قطعاً، ستدخل فرنسا في الأيام القليلة المقبلة حالة من المطبات الهوائية التي تنذر بجولة من المظاهرات والإضرابات والتململ الاجتماعي، على خلفية رفض مشروع الحكومة إصلاح قانون التقاعد. وبعد تأجيل وراء تأجيل، كشفت إليزابيت بورن، رئيسة الحكومة، أمس، بمناسبة مؤتمر صحافي مطول، عن تفاصيل الخطة التي يراد لها أن تنقذ نظام التقاعد. وأهم بنودها رفع سن التقاعد من 62 عاماً حالياً إلى 64 عاماً مع حلول العام 2030. ولم تفوت بورن الفرصة لتكرر أن سن التقاعد في فرنسا هو الأدنى من بين الدول الأوروبية كافة؛ حيث إن من بينها من جعله عند عتبة 67 عاماً. كذلك، فإن رئيسة الحكومة التي دافعت بقوة عنه نجحت في إقناع الرئيس إيمانويل ماكرون بالتراجع عن سن 65 عاماً، أي عن الالتزام الذي قدّمه أثناء حملته الانتخابية الرئاسية الأخيرة، التي مكّنته من ولاية ثانية من 5 سنوات. فضلاً عن ذلك، تعتمد الخطة رفعاً تدريجياً لسن التقاعد، حيث يرفع 3 أشهر كل عام، مع الأخذ بعين الاعتبار المهن الصعبة وسن الدخول إلى ميدان العمل. لكن الإجراء الأهم الذي تراهن عليه الحكومة هو عزمها على رفع الحد الأدنى للمرتبات التقاعدية إلى 1200 يورو، أي ما يساوي 85 في المائة من الحد الأدنى للأجور حالياً.
بيد أن هذا العرض والرغبة في تقديم الشروحات الكافية والوافية حول الدوافع والنتائج لم يقنعا الجميع، بل إن الخطة أحدثت انقساماً عميقاً بين من يدعم ومن يعارض.
ففي خانة الداعمين، هناك بالطبع حزب «النهضة» الرئاسي، المسمى سابقاً «الجمهورية إلى الأمام»، الذي لا يتمتع بالأكثرية المطلقة في البرلمان، وهو يراهن على انضمام نواب حزب «الجمهوريون» اليميني المعتدل إلى صفوفه، رغم أن موقعه المبدئي هو في المعارضة. ونجحت بورن في مناورة الاستجابة لبعض مطالب «الجمهوريون» التي تمسك بها للسير في ركاب الحكومة، وأهمها أن يشمل وعد رفع مرتبات التقاعد جميع المتقاعدين، جدداً كانوا أو قدماء. أما على صعيد عالم الأعمال، فإن الدعم جاء فقط من هيئة أرباب العمل.
في المقابل، فإن المعارضة تشمل النقابات كافة، المتشددة منها والمعتدلة التي توافقت مساء الثلاثاء على تحديد يوم 19 الحالي للتعبئة النقابية والعمالية والجماهيرية ضد خطة يعتبرونها، جماعياً، أنها «غير منصفة» وتزيد الفوارق الاجتماعية، وعلى حساب الموظفين والعمال وليست لصالحهم. ثم إن اليسار بتلاوينه كافة، من الحزب الاشتراكي حتى اليسار المتطرف ممثلاً بحزب «فرنسا الأبية»، مروراً بالشيوعيين، ومعهم الخضر، يريد جعل معركة إصلاح قانون التقاعد «أم المعارك». والمفارقة أن اليمين المتطرف ممثلاً بـ«التجمع الوطني»، أي «الجبهة الوطنية» سابقاً، الذي تقوده المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبن يعارض جذرياً الخطة الحكومية ويريد إسقاطها. ووصفت الأخيرة الخطة الحكومية بأنها «غير عادلة». ويعد هذا التوافق بين الجناحين اليساري المتشدد واليميني المتطرف الأول من نوعه منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي جاءت ببرلمان متشظٍ، لكنها أدخلت إليه بقوة اليمين المتطرف واليسار المتشدد، وحرمت ماكرون من الأكثرية التي كان يتمتع بها في ولايته الأولى.
هكذا، ولدت كتلتان تتواجهان؛ الأولى حكومية حزبية تراهن على دعم نواب اليمين التقليدي لتمرير مشروع القانون الجديد في البرلمان، والثانية نقابية سياسية شعبية تراهن على الشارع لإسقاطه ولدفع الحكومة للتراجع. وما تتخوف منه الحكومة أن تكون الحركة الاحتجاجية قوية وأن تتراكم المظالم. واللافت أن النقابات الرئيسية الثماني جميعها بمختلف مشاربها تدفع باتجاه رفض الخطة الحكومية. وكان ممثلو هذه النقابات قد اتفقوا على خطة تحرك جماعية ستشمل المظاهرات والمسيرات والإضرابات، ستكون باكورتها يوم 19 الحالي؛ حيث أطلقت الدعوة لمظاهرات وإضرابات يفترض أن تعم كافة القطاعات والمناطق الفرنسية، وستكون بمثابة الميزان الذي يؤشر لأهمية التعبئة. وتتخوف الحكومة من الإضرابات، خصوصاً في قطاع النقل العام «القطارات والمترو والحافلات»، وقطاع الطاقة، خصوصاً الكهرباء، الذي له انعكاسات قوية على حياة المواطنين. كذلك، فإن حزب «فرنسا المتمردة» دعا إلى مسيرة يوم 21 يناير (كانون الثاني). وتتخوف السلطات من تراكم المظالم، ومن تداخل بعضها مع بعض، وهو الأمر الذي حذرت منه مذكرة أعدتها المخابرات الداخلية، وكشفت مضمونها القناة الإخبارية التلفزيونية «بي إف أم»، ولم تغب عن أذهان المسؤولين حركة «السترات الصفراء» ما بين أواخر العام 2018 وبداية العام 2020، التي كادت تهدد النظام بما شهدته من عنف غير مسبوق.
أول من أمس، نبّه رئيس نقابة «القوة العاملة» فريديريك سويو أنه «إذا كان إيمانويل ماكرون يريد جعل تعديل قانون التقاعد (أمّ إصلاحاته)، فنحن نعتبره (أمّ المعارك)». من جانبها، قالت الرئيسة الجديدة لحزب الخضر مارين توندلييه: «سيدور النقاش» في الشارع في مواجهة إصلاح «عقائدي» و«مناهض للمجتمع»، «يخدم طبقة» الميسورين.
مقابل تعبئة المعارضة، دعا ماكرون، أمس، وفق ما نقل عنه أوليفيه فيران، الناطق باسم الحكومة، بمناسبة اجتماع المجلس الوزاري الأسبوعي، للتعبئة في صفوف الحكومة، مشدداً على أهمية شرح ما سيغيره القانون المرتقب، والدفاع عن خطة «حيوية ولا محيد عنها» لإنقاذ نظام التقاعد. كلام جميل ومنطقي، لكن لا أحد يراهن أن هناك من سيقتنع به في جبهة المعارضين.
بدء العد العكسي لـ«أم المعارك» ضد خطة قانون التقاعد الفرنسي
مساع من النقابات العمالية واليسار واليمين المتطرف لـ «لي ذراع الحكومة»
بدء العد العكسي لـ«أم المعارك» ضد خطة قانون التقاعد الفرنسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة