواوين النور؛ هي «الأولى القصائد»، و«بحّار الشتي»، و«القصور المائية»، و«أسافر وحدي ملكاً»، و«أنا الغريب الآخر»، أما الديوان السادس «قصائد مغنّاة» فمن توقيع الأخوين رحباني.
رغم غنى تلك الدواوين الممتلئة ببوح منصور وبروحه الرومنطيقية وبرؤيته الفلسفية، لكنها لم تحظ بالوهج نفسه الذي حظيت به مسرحياته الخاصة وإرث الأخوين. قد يكون لدى هنري زغيب تفسير لذلك عندما يقول إن «الأخوين ظلما شعرهما بذاتهما حين ألبساه ألحاناً جميلة أخذت من وهج القصيدة، ثم أتى صوت فيروز التاريخي الخالد ليأخذ من وهج اللحن والشعر ويعلق في الذاكرة الجماعية».
لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن منصور الرحباني هو «من كبار شعراء لبنان»، حسب توصيف زغيب. «تكفي قراءة القصيدة التي نظمها في سن الـ19 بعد رحيل والده، لملاحظة التماسك في شعره، مع أنه لم يكن يعرف الأوزان بعد»، يقول الشاعر الصديق الذي واكب الأخوين منذ سنوات الشباب. ويضيف: «في الفصحى كما في العامية لدى منصور ملكة الشعر نفسها. أما خصائص ذاك الشعر فهي أنه كونيّ أي أنه يتطلع إلى الغيب والمدى الأبعد».
دواوين منصور الرحباني
بواسطة شعره هرب منصور كذلك إلى أناه الأولى، إلى ابن الوعر وراعي الجرد الذي لم تغلبه المدينة. في ديوان «بحار الشتي» قال:
«رابي أنا بهالجرد
رابي بحفافي البرد
بجبال خلف جبال
ما بيقطعا الخيال
وما فيه حدا بيقطع فيا
إلا نحن والصوت والموال
وشي كم رف حجال».
أما «الفصحى في شعره فسلسة ومتينة، كما أنها متمسكة بقواعد اللغة وبأصول الأوزان والعَروض»، يتابع زغيب. ويضيف الشاعر اللبناني: «تنساب له القوافي من دون أن يشدها من شعرها، وهذا هو الفرق بين الشاعر والنظّام».
حتى عندما تحدّث في شعره عن النهايات، أفرد منصور الرحباني مساحةً ليسرح فيها البسطاء والحصادون، فقال في ديوان «القصور المائية»:
«عبثاً نحفر وجوهنا على حيطان الوجود
نحن ظلال عابره
أخفض رأسي وأمضي
على خطى الرعاة والبسطاء».
أما حين استحضر موته فقال:
«لن أعود من الحصاد
لأموت على فراش الراحة
سأسقط على البيدر،
بين هتاف الحصادين وفرح السنابل».
يأسف زغيب لأن شعر منصور لا يدرّس في مدارس لبنان وجامعاته، ويستذكر كيف أن ثائرته ثارت مرةً عندما نشرت إحدى القصائد باسمه في كتاب الأدب العربي. يروي زغيب: «نشر المركز التربوي للبحوث والإنماء مرةً قصيدة (لملمت ذكرى لقاء الأمس) في كتاب أحد الصفوف الثانوية، ونسبها لمنصور الرحباني. هو فعلاً نظم تلك القصيدة لكنه حين علم بالأمر، رفع دعوى وأرغم المركز على إتلاف الطبعة وإعادة نشر القصيدة بتوقيع الأخوين رحباني». خلال حديثه عن منصور، غالباً ما يعود زغيب إلى تلك القصيدة التي تمنى الشاعر عمر أبو ريشة لو كان أحد أبياتها من بنات أفكاره؛ والبيت المقصود هو: «نسيت من يده أن أسترد يدي طال السلام وطالت رفة الهدب».
منصور الرحباني خلال أحد اللقاءات الإذاعية
إلى المسرح أخذ منصور الرحباني الشعر معه. طرّز به مسرحياته التي ألّفها بعد غياب عاصي. صحيح أنه استقى مواضيعها من التاريخ والفلسفة والأدب العالمي، إلا أنه أثرى الحوارات والنصوص بالشعر الحالم وبالأبيات البسيطة المكتنزة حباً، كما في مسرحية «ملوك الطوائف» حيث كتب:
«أجيء إليك من مدن الغرابة، من دارة شرفتها سحابة
أجيء إليك من قصص أسكنها العشق اغترابه
وفرح ما حلمت بمثله كآبة
أجيء إليك قصيدةً لم تتجسد بعد في كتابة».
وفي مسرحية «زنوبيا»، قال:
«لا عمر للأسامي أسماؤنا أكبر منا كانت قبل أن كنا
أحبك من دون اسم، أحبك من دون مجد
حتى سقوط آخر تاج، وحتى سقوط الغمامة بالنهر، حتى جفاف الينابيع بين التلال».
عن تلك المسرحيات التي فاق عددها العشر والتي أثرت أرشيف منصور وحرّضته على اختراع نفسه من جديد، يقول هنري زغيب: «في كل من أعماله، تحدى منصور العمل السابق. بعد غياب عاصي، ذهب إلى المسرح الميثولوجي وفجّر شغفه بالفلسفة والتاريخ في أعماله الخاصة. ما عاد يعنيه نجم المسرحية أو نجمتها، فوزع البطولة على أكثر من شخص. لكن في المقابل، لم يتغير النسيج التأليفي بين مسرحه ومسرح الأخوين، أي أن تركيبة الجملة والمشاهد لم تتبدل وهذا يعني أن منصور كان له ضلع كبير في الكتابة المسرحية الأولى إلى جانب عاصي».
الشاعر هنري زغيب مع عاصي ومنصور الرحباني (أرشيف هنري زغيب)
جمع منصور الرحباني بين الرقة والقلق في شعره، كذلك فعل في صداقاته. يتذكر زغيب كيف كان يتصل به ليطمئن إذا تأخر قليلاً عن موعدهما. «كانت لديه لهفة على أصدقائه»، يقول زغيب. ويضيف: «صداقته تغني صديقه؛ هو قارئ نهم وفي جلساتنا معاً نادراً ما كنا نتحدث في اليوميات العادية، بل كانت تدور نقاشات فكرية وأدبية. ومن أجمل ما كان عليه، أنه أحب التلقي فلطالما أمسك بقلم وورقة ليدوّن فكرة أو معلومة جديدة يسمعها».
حلت النهاية ثقيلةً على هنري زغيب الذي تأخر عن موعد الكنافة الصباحية التي وعد بها صديقه. تمسّك منصور بشغف الطعام، من باب تمسكه بالحياة. يتذكر الأيام الأخيرة التي سبقت وفاته: «واكبته حتى اليوم الأخير. كان خائفاً من الرحيل، لكنه ومنذ آخر عشاء جمعنا ليلة عيد الميلاد، كان عالماً بأن موعد النهاية اقترب».
صباح 13 يناير (كانون الثاني) 2009، تم ما قال منصور الرحباني: «أيها الموت، أنت الصاحب الوحيد الذي سيبقى معي».