هل الحاضر امتداد حتمي لصدامات الماضي؟

لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)
لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)
TT

هل الحاضر امتداد حتمي لصدامات الماضي؟

لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)
لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)

منذ عقود من الزمن، يلاحظ كثير من المسافرين المصريين إلى بريطانيا ظاهرة ضابط الجوازات من الأصل الهندي الذي يستقبلهم في مطار هيثرو. كثير منهم لم تعجبهم هذه الحال، كانوا يفضلون وجود «بريطاني حق» في انتظارهم. هناك بالطبع وجهة نظر مقابلة تقر بإيجابية ظاهرة موظفي الجوازات من أصول مهاجرة، فالمقصود منها ربما الترحيب، من خلال الإيحاء بأن المسافر يصل إلى مكان يتقبل الآخر وإمكانية اندماجه بالكامل، إلى درجة منحه قرار دخول الناس إلى البلد الذي تبناه. لكن وجهة النظر هذه لم تقنع كثيرين من المصريين المستائين.
ثم جاء على قمة الحكومة البريطانية نفسها رئيس من أصل هندي (ريشي سوناك)، وقبل ذلك رئيس أميركي من أصل أفريقي (باراك أوباما)، الظواهر التي لا يسهل استيعابها في مجتمعات يتصور معظم الناس فيها هويتهم على أسس قومية مرتبطة بالعشيرة أو الملة الدينية. ثم أتى منظر الفريق الفرنسي في كاس العالم، المكون تقريباً كلياً من أجيال من المهاجرين الأفارقة، ليصدم المصريين؛ على الرغم من أن بلادهم تقع في أفريقيا. وعلى الرغم من أن كثيراً من لاعبي الفريق الفرنسي «يشبهوننا»، فإن بعض التعليقات هنا عن الأصول «الغريبة» للمنتخب الفرنسي لم تختلف جذرياً عن التي يطلقها اليمين المتطرف في أوروبا، والذي ينظر إلى معنى الانتماء القومي من منظور ثقافي مشابه.
لكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى الجماعة القومية، طريقة تسمح بقدر كبير من التعددية في ظل عقد اجتماعي بانٍ للهوية. وهذه نشأت بداياتها الفكرية منذ قرون، حتى وإن لم تتضح تداعياتها بالكامل في الغرب إلا خلال عقد الستينات؛ أي بالتحديد الفترة التي احتدت واكتملت خلالها عزلة معظم العرب عن العالم المعاصر، وبداية السريان الصريح في الاتجاه المعاكس للتطورات الطارئة على الغرب الليبرالي، مع اكتمال سيطرة التسلط السياسي والخطاب القومي القبائلي ثم الأصولي الديني. فاتسعت سريعاً خلال عقود معدودة الفجوة التي كانت قد بدأت في التبلور منذ قرون.
الأفكار التي فاتتنا بالكامل طوال تلك القرون (إلا ربما خلال حقبة محدودة، سرد جوانب منها ألبير حوراني في كتابه الشهير عن «الفكر العربي في العصر الليبرالي»)، بدأت في التكون في بريطانيا القرن السابع عشر، تزامناً مع اندلاع الثورة العلمية. ويمكن إرجاع تبلورها تحديداً إلى مؤلفات الفيلسوف جون لوك عن نظم الحكم، وعن التسامح، والذي كان كذلك فيلسوفاً مهماً لطرق المعرفة العلمية، وصديقاً مقرباً لنيوتن الذي شكلت اكتشافاته البداية «الرسمية» للثورة العلمية: فإذا كان من الضروري إرجاع بداية تلك الثورة لأحداث بعينها، فيجب أن يكون على رأسها نشر نيوتن كتابه عن «الأسس الرياضية للفلسفية الطبيعية» الذي سرد فيه قوانينه للحركة والجاذبية. أما الحدث الآخر الأهم فيجب أن يكون نشأة الجمعية الملكية التي لعب نيوتن فيها دوراً مركزياً، وكان رئيسها قرابة ربع قرن.
من الناحية الفكرية كان لتبيين نيوتن أن العقل البشري يمكنه استيعاب معطيات العالم الطبيعي -في قوانين عامة تربط بين سقوط الأجسام على الأرض وحركة أجرام الكون- تداعيات ثورية ذات عمق ونطاق واسع: فالعقل القادر على مثل هذه الأشياء يجب ألا يكبته ميراث ثقافي تقليدي، ليس من الواضح أنه يصمد أمام النقد، أو أمام المقارنة بما يحدث فعلاً في العالم.
هذا المنطلق يجسد نقيضاً للنظرة التقليدية للعالم التي تحاول إخضاعه لثوابت لها «قدساتها» المتوارثة لدى الجماعة، وتشكل جزءاً مهماً من هويتها. أما من الناحية الاجتماعية المباشرة، فجسدت الجمعية الملكية نواة ومثالاً ونموذجاً للمجتمع المنفتح الذي يقبل الجدل، ويتشكك ويتحقق في كل شيء عن طريق النقاش المستند -فقط- إلى النقد المنطقي والمقارنة بمعطيات الواقع، بصرف النظر عن أي «ثوابت» مسبقة.
من ناحية أخرى، أدت تداعيات التطورات التقنية للثورة العلمية، في مجالات مثل التواصل والمواصلات، إلى تفاقم حجم التعامل بين الأغراب (على عكس الأقارب وأهل القرية الواحدة). هذا التفاقم (كما شرح أمثال إرنست غيلنر بالتفصيل)، أدى بدوره إلى تبلور الهوية القومية الحداثية، المبنية على التركيز على عقد اجتماعي ينظم التعاملات عن طريق لغة اجتماعية توافقية؛ مستندة إلى ما هو مشترك، وملخصة في مبادئ عامة يتفق عليها الناس، كأساس لهوية الدولة ونظامها السياسي، بصرف النظر عن اختلاف خلفياتهم ومللهم.
هذه المبادئ والحقوق الإنسانية العامة أخذت صوراً أكثر دقة وصرامة خلال القرن الثامن عشر الفرنسي، الذي يعرف أيضاً بعصر التنوير النابع عن الثورة العلمية. ثورة نيوتن أثرت في فرنسا بعمق؛ عملية سرد تداعيات نظرياته الرياضية قادها فرنسيون عظماء، مثل لابلاس، ولاغرانج، ودالومبير، وبعضهم كانت له إسهامات فلسفية وسياسية مهمة، ناهيك عن دور أمثال فولتير الذي تأثر بعمق بنيوتن وإنجازاته، وما نتج عنهما من تطورات اجتماعية وسياسية في بريطانيا.
ظل العالم العربي معزولاً عن تلك التطورات، حتى جاءت إلينا في صورة الحملة النابليونية التي جسدت تداعيات الثورة الفرنسية الفكرية، والتي اصطدمت في مصر بعنف مع واقع فكري واجتماعي مغاير تماماً.
صاحب نابوليون في تلك الحملة كوكبة من العلماء. ويمكن ذكر أمثال مونغ وأراغو، وبالذات جوزيف فوريه الذي قاد البعثة العلمية المصاحبة للحملة، ونظم عملية إتمام موسوعة «وصف مصر» وكتب مقدمتها (وهي عبارة عن كتاب كامل)، بالإضافة لكونه أستاذ شابوليون الذي نجح في فك شفرة اللغة المصرية القديمة.
فوريه الذي عمل أيضاً حاكماً لإحدى مقاطعات مصر، كان من أعظم علماء الرياضيات التطبيقية (والفيزياء)، وكان يرى مثل زملائه أنه في بعثة «تنويرية»، تنقل إلى مصر منطق وطرق العلم والفكر العقلاني، في سبيل «إنقاذها» من أوضاعها «المحزنة». لكن عندما اصطدم ذلك مع واقع أن كثيراً من المصريين (خصوصاً المرتبطين بمؤسسات دينية تقليدية)، لم يتقبلوا أهداف هذه «البعثة الحضارية» لم يتردد فوريه في تأييد قمع المقاومة بالقوة.
في مصر، ظلت تداعيات ذلك الصدام التاريخي ممتدة، خلال محاولات التحديث التي تلت الحملة الفرنسية، وخلال وقوع البلاد تحت السيطرة البريطانية، ومع فشل الحركة الليبرالية في ضمان استقرار البلاد واستقلال كامل عن بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وكان رد الفعل السلبي، المبني على أساس قومي أو ديني، فيه شبه كبير من مثيله الألماني فيما قبل: بعد الإعجاب الشديد الذي أبداه مثقفو ألمانيا بمبادئ الثورة الفرنسية، انقلب كثير منهم بعد محاولات الإخضاع الفرنسية لبلادهم؛ حين وقف الفيلسوف فيخت في برلين المحتلة يعطي «خطباً للأمة الألمانية»، وملخصها أنها أمة تتمتع بأساس «روحاني» وأخلاقي اسمي خاص بها، ممتد تاريخياً، ومتواصل عبر الأجيال، ومتفوق عن مبادئ «الكونية» العقلانية التي ترفعها فرنسا، بمنطقها البارد الذي لا يراد منه إلا السيطرة على الآخر، ومحو هويته باسم العقل والعلم.
من المعلوم بالطبع إلى أين أدت مثل ردود الأفعال هذه فيما يتعلق بطبيعة القومية الألمانية، وحتى بعد الإصلاحات الدراماتيكية التي طرأت بعد الحرب هناك رواسب للفكر القومي الألماني تجده حتى الآن في قوانين الجنسية (التي تفضل «عودة» من لديه أصل ألماني لكن أجداده هاجروا منذ أجيال، عمن وُلد في البلد واندمج فيها). على الرغم من أن ألمانيا بها عدد مهول من الهاجرين، فلن تجد كثيراً منهم في فريق الكرة القومي، حتى وإن لم يمنع ذلك الجدل في العالم العربي بشأن الفريق الألماني ونبذه، نتيجة تبنيه مواقف جدلية، على الرغم من «تكوينه التقليدي» نسبياً.
في العالم العربي، انعكست نتيجة التمسك بمفاهيم ضيقة للهوية، تتصور الحاضر امتداداً حتمياً لصدامات الماضي ولصراعات ذات طبع أزلي، في أحكام العزلة المدمرة - فكرياً واجتماعياً ومعلوماتياً- التي أدت إلى أزمات مأسوية، أساسها صدام الإرادة بمعطيات الواقع: المجسدة في الفجوة الفاصلة بين التطلع لاستعادة مكان مناسب في العالم المعاصر، يتناسب مع تصوراتنا عن ماضٍ عظيم، وحقيقة أن لا مجال لذلك في ظل نبذ الأسس الفكرية المحركة له منذ ثلاثة قرون، ومع استمرار استنزاف الموارد باستيراد منتجات الفكر العلمي في ظل العجز المستمر عن استيعاب أسسه النظرية في سبيل توطينه.
لقد أظهرت بطولة كاس العالم الأخيرة كثيراً من الفجوات الفاصلة بين تصور المنطقة العربية للعالم، وما هو سائد في المجتمعات المنفتحة في صور مبسطة، قد تبدو سطحية؛ لكن أساسها يتجذر في مناطق أعمق، تتعلق بأزمتنا التاريخية في العالم المعاصر.
* كاتب مصري



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.