رحيل أندريه ميكيل يغلق مرحلة كاملة من الاستشراق الفرنسي الرصين

جمع بين التبحر العلمي الأكاديمي والحساسية العاطفية المشتعلة

أندريه ميكيل
أندريه ميكيل
TT

رحيل أندريه ميكيل يغلق مرحلة كاملة من الاستشراق الفرنسي الرصين

أندريه ميكيل
أندريه ميكيل

بعد ريجيس بلاشير وجاك بيرك ومكسيم رودنسون وروجيه أرنالديز وسواهم، يأتي رحيل أندريه ميكيل لكي يغلق مرحلة كاملة من الاستشراق الفرنسي الأكاديمي الرصين. وربما كان يتمايز عنهم بخصوصية نادرة (ما عدا جاك بيرك)، وهي أنه كان أديباً شاعراً أيضاً، وليس فقط دارساً أكاديمياً رفيعاً. فقد كرس كتابين اثنين لمجنون ليلى! وهذا بحد ذاته كافٍ لتخليده والبرهنة على مدى عظمته وأهميته.
كل من يحب مجنون ليلى أحبه وأحترمه، وأكاد أقول أبجله تبجيلاً. المجنون عندي خط أحمر.
الكتاب الأول صدر عام 1984 على هيئة رواية بعنوان: «ليلى، آه يا عقلي!» وليس «ليلى آه يا جنوني!». ولكن هذه الرواية التي كتبها أندريه ميكيل عن واحد من أعظم شعرائنا ليست خيالية وهمية على الإطلاق. وإنما هي تستلهم بدقة الوثائق التاريخية والحكاية الواقعية لقيس بن الملوح كما وردت في كتب التراث العربي.
ومعلوم أن أشعار مجنون ليلى وقصته ومعاناته تكاد تصل إلى حد القداسة بالنسبة للآداب العربية. على الأقل هذا هو شعوري. وأنا أكاد أرتجف عند قراءتها. فهي من أنقى وأصفى ما صدر عن قرائح شعراء الأمة العربية. وربما كانت الأنقى والأصفى بإطلاق ليس فقط بالنسبة للآداب العربية وإنما العالمية أيضاً.
والواقع أن قصة مجنون ليلى تحولت إلى أسطورة عربية وعالمية في آن معاً. والدليل على ذلك أن أراغون استلهمها وكتب ديواناً على غرارها باسم: «مجنون إيلزا».
أما الكتاب الثاني، الذي كرسه أندريه ميكيل لقيس بن الملوح، فكان عبارة عن دراسة أكاديمية تدخل في دائرة الأدب المقارن بالمعنى الحرفي للكلمة. وهي بذلك تقدم لنا إضاءة جديدة عن إشكالية الحب الجارف المطلق. «فمن لا يقارن لا يعرف»، كما يقول المثل الصيني.
وقد صدرت عام 1996 تحت عنوان: «قصتان من قصص الحب والغرام: من مجنون ليلى إلى تريستان وحبيبته إيزولده»، التي خلدها ريتشارد فاغنر في إحدى أروع المعزوفات في تاريخ الأوبرا.
أندريه ميكيل يطرح أسئلة من النوع التالي: كيف يتجلى العشق في كلا الأدبين العربي والأوروبي؟ هل يعشقون بالطريقة نفسها مثلاً؟ كيف يتجلى الحب المطلق في الشرق والغرب؟ ما أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين أسطورة المجنون وأسطورة تريستان؟
لكي يجيب عن كل هذه الأسئلة نلاحظ أن أندريه ميكيل يجمع بين التبحر العلمي الأكاديمي الواسع من جهة، والحساسية العاطفية المشتعلة من جهة أخرى. بمعنى آخر فإن أندريه ميكيل لم يكن أستاذاً جامعياً فارغ الروح والقلب. لم يكن أكاديمياً صقيعياً. هذا ما أريد التوصل إليه. هذا ما أريد قوله. لا ينبغي على التخصص الجامعي أن ينحصر فقط بالتبحر العلمي البارد إلى حد الصقيع العاطفي. من هذه الناحية كان أندريه ميكيل يشبه غاستون باشلار إلى حد ما. كلاهما كان يكتب دراسات أكاديمية علمية رصينة من جهة، ثم يتفرغ بعدئذٍ للكتابة «الانفلاشية» الحرة من جهة أخرى. لقد جمعا بين العقل والقلب. لقد جمعا المجد المعرفي من كلا طرفيه. أما الكتابة الأكاديمية المحضة لدى أندريه ميكيل فقد تجسدت في أطروحته الضخمة التي نال عنها شهادة دكتوراه الدولة تحت عنوان: «الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي حتى أواسط القرن الحادي عشر الميلادي». وقد صدرت في أربعة أجزاء متلاحقة. كما تجلت في كتابه الكبير عن «الإسلام وحضارته» الذي نال عنه جائزة الأكاديمية الفرنسية. ولا ننسى كتابه القيم عن المأمون وإسلام الأنوار عام 2012.

وقد كرست له فصلاً خاصاً في كتابي «من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي»، الذي سيصدر قريباً عن «دار المدى».
في كتابه هذا المعنون «محاورات بغداد» يعبر أندريه ميكيل عن إعجابه الشديد بالمأمون الذي يعتبره أعظم خليفة تنويري في تاريخ العرب والإسلام. يقول لنا البروفسور ميكيل ما فحواه: «لقد كان الخليفة المستنير المأمون يستقبل في مجالسه الخاصة كبار العلماء والفلاسفة والمثقفين ورجال الدين. ولم يكن يكتفي باستضافة كبار شيوخ الإسلام، وإنما كان يستضيف أيضاً كبار حاخامات اليهود ومطارنة المسيحيين».
وهذا الانفتاح على الأديان الأخرى قل نظيره في تاريخ الإسلام، بل إنه يبدو شبه مستحيل حتى اليوم ما عدا في السعودية والإمارات العربية المتحدة التي دشنت أخيراً «بيت العائلة الإبراهيمية» في أبوظبي كما هو معلوم.
هذا ما فعله المأمون في وقته قبل 1200 سنة بالضبط. عمَ كانوا يتحدثون في هذه المجالس العلمية التي يترأسها الخليفة شخصياً؟ عن موضوعات مهمة جداً وحساسة، كالعلاقة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وأوجه الخلافات والتشابهات فيما بينها. وكانوا يناقشون مسألة السلطة وكيفية ممارستها. وكانوا يتحدثون عن قضايا التربية والتعليم، وعن كيفية تفسير النصوص المقدسة، وكانوا يناقشون أيضاً حتى مسألة الجنس، نعم الجنس!... إلخ.
كانت جلسات حوار من أعلى طراز. وهي تشهد على مدى انفتاح الثقافة العربية الإسلامية آنذاك على العالم الخارجي والثقافات الأخرى. وللأسف فإن هذا الانفتاح لم يعد له وجود بعد الدخول في عصر الانحطاط وإغلاق باب الاجتهاد والإبداع. في السنوات الأخيرة نشر البروفسور أندريه ميكيل بعض الكتب ذات الطابع الشخصي، إن لم نقل السيرة الذاتية. وهذا شيء طبيعي. فالإنسان عندما يقترب من الموت يحب أن يعود إلى الوراء لكي يسترجع خواطره أو ذكرياته. من بينها كتاب يتحدث عن لقطات الحياة اللافتة التي عاشها، وعن اللقاءات التي حصلت له مع بعض الشخصيات المهمة.
هناك لقطات عدة أو لحظات ممتعة مع ديغول، وغورباتشوف، وجاك بيرك، وجمال الدين بن شيخ، وبيير بورديو، وآخرين. ولكن هناك صفحة واحدة أو صفحة وربع الصفحة فقط تحت عنوان: «المجنون». والمقصود بالطبع «مجنون ليلى». وفيها يقول البروفسور أندريه ميكيل إن المجنون شاعر بدوي من الجزيرة العربية، عاش في القرن السابع الميلادي، وإن قصته تؤكد لنا الحقيقة التالية: «وهي أن الحب الكامل مستحيل، ووحده الحب المستحيل كامل». بمعنى أن الحب لكي يكون مثالياً مطلقاً ينبغي ألا يتحقق على هذه الأرض. بمعنى آخر أيضاً «لكي ينجح الحب ينبغي أن يفشل!». ويقول أندريه ميكيل إنه قرأ النصوص العربية القديمة التي تتحدث عن هذا الشخص، نصف الواقعي ونصف الأسطوري، الذي يدعى قيس بن الملوح. وقرأ حكاية غرامه المستحيل مع ابنة عمه ليلى. وهي الحكاية التي ولدت قصائد خالدة تتجاوز كل زمان ومكان. ثم انتهت القصة بالفشل الذريع؛ لأن عائلة ليلى رفضته، فراح يهيم على وجهه في البراري والقفار. وراح يبث لواعج حبه إلى الحيوانات المتوحشة، راح يبثها إلى الطبيعة والكرة الأرضية كلها. وفي أحد الأيام تصل امرأة عجوز تحمل رسالة له. ماذا تقول هذه الرسالة؟ لقد زوجوا ليلى بالقوة لشخص لا تحبه وقد هربت من البيت وهامت على وجهها في الصحراء، وهي الآن قريبة جداً منه. فهل يريد أن يراها؟ بالطبع كان المتوقع أن يركض فوراً للقائها ولكنه لم يفعل. لماذا؟ ماذا قال للعجوز؟ قال لها: «لا أريد أن أرى ليلى؛ لأن ذلك يشغلني عن التفكير بحب ليلى»!
شيء عجيب. شيء لا يكاد يصدق. وهذا يعني أن الحب وهم جبار يخترق القرون. إنه أحلى وهم في التاريخ وأعظم وهم. لا أعرف إذا كنت قد نجحت في شرح الفكرة؛ لأن الحب يستعصي على كل شرح، وخصوصاً إذا كان حباً مطلقاً جارفاً. ولكني متأكد أن الحب المطلق يستعصي على الوصال، بل ويقتله الوصال.
أخيراً، إليكم هذه النادرة التي تعبر عن مدى تواضع أندريه ميكيل وعلمه الجم. لم تتح لي الفرصة للتحدث معه إلا مرة واحدة. كان ذلك بعد وصولي إلى باريس بفترة قصيرة لتحضير شهادة الدكتوراه في النقد العربي الحديث. وكنت قد وجدت الأستاذ المشرف على أطروحتي في شخص البروفسور محمد أركون. ولكن مع ذلك تجرأت على الاقتراب من أندريه ميكيل أمام مبنى الكوليج دو فرانس وسألته إذا كان يقبل بالإشراف على أطروحتي، معبراً عن رغبتي في تغيير الأستاذ المشرف الذي وجدته. فنظر إلي باندهاش شديد، وقال لي بالحرف الواحد: «يا رجل لماذا تريد تغييره؟ أركون أهم مني». وانتهى الأمر عند هذا الحد.
كنت وقتها لا أزال مصاباً «بعقدة الخواجة» كما يقول إخواننا المصريون: أي الانبهار بكل ما هو أجنبي. ولم أكن قد حضرت بعد دروس أركون الشهيرة في السوربون، لكي أعرف مدى أهميته باعتباره مفكراً كبيراً، وخطيباً مصقعاً لا يشق له غبار.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

محمد رحيم... رحيل يستدعي حزن جيل التسعينات

الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)
الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)
TT

محمد رحيم... رحيل يستدعي حزن جيل التسعينات

الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)
الملحن المصري محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

ما أن تم الإعلان عن خبر الرحيل المفاجئ للملحن المصري محمد رحيم، حتى سيطرت أجواء حزينة على الوسط الفني عامة والموسيقي خاصة بمصر، كما أعرب عدد كبير من متابعي «السوشيال ميديا» من جيل التسعينات والثمانينات عن حزنهم العميق لرحيل ملحنهم «المحبوب» الذي يعتبرونه أفضل من عبّر عن أحلامهم وصدماتهم، مشيرين إلى أن رحيله «خسارة فادحة» لعالم الموسيقى والغناء عربياً.

وبدأ الملحن المصري محمد رحيم مسيرته المهنية مبكراً، إذ تعاون مع نخبة كبيرة من النجوم بمصر والعالم العربي، وكان قاسماً مشتركاً في تألقهم، كما صنع لنفسه ذكرى داخل كل بيت عبر أعماله التي تميزت بالتنوع ووصلت للعالمية، وفق نقاد.

الشاعر فوزي إبراهيم والمطربة آية عبد الله والملحن محمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

ومن بين النجوم الذين تعاون معهم رحيم عمرو دياب، ونانسي عجرم، ومحمد منير، وأصالة، وإليسا، ونوال الزغبي، وأنغام، وآمال ماهر، وروبي، ومحمد حماقي، وتامر حسني، وغيرهم.

وقدم رحيم أول ألحانه مع الفنان عمرو دياب أواخر تسعينات القرن الماضي، قبل أن يكمل عامه الـ20، من خلال أغنية «وغلاوتك» ضمن شريط «عودوني»، التي حققت نجاحاً كبيراً وكانت بداية الطريق لأرشيف غنائي كبير صنع اسم رحيم في عالم الفن.

وقدم رحيم، الذي رحل السبت عن عمر يناهز الـ45 عاماً، مع عمرو دياب أغنية «حبيبي ولا على باله»، التي حصد عنها دياب جائزة «ميوزك أورد» العالمية عام 2001.

بدأ رحيم في عصر ازدهار «شرائط الكاسيت»، التي كانت الملاذ الوحيد لمحبي الأغاني وخصوصاً في مواسم الإجازات، وانتظار محلات وأكشاك بيع الشرائط في الشوارع والميادين بمصر كي تعلن عبر صوت صاخب طرح «شريط جديد».

الملحن محمد رحيم والمطربة جنات (حساب رحيم على فيسبوك)

ووفق موسيقيين؛ فإن الملحن الراحل قد نجح في صناعة ألحان يعتبرها جيل التسعينات والثمانينات «نوستالجيا»، على غرار «أنا لو قلت» لمحمد فؤاد، و«الليالي» لنوال الزغبي، و«يصعب علي» لحميد الشاعري، و«ياللي بتغيب» لمحمد محيي، و«أحلف بالله» لهيثم شاكر، و«جت تصالحني» لمصطفى قمر، و«مشتاق» لإيهاب توفيق، و«أنا في الغرام» لشيرين، وغيرهم. لذلك لم يكن مستغرباً تعليقات نجوم الغناء على رحيل رحيم بكلمات مؤثرة.

ويرى الشاعر والناقد الموسيقى المصري فوزي إبراهيم أن «محمد رحيم ملحن كان يتمتع بموهبة فريدة، وألحانه تميزت بالبساطة والقرب من ذائقة الجمهور التي يعرفها بمجرد سماعها، لذلك اقتربت موسيقاه من أجيال عدة».

لم يقم الموسيقار الراحل باستعارة أو اقتباس جمل موسيقية مطلقاً خلال مشواره، بل اعتمد على موهبته الإبداعية، برغم ترجمة أعماله للغات عدة، وفق إبراهيم، الذي أشار في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى «أن محمد منير وصف رحيم بأنه (أمل مصر في الموسيقى)، مثلما قالها عبد الحليم حافظ للموسيقار بليغ حمدي».

محمد حماقي ومحمد رحيم (حساب رحيم على فيسبوك)

«بدأ شاباً وكان يعي متطلبات الشباب»، على حد تعبير الناقد الموسيقى المصري أمجد مصطفى، الذي يقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن «ارتباط جيل التسعينات بأعماله يرجع لكونه نجح في القرب منهم والتعبير عن أحلامهم ومشاعرهم، بجانب ثقافته الموسيقية المبكرة التي حملت أبعاداً مختلفة».

ولفت مصطفى إلى أن «رحيم كان تلميذاً للملحن الليبي ناصر المزداوي، الذي يتمتع بتجارب عالمية عديدة، كما أن رحيم كان متميزاً في فن اختيار الأصوات التي تبرز ألحانه، بجانب إحساسه الفني الذي صنع شخصيته وميزته عن أبناء جيله».

الملحن محمد رحيم والفنان محمد منير (حساب رحيم على فيسبوك)

وكان للملحن المصري بصمة واضحة عبر أشهر شرائط الكاسيت مثل «الحب الحقيقي» لمحمد فؤاد، و«عودوني» لعمرو دياب، و«غزالي» لحميد الشاعري، و«أخبارك إيه» لمايا نصري، و«صورة ودمعة» لمحمد محيي، و«شوق العيون» لرجاء بلمليح، و«وحداني» لخالد عجاج، و«حبيب حياتي» لمصطفى قمر، و«عايشالك» لإليسا، و«جرح تاني» لشيرين، و«قوم أقف» لبهاء سلطان، و«ليالي الشوق» لشذى، و«ليلي نهاري» لعمرو دياب، و«طعم البيوت» لمحمد منير، وغيرها من الألحان اللافتة.

الملحن محمد رحيم والفنانة نانسي عجرم (حساب رحيم على فيسبوك)

من جانبها قالت الشاعرة المصرية منة القيعي إنها من جيل التسعينات وارتباطها بأغاني رحيم لم يكن من فراغ، خصوصاً أغنية «غلاوتك»، التي أصرت على وجودها خلال احتفالها بخطبتها قبل عدة أشهر، رغم مرور ما يقرب من 26 عاماً على إصدارها.

وتوضح منة لـ«الشرق الأوسط» أن «رحيم كان صديقاً للجميع، ولديه حس فني وشعور بمتطلبات الأجيال، ويعرف كيف يصل إليهم بسهولة، كما أن اجتماع الناس على حبه نابع من ارتباطهم بأعماله التي عاشت معهم ولها ذكرى لن تزول من أذهانهم».

الملحن محمد رحيم والموسيقار الراحل حلمي بكر (حساب رحيم على فيسبوك)

وتؤكد منة أن «ألحان رحيم جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية، والقوى الناعمة التي تملكها مصر، وفنه الراسخ هو (تحويشة) عمره، فقد بدأ صغيراً ورحل صغيراً، لكن عمره الفني كان كبيراً، وأثر في أجيال عديدة». على حد تعبيرها.