عُرضت الحلقات السبع من مسلسل «ضوّي يا نجوم»، (إم تي في)، للفت الانتباه إلى ما ليس مسموحاً التغاضي عنه: علاج الأطفال الموجوعين. في لبنان؛ تُفقَد الأدوية ليغادروا كالعصافير المرتجفة. يطرحون الأسئلة ويرحلون؛ عن العالم الآخر، وحجم الشوق للأمهات، وأين يختفي الألم. تختنق أصواتهم ليصدح نداء يردع موت الطفولة بحرمانها الطبابة الكريمة.
تورُّط المسلسل في حوارات طويلة، وتواضع الأحداث، يعوّضهما نبل يشكل حلاوته. كاتبته ديديه فرح مِن حملة القلوب النظيفة والمملوءة برجاء كبير. تكتب بحب أطفال صنعت من أجلهم برامج مفيدة ومسلية؛ وصلابة مَن رافقتهم في امتحان المرض والشفاء. نصها يرفع الصلاة بإيمان منتظر الاستجابة. فهو إن أكثر الكلام وغرق بعض الشيء في الرتابة، فذلك لا يحجب نقاء المناجاة وصفاء النية.
الأسئلة صفعات يرتكبها مَن لا يملكون أجوبة تهدّئ تخبّط الأعماق، ويلقونها على من هم بدورهم تائهين في عذاب السبب والنتيجة. الكبار والأطفال، أحياناً، ارتباكٌ واحد وفوضى واحدة. توحدهم حاجة إلى مبررات تُذلل الالتباس المُعقد، كالموت وما يسبقه ويليه، كالمرض والحكمة منه، خصوصاً حين يفترس الأبدان الطرية.
يمنح النص والكاميرا (إخراج داني جبور) الإعلامية إليز فرح باسيل دور الأم المحملة بأكثر من سؤال، فالمستسلمة بالإيمان لمشيئة الله. لم تمت طفلتها بالمرض فحسب؛ بل بـ«لعنة العلاج». 8 سنوات من عمر البراءة على الأرض، فارتفعت لتقيم في السماء. تُفقَد الأدوية أو تُخبَّأ أو تُحتكر في السوق السوداء، لتكون الضريبة وجعاً يفوق طاقة استيعاب الصغار، فيقسو الكبار على رغباتهم ويجرونها نحو اشتهاء موت المعذبين على الأسرَّة؛ حلاً وحيداً لتستكين الآلام.
الصرخة عظيمة في زمنين: الميلاد، والصمت المتواطئ مع القتلة. العيد ليس شجرةً ولا هديةً ولا عشاءً فاخراً توثقه صور «إنستغرام». هو إنسان بفقره وجوعه ومرضه وتشرّده وأمنياته المعلّقة. وهو طفولة من العار حرمانها الدواء وسوقها إلى التراب بعد استحالة تحمل ما ينهش الجسد ويسلم الروح للهلاك.
زمن آخر هو إعلان اليأس واعتياد السكوت عن الحق، يقف في وجهه يورغو شهلوب بدور الإعلامي «وسام»، فيحمل قضية الأطفال الموجوعين إلى الرأي العام ويحرضه على التحرّك. من خلاله؛ يُمنح الإعلام اللبناني إشادة بقدرته على التأثير وجرّ المزاج إلى التآزر الإنساني واستنهاض الأيادي البيضاء. يريده المسلسل صوتاً لا يذهب أدراج الريح، ونداءً لا يرتطم بآذان صماء... لعله يبلغ من يجدر بهم تحمل المسؤولية، وما أكثرهم في الحُكم، لكنهم الغافلون وأموات الضمير.
إليز فرح تطغى بأمومتها. هي هنا أم حقيقية، أكثر منها ممثلة للمرة الأولى. يأتي يورغو شلهوب بما يختزنه من عفوية تحلي نجوميته، ليضيف درجات نحو الارتقاء بالخير العام. طرفا الأنوثة، على ضفة أخرى، يسهّلان المهمة: بياريت قطريب بشخصية «ميرنا»، مديرة العلاقات العامة في المستشفى؛ وألين شمعون بدور الممرضة «سينتيا».
الرباعي يحتفلون بعطاء لا ينتظر مقابلاً. تثقلهم هموم الآخرين، وما يُهوّن هو نُبل الوقوف في الصفوف الأمامية لتلبية الواجب. فيرتدي يورغو شلهوب ثوب «بابا نويل» ليفرّح الصغار رغم أنابيب تعرقل حركتهم وأنفاسهم. يمنحهم الحب قبل الهدية، والأمان قبل صيحة الـ«هو هو هو». وتتنهد بياريت قطريب لفرط الإحساس بالحِمْل، وأمامها أطفال يموتون في بلاد قاتلة. ترفض الهزيمة وتجتهد لإيجاد حل. وتصور ألين شمعون اللحظات الأخيرة لاحتضار طفلة تتساءل؛ وهي تعانق الرجل بالبزّة الحمراء واللحية البيضاء الطويلة، عن مصيرها بعد الانطفاء.
أطفال المسلسل هم أيضاً نجوم بإخلاصهم للشخصيات وبراعة تَلبُّس الألم. تحمّلوا مناخاً مُنهكاً على الأعمار الصغيرة. لا لطافة بالتصوير في مستشفى وتشرُّب مزاج الأمصال وحديث الموت. قاسٍ على الطفولة التعرّض لاحتمال الفراق الأبدي. ومُتعب استحضار السرطان بجرأة، ودسّ اليُتم في التركيبة، فلدى الطفلة لا تستكين أوجاع المرض، فيضاعفها شعورها الفظيع بالوحدة والنوم بلا أهل كل ليلة.
ما يؤخذ بيد، يُعطى بالثانية. فإليز بفقدانها ابنتها تشاء احتضان طفلة اليُتم؛ شيئاً من عزاء لأمومتها بعد فيضها وحاجتها إلى كائن بريء ينتشل الفيض من الإهدار ويُجمّل الغَرْف منه. وتنال أيضاً ما تبدو بدايات الحب، بعد تخلّي الزوج وهروبه، فيَحدث عوض هو بلسمة ورحمة إلهية.
تخطّي تكلفة علاج وحيدتها الـ6000 دولار شهرياً، في بلد ينهبون فيه حليب الأطفال ويُخضعون المريض لجراحة بلا مخدر، فيتحمل آلاماً مُضاعفة، يفرض التحرك قبل فوات الأوان. الخسائر فادحة، تطال الأرواح وتُبقي الغصة مدى الحياة. خيار إليز العودة إلى المستشفى بعد عام على رحيل طفلتها، فتساعد وتلملم الآهات، هو من أجل الملاك المُنتقلة إلى عليائها، ومن أجلها إنسانةً تتوه منها الجدوى لولا مد اليد للغير ومواساة المحتاجين.
أكثر ما يؤلم هو أقسام الأطفال في المستشفيات، ومع ذلك يلقنون الكبار درساً في الصبر. صغار يتساقط الشعر عن رؤوس تحتضن أحلامهم الجميلة، وتتسبّب العلاج؛ إن توافر، بنوبات غثيان ثقيلة. يا للهول وهم يجيدون التحمّل فيكبرون قبل الأوان! بارعون في الشجاعة... يرفضون مغادرة الأمل. مرعب الموت اللبناني؛ لا يشفع بأحد.