تعزيز جودة الحياة بالثقافة السائلة

بعد تراجع الحواضن العربية وانسداد الأفق

تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)
تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)
TT

تعزيز جودة الحياة بالثقافة السائلة

تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)
تعتبر المؤتمرات والمعارض من الفعاليات التي يروج لها عبر مشاهير منصات التواصل الاجتماعي في السعودية (الشرق الأوسط)

بوسع من يتابع المشهد الثقافي في العالم العربي أن يكتشف ما انتهى إليه هذا المشهد من انسداد في الأفق بدأت بوادره في العقد الأخير من القرن الماضي واستمر خلال العقدين المنصرمين من هذا القرن دون أن تبدو في الأفق بوادر انفراج لما تمر به الحال الثقافية، وإذا كانت جملة من العوامل المتصلة بالوضع العام الذي مرت وتمر به عدد من الدول العربية مسؤولة عن حالة انسداد الأفق؛ فإن ثمة عوامل أخرى أدت إلى ذلك، وهي عوامل تتصل بالتغيير الذي عصف بمفهوم الثقافة ووضعها على منحى تاريخي لا يطال مفهومها فحسب، وإنما يمتد ليطال أدواتها والجهات المنتجة لها والشرائح المستهدفة بما تقدمه من محتوى كذلك.
- تراجع حواضن الثقافة العربية
تكالبت على العالم العربي جملة من الأحداث التي أفضت إلى تقويض دول عربية وساهمت في تقويض كثير من مؤسسات دول أخرى، وهو تقويض طال مؤسسات الدولة كما طال مؤسسات المجتمع المدني والتي كانت محصلة لنضال طويل المدى لترسيخ مفهوم المشاركة الوطنية في النهضة والتنمية على نحو مستقل وموازٍ لما تبذله الدول في هذا الشأن؛ وهذا ما أدى إلى تعميق حجم الخسارة التي عانت منها تلك الدول والشعوب العربية، ولم تكن للمؤسسات الثقافية أن تصمد حين تنهار المؤسسات الداعمة لها ولم يكن لها كذلك أن تصمد تحت وطأة فقدان الثقة في ثقافة لم تستطع أن تحول دون الكارثة التي شهدتها تلك الدول والمأساة التي انتهت إليها تلك الشعوب.

زائران في مكتبة محمد بن راشد التي افتتحت خلال 2022 في دبي (أ.ف.ب)

وإذا كنا نتفق على أن مختلف الأقطار العربية قد ساهمت في إنتاج وصياغة الثقافة العربية المعاصرة بقدر أو آخر، وأن رواد الثقافة العربية المعاصرين ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة ومتعددة، فإن علينا أن نتفق على أن الثقافة العربية المعاصرة تدين بالفضل لثلاث عواصم عربية شكلت الحواضن الثقافية الأكثر إنتاجاً والأعمق تأثيراً، خاصة حين أصبحت منابرها الثقافية من مجلات ومهرجانات ومؤتمرات ودور نشر ومعارض كتب هي المَعين الذي ينهل منه المثقفون العرب، وهي معبرهم إلى ينطلقون منه صوب الآفاق العربية المختلفة، وإذا كانت تلك العواصم العربية الثلاث هي بغداد وبيروت والقاهرة، فإن لنا أن نتخيل حجم الكارثة التي حلت بالثقافة العربية حين عطلت الأحداث والاشتباكات السياسية دور عاصمتين وأضعفت دور العاصمة الثالثة، وإذا كان الغزو الأميركي للعراق وما سبقه من حصار اقتصادي وما تلاه من انفلات أمني وفوضى سياسية قد قوض مفهوم الدولة فقد قوض في الوقت نفسه منابر العراق الثقافية، ومن أهمها مهرجان «المربد» ومجلة «أقلام» ومجلة «المورد»، فتعطل بذلك الدور الذي لعبته بغداد على مدى عقود في تأصيل الثقافة العربية وتحديثها في الوقت نفسه، في الوقت نفسه نجد بيروت التي لم تكد تتعافى من الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى ما يقارب العقد والنصف تقع ضحية لتجاذبات سياسية وصراعات حزبية أفضت إلى خلخلة مؤسسات الدولة وانتهت إلى تعطيل دور بيروت الذي كان بتمثل في جانبين مهمين، جرأة التحديث الذي قادته مجلة «شعر» وكرّسته مجلة «الآداب»، وحركة النشر التي تعرضت لانتكاسة شديدة أفضى إليها الوضع الاقتصادي المتردي من ناحية وتعثر حركة التوزيع نتيجة لتعثر العلاقات اللبنانية بكثير من الدول التي كانت تمثل السوق المستهلكة لنتاج المطابع ودور النشر اللبنانية، أما القاهرة، فإن الشعور بتراجع دورها إنما ينطلق من تقدير عظمة وتاريخية الدور الذي لعبته في تأسيس حركة النهضة في الثقافة العربية؛ مما آل بكبار المثقفين المصريين إلى أن يصبحوا رموزاً ثقافية وقيادات للفكر تركت آثارها على خريطة الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج، وتراجع الدور المصري جاء محصلة لما ترتب على حالة الفوضى غير الخلاقة التي عانت منها مصر في أعقاب ما أطلق عليه الربيع العربي وأسفر عن وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة؛ مما اضطرت معه مصر إلى خوض ثورة مضادة بدأت بعدها تستعيد مؤسساتها المدنية التي بدأت خلال حكم تلك الجماعة طابعاً آيديولوجياً، وتستعيد بذلك دورها الثقافي التنويري شيئاً فشيئاً.

الحواضن الثقافية والمهرجانات والمؤتمرات ومعارض الكتب باتت المَعين الذي ينهل منه المثقفون العرب (الشرق الأوسط)

تراجع دور الحواضن الثقافية العربية التي يؤثَر عن طه حسين ذات يوم أن قال عنها «القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبغداد تقرأ»، واهتزت ثقة المثقفين بثقافة عجزت عن أن تجنّب أوطانهم ما تعرضت له من كوارث، أو تركتهم على هامش الأحداث يقفون منها موقف العاجز عن فعل شيء، وانشغل المواطن العربي بقضايا أمنه واستقراره وقوت يومه ولم يعد لديه من الوقت والاهتمام ما يمنحه لثقافة أصبحت مجرد ترف، وإن لم تكن كذلك فهي ثقافة لا تمنحه أمناً ولا تسد له رمقاً.
- انزياح مفهوم الثقافة
لم تتأثر الثقافة بما عصف بالعالم العربي وحواضنه الثقافية من أحداث فحسب وإنما تعرّضت لما يشبه الزلزال الداخلي الذي أفضى إلى زحزحة مفهومها وتغيير أدواتها والمنتجين لها والشرائح التي تستهدفها. وقد تمثل هذا الزلزال في وسائل التواصل المتعددة والوسائط التقنية المختلفة، ولم تكن الثقافة التي أفرزتها هذه الوسائل والوسائط إضافة إلى الثقافة المؤسسة أو الثقافة التقليدية بمفاهيمها وأدوات والفئات المنتجة لها بقدر ما كانت زحزحة لها وطرحاً بديلاً يفتقر إلى العمق، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك القدرة على الانتشار، بديل سهل يتصل بالحياة اليومية وينأى عن القيم العليا للثقافة وما قدمه روادها عبر العصور من فنون مختلفة، لم يعد جمهور القراء يتداولون بينهم الحديث عن روايات نجيب محفوظ وقصائد الجواهري ومقالات العقاد ومغامرات تجربة مجلة «شعر»، أقصى ذلك الزلزال المتمثل في الوسائط ووسائل التواصل الثقافة الجادة وزادها عزلة ولم يعد ثمة نور يلوح في آخر النفق الذي وجدت نفسها فيه.

كلية الملك فهد الأمنية تشارك في معرض الكتاب الدولي في جامعة الملك فيصل بالأحساء (واس)

- الثقافة وتعزيز جودة الحياة
واكب هذا الانسداد في أفق الثقافة العربية وتراجع دور حواضنها والتغيير الذي مسّ مفاهيمها وأدواتها والمنتجين لها بروز الدور السعودي على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد تحقق لها ذلك نتيجة لحالة الاستقرار التي شهدتها المملكة وسياسة التوازن التي اعتمدتها؛ فنجت بذلك مما عصف ببعض الدول العربية من غزو وحصار وتخبط سياسي وحالة من الفوضى التي أعقبت ما عرف بالربيع العربي. وقد تعزز الدور الثقافي للسعودية في أعقاب المواجهة الحاسمة للاتجاه الديني المتشدد وتخلصها مما كرسه تيار الصحوة من انغلاق وتوجس من الآخر وريبة في كثير من الفنون ومصادرة للعديد من الأنشطة، مكّن التغلب على الفكر المتشدد والمتطرف من إطلاق قدرات وإمكانات المجتمع السعودي وحرره من مخاوفه وما كان مفروضاً عليه من قيود وحققت له القرارات والأنظمة التي كانت تصدر على نحو متوالٍ ومتصاعد فرصاً عديدة للاستمتاع بجودة الحياة التي ظل محروماً منها على مدى عقود كان التعليم فيها يطال كثيراً من الأنشطة الثقافية، وعلى رأسها دور السينما وقاعات الموسيقى وحفلات الغناء.

زوار لمعرض الكتاب في جدة (واس)

ربطت استراتيجية وزارة الثقافة في السعودية الثقافة بجودة الحياة فتوسعت دوائرها ومجالاتها، وتعددت منابرها وكثرت الجماعات المنتجة لها وتوسعت دوائر المتلقين لها، ضمت تحت جناحها كثيراً من الفنون التي كانت مهمشة رغم أنها تشكل عناصر مهمة من شأنها أن تساعد في توفير حياة كريمة للإنسان.
لم يعد مفهوم الثقافة قاصراً على الفكر والأدب بفنونه المختلفة، لم تعد الثقافة قصيدة أو قصة قصيرة أو رواية، لم تعد محدودة فيما يمكن أن يعرف بالثقافة الصلبة، أصبحت الثقافة ثقافة تعنى بالأزياء وفنون الطبخ والموسيقى والغناء والمسرح والسينما والتراث الوطني والفنون الشعبية، أو ما يمكن اعتباره «ثقافة سائلة» تنسرب داخل النسيج اليومي للحياة العامة، وكانت رسالة تلك الاستراتيجية واضحة: جودة الحياة تتحقق من خلال هذه العناصر المتعددة إذا ما ارتقينا بالنظرة إليها ومنحناها حقها من الاهتمام والعناية، وعندها يمكن لها أن تصبح البديل لما بات ينتشر في مواقع التواصل من ثقافة زائفة أو ثقافة هشة على أحسن تقدير.
- أفق التوقع
في هذا الإطار يكون بإمكاننا أن نستشرف آفق ثقافة 2023، فنرى فيه تعزيزاً لمفهوم الثقافة السائلة وارتقاءً بقيمتها وتكريساً لدورها في توفير جودة الحياة بينما ستشهد الثقافة الصلبة استمراراً في التراجع باستثناء جهود فردية تقدم نتاجاً ثقافياً جيداً غير أنه يظل محدود الأثر وغير قادر على إعادة صياغة وعي المواطن العربي فضلاً عن المساهمة في إخراج الوطن العربي من مأزقه التاريخي الذي انتهى إليه.
 

*مثقف وشاعر سعودي


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.