وليد توفيق لـ «الشرق الأوسط» : «تريو نايت» جرعة أمل وانطلاقة جديدة

الفنان اللبناني وصف وائل كفوري بالأهضم ونانسي عجرم بالأقرب إلى قلبه

وليد توفيق بين أصالة ونانسي عجرم في حفل «تريو نايت» (الشرق الأوسط)
وليد توفيق بين أصالة ونانسي عجرم في حفل «تريو نايت» (الشرق الأوسط)
TT

وليد توفيق لـ «الشرق الأوسط» : «تريو نايت» جرعة أمل وانطلاقة جديدة

وليد توفيق بين أصالة ونانسي عجرم في حفل «تريو نايت» (الشرق الأوسط)
وليد توفيق بين أصالة ونانسي عجرم في حفل «تريو نايت» (الشرق الأوسط)

لم يكن وليد توفيق يتخيّل أنه قد يقف في ليلة من الليالي إلى جانب أصالة ونانسي عجرم ليشاركهما أغنيته «تيجي نقسم القمر». لم يخطر على باله يوماً أن مسرحاً واحداً سيجمعه بنوال الزغبي وعاصي الحلاني ليغنّوا معاً «ما اندم عليك». لكن كل ما حدث في «تريو نايت» ليلة رأس السنة في الرياض كان «فوق الخيال».
عندما وُجّهت إليه الدعوة قبل نحو شهر للمشاركة في تلك الليلة الاستثنائية، رحّب الفنان اللبناني بالفكرة؛ هو الذي نادى سنواتٍ وسنوات بضرورة حدوث لقاء فني جامع كهذا. يقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إنه «لولا (الهيئة العامة للترفيه) في المملكة (العربية السعودية)؛ وعلى رأسها المستشار تركي آل الشيخ، ولولا شركة (روتانا) ما كان ممكناً حصول حدث كهذا. على أرض السعودية ووسط ناسها، تحقّق ما ظننّاه مستحيلاً».
ليست المرة الأولى التي يشارك فيها توفيق في حفل أو أداء غنائي جماعي، غير أنه يصف الـ«تريو نايت» بـ«السابقة»، وبـ«إحدى أجمل ليالي العمر»... «التركيبة التي شهدناها في ليلة التريو كانت جديدة»، يشرح توفيق موضحاً أنه ليس من الاعتيادي أن يجتمع 3 فنانين ينتمي كلٌ منهم إلى جيل ليقدّم أغنية الآخر. ويضيف: «كنا ربما نلتقي لنغنّي لمَن سبقونا، مثل أم كلثوم ووديع الصافي وعبد الحليم، لكن أن أجتمع بنانسي عجرم وإليسا وبهاء سلطان لنغنّي معاً، فهنا يكمن الاستثناء. والممتع في الموضوع أن الفنانين التزموا بتقديم الأغاني حتى وإن لم يحبّوها».
يعود توفيق إلى التحضيرات والبروفات التي استمرت 4 أيام: «تدرّبنا كل يوم نحو 7 ساعات، وكنّا ننتظر بعضنا بعضاً؛ لأن التدريبات كانت جماعية. ولا بد من توجيه التحية هنا إلى الفرقة الموسيقية وقادتها المبدعين الذين قاموا بمجهود كبير». أما الأغاني فقد اختارتها لجنة مشتركة من «هيئة الترفيه» و«روتانا»، «وحتماً كان المستشار تركي آل الشيخ يتابع التفاصيل كلها»؛ على ما يقول توفيق.


وليد توفيق وصابر الرباعي
حلّت الليلة المنتظرة، وفي بدايتها وقف وليد توفيق مع وائل كفوري في الكواليس وهما يرتجفان برداً. خشيا لوهلة من نسيان كلام الأغاني، لكن الطاقة الإيجابية ملأت المكان وأدفأت القلوب. «لم يخلُ الأمر من زكزكات بسيطة بين بعض الفنانين؛ وهذا طبيعي، كأن تحدث اختلافات على أولوية الظهور»، يخبر توفيق؛ الذي افتتح إطلالته مع أغنية «تيجي نقسم القمر»، التي أدّتها معه أصالة ونانسي عجرم. أما هو فأدّى إلى جانب عاصي الحلاني وبهاء سلطان أغنية «واني مارق مريت»، و«ما اندم عليك» مع نوال الزغبي والحلاني، و«اللي تعبنا سنين في هواه» مع جورج وسوف ووائل كفوري. ومن أغانيه الخاصة التي قدّمها كذلك «عيون بهيّة» في ديو جمعه بصابر الرباعي.
تبقى «السعودية يا حبي أنا» الأغنية التي استمتع بأدائها منفرداً على «مسرح محمد عبده»، فلهذه الأغنية قصة طويلة بدأت في أواخر الثمانينات حين لحّنها للفنان طلال مدّاح، ثم أعاد تسجيلها بصوته لاحقاً للتلفزيون السعودي... «سررت عندما تمنى عليّ المستشار أن أقدّم هذه الأغنية»؛ يخبر وليد توفيق. «إضافةً إلى أنها تذكّرني بصديقي الفنان الراحل طلال مدّاح، فهي تُرجعني أيضاً إلى السنوات التي أمضاها والدي وعمّي في المملكة». يضيف: «ولدت هذه الأغنية 3 مرات. كانت الولادة الأولى بصوت المدّاح في لندن، والولادة الثانية بصوتي على التلفزيون السعودي، أما الثالثة فشهد عليها جمهور (تريو نايت) ليلة رأس السنة 2023».
لم يشكّل حفل «تريو نايت» متعةً للجمهور الذي كان مشتاقاً إلى مشهدية عربية جامعة كهذه فحسب؛ بل للفنانين أنفسهم الذين نادراً ما يلتقون في مناسبات مشتركة. يقول وليد توفيق إنه اكتشف في وائل كفوري «هضامة وخفّة دم»: «فرحت به جداً. كلما التقينا أخبرني كيف كان يمسك فرشاة الشعر ويقف أمام المرآة ليغنّي أغنيتي (مغرم بعيونك مغرم) قبل أن يحترف الغناء… استمتعت بأننا تعرّفنا كلانا على الآخر أكثر خلال هذه الأيام الخمسة».
عن نانسي عجرم؛ يقول توفيق إنها تعني له الكثير: «أشعر كأنها ابنتي. في الحفل كانت كالزهرة التي لم تضايق أحداً ولم تتدخل بأحد. أحبها وأحترمها جداً». ويتابع عن زملاء الحفل: «اكتشفت في نوال الزغبي شخصية جريئة وخفيفة الظل ومشاغبة. أما نجوى فهي حبيبة القلب، وأبو وديع صديقي وأكثر من أخي؛ لا يكاد يمر يوم في بيروت من دون أن نلتقي».


وليد توفيق ونانسي عجرم
ما زال توفيق يعيش فرح نجاح تلك السهرة، ويصرّ على أنه لا يريد أن يصغي إلى التجريح والانتقادات. يقول: «كانت ليلة من ليالي العمر، وكنا؛ نحن الفنانين اللبنانيين، حاضرين بقوّة رغم ظروف بلدنا الصعبة. على طريقتنا قلنا إن لبنان موجود وبخير، في الأقل فنياً. اتفقنا على المسرح، وبذلك أنجزنا ما لا يقدر السياسيون على إنجازه». ويتابع: «لا يهمّنا النقد الهدّام. ذهبنا إلى الحفل بملء إرادتنا وحبّنا. أما اللائمون فأسألهم: إذا ظلم الأب ابنَه فاحتضنه الجار واهتمّ به... إلى مَن يذهب الولد؟».
يتحدّث توفيق عن جرح عميق عندما يُسأل عمّا إذا كان الفنان اللبناني بحاجة إلى جرعة دعم معنوي كهذه: «لولا الجمهور وبعض الصحافة، من هو سندُنا في لبنان؟ لا أحد من المسؤولين ينظر إلينا. والدليل على ذلك أن كل الفنانين الذين سبقونا إلى المرض والموت لم يعتنِ بهم أحد». من حفل «تريو نايت» ستبقى فقرة تكريم الفنان الراحل وديع الصافي مطبوعة طويلاً في ذاكرة توفيق: «لحظة رأيت صورته في الخلفية ووقفنا كلنا لنغني (عندك بحريّة)، تأثرت ودمعت عيناي. اطمأنت إلى أن ثمة من سيفكّر في تكريمي بعد موتي».
لكنّ اللحظة ليست للتفكير في النهايات، فحفل الرياض منح توفيق ما يشبه البداية الجديدة: «مع أنني في الفن منذ عقود، إلا إنني أشعر بأنني بدأت للتوّ. وكأن هذا الحفل أعطانا (كارت) جديداً». بهذه المعنويات المرتفعة، يعود وليد توفيق من الرياض إلى بيروت ليباشر تسجيل أغنيته الجديدة من كلمات نزار فرنسيس، وهي ستنضمّ إلى الـ«ميني ألبوم» الذي يحضّره مع «روتانا». وسينطلق بعد ذلك في جولة يتنقّل خلالها بين الولايات المتحدة وكندا.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.