ملامح وذكريات عن السينما التونسية في مئويتها

من فرسانها بن محمود والباهي

«فتوى» آخر أفلام محمود بن محمود
«فتوى» آخر أفلام محمود بن محمود
TT

ملامح وذكريات عن السينما التونسية في مئويتها

«فتوى» آخر أفلام محمود بن محمود
«فتوى» آخر أفلام محمود بن محمود

احتفال السينما التونسية، الذي بدأ في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، ويستمر حتى اليوم نفسه من شهر ديسمبر (كانون الأول) 2023. بمرور مائة سنة على ولادتها يضعها في مركز مرموق بين صناعات السينما العربية والعالمية. صحيح أن الفيلم الأول الذي أخرجه تونسي بتمويل تونسي وهو «زهرة» لسمامة شكلي (والبعض يؤرخه باسم ألبير سمامة شكلي) سنة 1922 كان قصيراً لكن لا أهمية لذلك. ليس فقط أن العديد من سينمات العالم بدأت قصيرة فقط، بل في غضون عشرينات القرن الماضي كان الفيلم القصير ما زال موجوداً بغزارة في العالم الغربي جنباً إلى جنب الأفلام الطويلة التي بدأت قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات.

«صمت القصور» الفيلم الأول للمخرجة الراحلة مفيدة التلاتلي

نظرة نقدية
من المهم النظر إلى السينما التونسية، بعد ذلك التاريخ، كسينما رائدة كذلك في الاختلاف. سينما الجوار في المغرب والجزائر لم تبدأ (لأسباب عدّة) إلا لاحقاً. في الواقع إلى أن أخذت السينما الجزائرية في تحقيق أفلامها عن الثورة ضد فرنسا في أوائل الستينات وإلى أن قام الفرنسي جان مورا بإنجاز فيلم من تمويل مغربي (على الأرجح) صوّره في المغرب تحت عنوان «معروف، صانع فطيرة القاهرة» سنة 1947. كانت السينما في تونس أطلقت أفلاماً أخرى من بينها سنة 1924 «الغزال» (ثاني فيلم للمخرج شيكلي). هذا قبل ثلاث سنوات من قيام عزيزة أمير بتحقيق أول فيلم مصري الإخراج، وهو «ليلى».
ما هي إلا ثلاث سنوات أخرى حتى آلت راية الإنتاج في العالم العربي إلى السينما المصرية مع بزوغ أفلام سورية ولبنانية وعراقية في الثلاثينات. لكن تلك التونسية اختلفت عنها جميعاً. ليس عبر الحكايات والمواضيع التي أثارتها، بل كونها استفادت من التأثير الفرنسي على الحياة الثقافية التونسية.
هذا التأثير سبق الاستقلال عام 1956 واستمر بعده. نوادي السينما وجمعياتها ثم مهرجان أيام قرطاج السينمائي التي واكبت نهضة الإنتاج السينمائي التونسي كلها دلالات حيّة على ميراث من الاهتمام الثقافي الكبير عاشته السينما التونسية وتوطد شأنه بعد الاستقلال.

«الهائمون» الفيلم الأول للناصر خمير

النظرة النقدية للسينما التي سادت الستينات في بعض دول الشرق الأوسط والسينما المصرية (على الأخص) كانت النموذج الذي أرادت السينما التونسية الابتعاد عنه، ومهرجان قرطاج كان أحد وسائل تأكيد المسار المختلف عن تلك السينما التي وُصفت بالتجارية المحضة.
مرّة أخرى يلعب التأثير الثقافي والاقتراب من الحركة السينمائية في الغرب (أكثر مما فعلت سينمات عربية آنذاك) دوراً في جعل السينما التونسية تختلف، متمتعة بالرغبة في شق طريقها بعيداً عن المألوف العربي. ومهرجان «أيام قرطاج السينمائية» لعب أهم دور ممكن في هذا التوجه، إذ وُلد ـسنة 1966 بهدف مختلف، ناهيك عن أنه وُلد حين لم تشهد الدول العربية مهرجانات استمرت لأكثر من دورة أو دورتين.
بحنكة اختار المهرجان (الذي أسسه الناقد الراحل الطاهر الشريعة) أن يكون جامعاً للسينما العربية والأفريقية، وهو منح جائزته الأولى في ختام دورة 19966 إلى المخرج السنغالي عثمان سمبان عن فيلم «فتاة سوداء».
كان تم القرار بأن يُقام المهرجان مرّة كل عامين. الدورة الثانية، سنة 1968، حجبت الجائزة الأولى لكن في تلك الدورة الثالثة، سنة 1970. مُنحت للمخرج المصري يوسف شاهين تلاه بعد عامين فوز «المخدوعون» بالجائزة الأولى. الفيلمان سياسيان واحد عن حال مصر بعد هزيمة 1967 والآخر أنجزه توفيق صالح لحساب المؤسسة العامة للسينما في سوريا عن رواية غسان كنفاني.

بعد الاستقلال
منذ إقامة المهرجان وإلى اليوم، توزّعت الجوائز الأولى بين أفلام من دول عربية وأفريقية مختلفة، كان نصيب الفيلم التونسي منها ثمانية أفلام تونسية أولها «عزيزة» لعبد اللطيف بن عمّار (1980) وآخرها «نورة» لهند بوجمعة (2019).
لكن المسألة ليست محصورة بالمهرجان العربي - الأفريقي المنفرد في تخصصه فقط، بل هو لا يعدو وجهاً من وجوه العمل السينمائي الذي تميّزت بها السينما التونسية، منذ ذلك الحين وإلى اليوم. إنها في تلك المحطات المهمّة الأخرى التي أوجدتها الحياة السينمائية في تونس والمخرجين الموهوبين المتعددين التي أنجبتهم تلك السينما.
أنتجت السينما التونسية ما بين 1966 وإلى اليوم ما يربو عن 130 فيلماً روائياً طويلاً. مخرجو هذه الأفلام توزّعوا على مدار أجيال متعاقبة بعضهم حقق فيلماً واحداً أو فيلمين ثم غاب، والبعض الآخر والى العمل في مهنته قدر ما يستطيع بتراكم يزيد عن أصابع اليد الواحدة أحياناً.
بعد الاستقلال مباشرة قام عمار الخليفي بتحقيق فيلمين متواليين: «الفجر» (1966) و«المتمرد» (1968)، وفي الفترة ذاتها خرجت أفلام لمخرجين معظمهم لم يكمل المشوار (مثل علي عبد الوهاب مخرج «أم عبّاس»، 1968) لكن من أشهرها «خيفة الأقرع» لحميدة بن حليمة.
السبعينات كانت المرحلة التي توجّهت السينما التونسية إلى حيث كسبت حضورها في إطار السينما العربية المستقلة وإطار سينما المؤلف معاً. إنه العقد الذي شهد أولى أفلام المخرجين عبد اللطيف بن عمّار ورضا الباهي وسلمى بكار والناصر القطاري. وإبراهيم باباي.
بعض مخرجي ذلك العقد آثروا التوجه للسينما الأكثر قرباً من الجمهور العريض أبرزهم رشيد فرشيو، الذي قام سنة 1974 بتحقيق فيلمه الأول «أطفال القلق».
لكن الأفلام التي تركت تأثيرها في بال العديد من النقاد أو حفرت لتاريخ السينما التونسية وجوداً على صعيد الإنجاز الفني والثقافي كانت «حكاية بسيطة كهذه» و«رسائل من سجنان» لعبد اللطيف بن عمار، و«السفراء» للناصر القطاري و«شمس الضباع» لرضا الباهي. هذا الأخير كان الأول في مسيرة طويلة لم تنته بعد، آخر محطاتها «جزيرة الغفران»، الذي عُرض في مهرجان القاهرة الأخير. ومحمود بن محمود (الذي فاز بذهبية دورة 2019 بالتانيت الذهبي عن «فتوى» والناصر خمير (الذي يعيش ويعمل في باريس) هم من بين القلائل من الجيل السابق التي ما زالت تعمل.

مواهب إضافية
حملت الثمانينات بعد ذلك المزيد من أعمال بن عمّار والباهي، وأضافت عدداً آخر من المخرجين الجيدين من بينهم الناصر خمير «الهائمون» ونوري بوزي «ريح السد» والطيب الوحيشي «ظل الأرض». في التسعينات أصبح من الممكن إضافة مواهب جيّدة أخرى مثل الفاضل الجعايبي «غبار الماس» والمنصف ذويب «سلطان المدينة» ومفيدة التلاتلي «صمت القصور» وفريد بوغدير «حلفاوين».
كل هؤلاء، ومن جاء بعدهم منذ ذلك الحين، هدفوا لسينما مختلفة نابعة من وعي ثقافي واجتماعي وسياسي. صحيح أن النتائج الفنية لا يمكن أن تكون متساوية، لكن النوايا تكمن في موقع واحد.
بعض هذا النجاح، والأجدر أن كثيراً منه، يعود إلى مساحة من الحرية منح المخرجين هامشاً عريضاً للتعبير. الرقابة السينمائية في تونس من بين تلك الرقابات العربية الأكثر وعياً واستعداداً لمنح المخرجين فرصة قول وعرض ما يرغبون فيه. هناك طرح لمسألة الشذوذ الجنسي في «رجل الرماد» (نوري بوزيد) وغياب التخطيط الاجتماعي الذي يجب أن يسبق التنمية السياحية في «شمس الضباع» (رضا الباهي) ومشاهد عري في «حلفاوين» أثارت شكاوى لكنها انتمت إلى الموضوع المُثار ولم تفرض نفسها عليه.

10 أفلام تونسية لا غنى عن مشاهدتها

1 - «تونس الليل» - إلياس بكّار (2017)
2 - «الذاكرة الموشومة» - رضا الباهي (1986)
3 - «رسائل من سجنان» - عبد اللطيف بن عمّار (1973)
4 - «ريح السد» - نوري بو زيد (1986)
5 - «صمت القصور» - مفيدة التلاتلي (1994)
6 - «ظل الأرض» - الطيّب الوحيشي (1982)
7 - «العبور» - محمود بن محمود (1982)
8 - «عرب» - الفاضل الجزيي والفاضل الجعايبي (1988)
9 - «الكتبية» - صاحب نوفل (2002)
10 - «الهائمون» - الناصر خمير (1984)


مقالات ذات صلة

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

يوميات الشرق لقطة جماعية للفائزين بمسابقة أفلام البحر المتوسط رفقة المخرج يسري نصر الله (إدارة المهرجان)

غياب منة شلبي عن تكريمها بـ«الإسكندرية السينمائي» يثير تساؤلات

اختتم مهرجان الإسكندرية السينمائي دورته الـ40، وهي الدورة التي عدّها نقاد وصناع أفلام «ناجحة» في ظل ظروف صعبة تتعلق بالميزانية الضعيفة والاضطرابات الإقليمية.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق ‎⁨تضم النسخة الثانية معرضاً يجمع «سلسلة القيمة» في أكثر من 16 مجالاً مختلفاً ومؤتمراً مختصاً يتضمن 30 جلسة حوارية⁩

«منتدى الأفلام السعودي» يجمع خبراء العالم تحت سقف واحد

بعد النجاح الكبير الذي شهده «منتدى الأفلام السعودي» في نسخته الأولى العام الماضي 2023، تستعد العاصمة السعودية الرياض لانطلاقة النسخة الثانية من «المنتدى».

«الشرق الأوسط» (الدمام)
يوميات الشرق ياسمين رئيس مع أسماء جلال في مشهد من الفيلم (حسابها على «فيسبوك»)

فنانون مصريون يتجهون للإنتاج السينمائي والدرامي

انضمت الفنانة المصرية ياسمين رئيس لقائمة الممثلين الذين قرروا خوض تجربة الإنتاج السينمائي من خلال فيلمها الجديد «الفستان الأبيض».

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما يبدأ الجزء الثاني من سجن آرثر فليك.. الصورة من صالة سينما سعودية حيث يُعرض الفيلم حالياً (الشرق الأوسط)

فيلم «الجوكر2»... مزيد من الجنون يحبس أنفاس الجمهور

يخرج آرثر فليك (واكين فينيكس) من زنزانته، عاري الظهر، بعظام مقوّسه، يسحبه السجانون بشراسة وتهكّم...

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق يشجّع المهرجان الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما (الشرق الأوسط)

الشيخة جواهر القاسمي لـ«الشرق الأوسط»: الأفلام الخليجية تنمو والطموح يكبُر

الأثر الأهم هو تشجيع الأطفال والشباب في مجال صناعة السينما، ليس فقط عن طريق الإخراج، وإنما أيضاً التصوير والسيناريو والتمثيل. 

إيمان الخطاف (الدمام)

وفاة الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز... صوت «دارث فيدر» و«موفاسا»

الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز يحمل جائزتين من الإيمي عام 1991 (رويترز)
الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز يحمل جائزتين من الإيمي عام 1991 (رويترز)
TT

وفاة الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز... صوت «دارث فيدر» و«موفاسا»

الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز يحمل جائزتين من الإيمي عام 1991 (رويترز)
الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز يحمل جائزتين من الإيمي عام 1991 (رويترز)

توفي أمس (الاثنين) عن 93 سنة الممثل الأميركي جيمس إيرل جونز، المعروف بإعارة صوته لشخصية دارث فيدر وبمسيرة غزيرة في المسرح والسينما، على ما أعلن مدراء أعماله.

وبالإضافة إلى الشرير البارز في سلسلة «ستار وورز»، أعار الممثل صوته أيضاً إلى موفاسا في فيلم الرسوم المتحركة «ذي لاين كينغ».

وقال الممثل مارك هاميل الذي أدى دور لوك سكاي ووكر في السلسلة الشهيرة لجورج لوكاس، في منشور عبر منصة «إكس»: «ارقد بسلام يا أبي».

وانطبع الصوت العميق لدارث فيدر وجملته الشهيرة «أنا والدك» الذي قالها للوك في أحد المشاهد، في أذهان ملايين من محبي السينما.

وعلى مدى أكثر من 60 عاماً من حياته المهنية، رسّخ جيمس إيرل جونز نفسه كواحد من الممثلين الأميركيين من أصل أفريقي الرائدين في جيله.

وجونز هو أحد الفنانين النادرين الذين حصلوا على كل الجوائز الكبرى في المجال الترفيهي الأميركية (جوائز إيمي للتلفزيون، وجوائز غرامي للموسيقى، وجوائز الأوسكار للسينما، وجوائز توني للمسرح).

ويعود دوره السينمائي الأول إلى فيلم «دكتور سترينجلوف» للمخرج ستانلي كوبريك، الذي أدى فيه دور الضابط زوغ.

ومن بين أدواره البارزة الأخرى دور الملك جافي جوفر في فيلم «كامينغ تو أميركا»، والشرير ثولسا دوم في فيلم «كونان ذي بارباريين»، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

في المسرح، شارك الممثل خصوصاً في مسرحية «ذي غرايت وايت هوب» التي تتناول قصة جاك جونسون، أول بطل ملاكم أميركي من أصل أفريقي في الوزن الثقيل، وفي مسرحية «ذي بلاكس» لجان جينيه إلى جانب الشاعرة مايا أنجيلو.