يروي السفير موريس غوردو - مونتاني، في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان «الآخرون لا يفكرون مثلنا» أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين اتصل بـ«صديقه» جاك شيراك، رئيس الوزراء الفرنسي وقتها، عما إذا كانت باريس جاهزة لاستقبال لاجئ سياسي إيراني على أراضيها منذ 14 عاماً، هو الخميني الذي كان يسعى صدام للتخلص منه.
وقبل الإجابة، تشاور شيراك مع رئيس الجمهورية، فاليري جيسكار ديستان. وبينما كان الأول غير متحمس للفكرة، فإن الثاني رحَّب بها، من باب أنه في حال انهيار نظام الشاه محمد رضا بهلوي، ووصول رجال الدين إلى السلطة، فستكون لفرنسا مكانة متميزة لدى النظام الجديد. وبقي جيسكار ديستان متمسكاً بمقاربته؛ إذ إن الخميني حط في مطار باريس يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1978، ودخل أراضيها بتأشيرة سياحية. ومن المطار، انتقل إلى منزل مريح يقع في قرية «نوفل لو شاتو» الوادعة الواقعة على بعد عدة كيلومترات من باريس. ورغم الوعد الذي قطعه بعدم ممارسة أنشطة سياسية، فإن الخميني استغل إقامته في فرنسا لتأليب الإيرانيين ضد الشاه، مستخدماً أشرطة التسجيل المتضمنة لخطاباته النارية.
وفي نوفل لو شاتو، التفت حوله نخب فكرية وفلسفية، أبرزها الفيلسوف ميشال فوكو. ولم تدم إقامة الخميني في فرنسا سوى 117 يوماً، انتقل بعدها إلى طهران على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، استأجرتها الحكومة الفرنسية، وليتسلم السلطة بعد رحيل الشاه عن بلاده بفعل مظاهرات جرارة ودامية. وخطط الرئيس الفرنسي لزيارة طهران، إلا أن هذه الزيارة لم تتم. لكن بالمقابل، قامت بين البلدين علاقات وثيقة، لكنها بدأت بالتدهور سريعاً، بعد أن كشر النظام الجديد عن أنيابه، واستبدل بقمع الشاه قمعاً آخر أكثر عنفاً.
ثمة ملفات سممت العلاقة بين باريس وطهران، أولها ملف «يوروديف»؛ فشاه إيران الذي كان يحلم بصناعة نووية في بلاده، وقّع عقد تعاون رئيسياً مع فرنسا، في عام 1974، يقوم على الحصول على مفاعلات وإنشاءات نووية، وعقداً لتخصيب اليورانيوم من خلال تقديم قرض من مليار دولار إلى شركة «يوروديف»، التي دخل إليها مساهماً بنسبة 25 في المائة؛ ما كان سيسمح له بالحصول على 10 في المائة من اليورانيوم المخصب. بيد أن الخميني في السلطة نقض العقد الأول، وتمسك بالثاني، مطالباً بتسلم حصة إيران من اليورانيوم. ولأن باريس رفضت الطلب، فقد طالب باسترجاع المليار دولار، وهو ما رفضه الطرف الفرنسي لحجج وذرائع قانونية.
ونتيجة ذلك، طُويت سريعاً صفحة التعاون بين البلدين، ودخلا في نزاعات قانونية وسياسية. وما أجج الخلافات بين الجانبين أن باريس لم تتأخر في تمكين معارضين لنظام الخميني من اللجوء إلى أراضيها، حيث وصل تباعا شابور بختيار، آخر رئيس وزراء في عهد الشاه، ولحق به أبو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية الإسلامية، ثم مسعود رجوي، زعيم حزب «مجاهدين خلق»، وكثير من رفاقه في الحزب وأنصاره.
- حرب الخليج الأولى
ومع اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية، وقفت باريس بقوة إلى جانب بغداد التي أمدتها بغالبية الأسلحة المتقدمة، ومنها طائرات «ميراج 1»، وطائرات «سوبر أتندار»، لا بل ثمة مَن يؤكد أن عدداً من الطائرات القتالية الفرنسية وصل إلى بغداد مع أطقمه. وجاء الرد الإيراني من خلال استهداف المواطنين الفرنسيين والمصالح الفرنسية. وما بين عامي 1985 و1986 احتُجز 13 مواطناً فرنسياً في لبنان؛ ما بين صحافي وأكاديمي من قبل منظمات قريبة من إيران، لا بل إن أحد المطالب التي قُدّمت لباريس كان الإفراج عن المليار دولار.
وبالتوازي مع الأعمال الإرهابية ضد فرنسا في الخارج، تواترت العمليات الإرهابية في الداخل الفرنسي، وتحديداً في باريس، في عام 1986 وما بعده. وبعض العمليات كان غرضها الضغط على الحكومة الفرنسية لتغيير سياستها الشرق أوسطية الداعمة للعراق، ومنها كان لهدف محدد هو الحصول على تمكين المواطن الإيراني وحيد غورجي من مغادرة فرنسا. والأخير كان يعمل رسمياً مترجماً للسفارة الإيرانية في باريس. إلا أنه، حقيقة، كان عميلاً للمخابرات الإيرانية، وتوفرت للقضاء الفرنسي وثائق تثبت ذلك. ولما سعى القضاء لاستجوابه، لجأ إلى السفارة الإيرانية للاحتماء بها، الأمر الذي حمل الأمن الفرنسي على وضعها تحت الرقابة. وجاء رد طهران مماثلاً بحق السفارة الفرنسية. وتفاقم التوتر بين الجانبين إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية، صيف عام 1987. ونجحت الاتصالات السرية بين الطرفين في الاتفاق على خطوات متوازية: إطلاق غورجي، والسماح له بمغادرة باريس، ثم الإفراج في نوفمبر عن ثلث المبلغ العائد لطهران، مقابل الإفراج عن مواطن فرنسي في بيروت. وفي الشهر الذي تبعه، حصلت إيران على دفعة ثانية من وديعتها، بينما أُفرج عن بقية الرهائن في لبنان في ربيع العام التالي، ما سمح بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين.
بيد أن تسوية هذه الملفات لم تعنِ أبداً تخلي طهران عن ممارساتها الترهيبية. ففي صيف عام 1991، تم اغتيال شابور بختيار، رئيس «جبهة المقاومة الإيرانية» في ضاحية سورين، الواقعة على مدخل باريس الغربي، كما قُتِل سكرتيره الشخصي. وكانت جرت محاولة أولى لاغتياله في عام 1980، قُتل فيها رجلا شرطة مولجان بحمايته ومواطن فرنسي. ونفذ عملية الاغتيال ثلاثة أشخاص؛ اثنان فرا إلى إيران، والثالث علي فاكلي راد إلى سويسرا، التي اعتقلته وسلمته لفرنسا حيث حُكِم عليه بالسجن المؤبد. واعترف الأخير بأنه كُلّف بمهمة الاغتيال، وقد وُجهت أصابع الاتهام إلى «الحرس الثوري» الإيراني. ولم تتحسن العلاقات بين باريس وطهران إلا مع وصول محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية، في عام 1997، حيث زار باريس والتقى جاك شيراك، رئيس الجمهورية وقتها.
- علاقات متأرجحة
تبين تفاصيل ما سبق صعوبة إقامة علاقات «طبيعية» بين طهران وعاصمة أوروبية كبرى، وهي تتأثر بطبيعة الحال بما هو قائم بين واشنطن وطهران، ومنها اقتحام السفارة الأميركية واحتجاز دبلوماسييها. إلا أن أزمة أشمل بزت برأسها في عام 2002، عندما رجحت صور فضائية أميركية أن إيران تعمل على برنامج نووي، وتسعى للحصول على القنبلة النووية. وكانت باريس السباقة باقتراح زيارة ثلاثية لوزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى طهران «من غير الولايات المتحدة». والزيارة حصلت فعلاً، وجاءت نتائجها إيجابية؛ إذ قبلت إيران التعاون التام مع «الوكالة الدولية للطاقة النووية»، وذهبت إلى حد قبول وقف تخصيب اليورانيوم. بيد أن وصول محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية في عام 2005، وإعادة انتخابه الإشكالية في عام 2009، وتصريحاته النارية إزاء الغرب بشكل عام وإزاء الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل خاص، أخضعت علاقات باريس - طهران، كما الغرب - طهران، إلى حالة من انعدام الوزن والتوتر، ولم تعرف الاستقرار إلا مع انتخاب حسن روحاني في عام 2013. وجاءت الزيارة «التاريخية» التي قام بها وزير الخارجية، لوران فابيوس، إلى طهران صيف عام 2015 لتفتح صفحة جديدة بين الطرفين. وما ساعد على ذلك توصل إيران مع مجموعة الدول خمسة زائد واحد إلى الاتفاق النووي الشهير الذي يؤطر ويحجم البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.
- دبلوماسية «النووي» ودعم الاحتجاجات
أصبحت سردية الاتفاق المذكور وتفاصيلها معروفة. ورغم الدور «الإيجابي» الذي سعت باريس للعبه من أجل المحافظة على الاتفاق ودفع الرئيس الأميركي الأسبق لعدم تمزيقه، ثم لاحقاً سعيها لإيجاد آلية تعوض على طهران خسائرها من العقوبات المستجدة، فإن علاقاتها مع طهران لم تتحسن. ويشكل هذا الملف أحد أهم المواضيع الخلافية بين الطرفين؛ إذ تعتبر باريس أن إيران أجهضت الجهود التي بُذلت في فيينا لإعادة إحياء اتفاق 2015، مع بعض التعديلات، وأنها مسؤولة عن الطريق المسدود الذي آلت إليه الوساطة الأوروبية. يُضاف إلى ذلك أن طهران تحتجز سبعة مواطنين ومواطنات فرنسيين تعتبرهم باريس «رهائن دولة»، وتطالب بالإفراج عنهم «فوراً». كذلك، فإن استقبال الرئيس الفرنسي لأربع ناشطات إيرانيات في قصر الإليزيه، واعتباره أن ما يجري في إيران بمثابة «ثورة» (وهو توصيف ردده عدة مرات) وتنديد فرنسا بالقمع الأعمى الذي تمارسه السلطات، وبأحكام الإعدام المتلاحقة، كل ذلك أشعل العلاقات بين الطرفين. ولاستكمال الصورة، تتعين الإشارة إلى الانتقادات الفرنسية لدور طهران في تزويد روسيا بالمسيرات الهجومية التي تستخدمها الأخيرة في حربها على أوكرانيا. ولا تتردد باريس في التنديد بسياسة إيران الإقليمية التي تصفها رسمياً بـ«المزعزعة للاستقرار»، وهو ما برز بوضوح في خطاب الرئيس ماكرون بمناسبة مؤتمر «بغداد 2» الذي عُقِد في الأردن، حيث هاجم السياسة الإيرانية، بحضور وزير خارجية طهران، وحث بغداد على الخروج من العباءة الإيرانية.
- أزمة الكاريكاتير...
في هذه الأجواء الملتهبة، جاء نشر مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة لمجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية للمرشد الإيراني علي خامنئي، في عدد خاص، أول من أمس (الأربعاء)، في سياق مسابقة أعلنت عنها، دعماً للاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ 16 سبتمبر (أيلول)، عقب وفاة الشابة مهسا أميني، ليشعل النار في الهشيم، وليتسبب بأكبر أزمة بين الطرفين منذ عقود. ولم يتردد وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان عن توجيه تهديدات مباشرة لفرنسا؛ إذ اعتبر أن «العمل المهين والمشين الذي بادرت إليه مجلة فرنسية ضد المرجعية السياسية والدينية، لن يمر دون رد حاسم وفعال».
وجاء في بيان لاحق صادر عن وزارة الخارجية الإيرانية أن طهران «تندّد بعدم تحرّك السلطات الفرنسية المعنية المتواصل في مواجهة معاداة الإسلام والترويج للكراهية العنصرية في الإعلام الفرنسي»، مضيفة أن «الشعب الإيراني يطالب الحكومة الفرنسية بمحاسبة المسؤولين عن نشر الأعمال العدائية الأخيرة والترويج لها ومنع تكرارها»، وسيتابع «بجدية» الإجراءات التي ستتخذها فرنسا. ودعت باريس إلى «مكافحة الإسلاموفوبيا بجدية». وجاءت بدايات الرد الإيراني باستدعاء السفير الفرنسي في طهران للاحتجاج على نشر الرسوم الكاريكاتيرية، ثم إغلاق «المعهد الفرنسي للبحوث في إيران»، الموجود منذ عام 1983.
بيد أن رد باريس لم يتأخر؛ إذ قالت وزيرة الخارجية، كاترين كولونا، في تصريحات تلفزيونية، أمس، إن إيران «تنتهج سياسات سيئة عبر اتباع العنف مع مواطنيها وباعتقال فرنسيين»، كما دعتها إلى الاهتمام بما يجري داخلها قبل أن تنتقد فرنسا. ونوهت كولونا بحرية الصحافة في فرنسا قائلة: «دعونا نتذكر أن حرية الصحافة موجودة في فرنسا، على عكس ما يحدث في إيران، وأن تلك (الحرية) يشرف عليها قاضٍ في إطار قضاء مستقل، وهو أمر لا تعرفه إيران جيداً بلا شك»، مضيفة أن فرنسا ليست بها قوانين تجرم التجديف. وقالت الخارجية الفرنسية، أمس، إنها لم تتبلغ «رسمياً» بإغلاق المعهد المذكور. أما إذا تأكد الإغلاق، فسيكون ذلك «أمراً مؤسفاً».
حقيقة الأمر أن طهران لا تعي مبدأ أساساً معمولاً به في فرنسا، وهو أن الوسائل الإعلامية لا تأتمر بأوامر الحكومة، وأن الدستور والقوانين تحميها من تدخل السلطات. لذا لم تتدخل السلطات سابقاً لمنع نشر وإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد، وسيكون من الصعب عليها التدخل في حالة «شارلي إيبدو» الأخيرة. وجهد الرئيس ماكرون وكبار وزرائه، أثناء وعقب الأزمة السابقة، إلى توضيح أن الدولة لا تتبنى الآراء والرسوم الصادرة في الصحف والإعلام، بل يتعين عليها حمايتها.