تحتفي المجموعة القصصية «شخص حزين يستطيع الضحك» للقاص: صابر رشدي الصادرة أخيرا عن دار «بيت الياسمين» بالقاهرة بالحضور الإنساني في أقصى لحظات نصوعه وهشاشته، وتلعب على أوتار حزنه وفرحه في الواقع المعاش وتداعياته على شتى المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
تضم المجموعة 18 قصة، تتنوع أفكارها وموضوعاتها، ولكن يربط بينها جميعا رشاقة الأسلوب واللغة المحكمة، وأيضا مجهولية الشخصيات وعدم تسميتهم من قِبل المؤلف، وكذلك الأماكن على تنوعها واختلافها، فالقصص لا تخص شخصيات أو أماكن، بل تخص الإنسان في أي مكان، حيث يسبح السرد في مدارات متأملة في الكون، متسلحا بخبال جامح، يستعيد الحلم بقوة الذاكرة والعكس أيضا. كما يبرز في مناخات القصص الإحساس بالتوجس والترصد ومحاولة الاستقواء بالضعف الإنساني، كمحطة أخيرة للأمل، وهو ما يتجسد على نحو ما في قصة «لا تخف»، والتي تحكي عن شخص يعاني من الخوف والتوجس والإحساس الدائم بالمراقبة ممن هم حوله، ويشعر بأن هناك من يبغي قتله والتخلص منه. كل هذه الوساوس تدور في مخيلته ولا توجد حقائق تؤكدها في الواقع، فهو يعيش حالة «ضبابية» تحجب عنه الرؤية، تجعله يرى من خلالها الناس من حوله «أشباح».
كما يبدو الحلم وسيلة للهروب من الواقع في الكثير من القصص، مثل: (ضوء شفيف - ديالكتيك) ففيهما تتقاطع أحلام اليقظة والخيالات مع الواقع، ويكون اللجوء إلى الحلم وسيلة للهروب من الواقع العسير على الفهم. ففي قصة «ضوء شفيف»، الشخص هنا دائمًا ما كان يرى محبوبته في منامه، ولكن هذه المرة يراها حقيقة ماثلة أمامه، ويقع في حيرة وتخبط بين الحلم والواقع، ولكنه يستيقظ من أحلامه على فراغ الغرفة واختفاء الحبيبة وخفوت صوت الموسيقى التي كانا يرقصان على أنغامها. بينما تعتمد قصة «ديالكتيك» تعتمد من عنوانها على الجدل والحوار الذي يدور بين رجل وامرأة، وكذلك على كشف المتناقضات في المجتمع لمحاولة تجاوزها، وتختلط أحداثها بين المنام واليقظة، في سرد رائع برع فيه المؤلف.
ويسيطر الهم بالفلسفة على أغلب أجواء قصص المجموعة، ومنها قصص (الرجل الذي اكتشف الطمأنينة - ساعة يد ثمينة - ثعابين ملونة - الرومانسي الأخير - شخص حزين يستطيع الضحك - كم أنتِ جميلة - دروب - إصبع على الزناد)، فثمة شذرات وموتيفات فلسفية تستبطن روح السرد، وتشف بسلاسة وانسيابية. ففي قصة «الرجل الذي اكتشف الطمأنينة»، حيث نواجه بشخص «مخبول»، يظن نفسه عالمًا يعكف على تجارب معملية وهمية: «فكم تمنى أن يبقى العالم مُضاءً بصورة دائمة ولا يزول النور عن الوجود»، إنها محض خيالات وأوهام وانتصارات كاذبة خادعة، ينشد من ورائها أن ينضم لزمرة العلماء الذين خلدهم التاريخ ولكن كلها تجارب فاشلة يعيشها وحده، بطموحات عاجزة وقدرات محدودة، من دون مبالاة ممن هم حوله الذين يعانون من حالة الهوس التي اعتادوا عليها. وفي قصة «ساعة يد ثمينة» يتخذ السرد منحى جديدا في قصص المجموعة، فبطل القصة شخص متأمل للحياة، يرضخ لمشيئة القدر وما يرسمه لنا من خطوط وتصاريف دون تدخل منا وإن كنا نغفل ذلك.. وتطرح قصة «الرومانسي الأخير» علاقة غير سوية بين شخص يشعر دائما بالدونية تجاه محبوبته، وعدم الثقة في نفسه، فيلجأ إلى الرومانسية متوهما أنها الحل، لكن الفتاة تنجذب إلى شاب آخر عادي صادق تشعر معه بأنوثتها وجمالها. أما قصة «شخص حزين يستطيع الضحك» عنوان المجموعة، فتحكي عن شخص يعيش حياة بائسة وحيدًا في غرفة فقيرة، يشاركه فيها أعقاب السجائر وفأر يتجول في الغرفة على حريته دون أن يعيره اهتماما! ذاته مشوشة خربة، الأسى والحزن لا يفارقانه، حتى عندما انفجر في نوبة ضحك، كانت على تصرفه في دورة المياه عندما قام بفك أزرار القميص بدلاً من السروال: «وأخذ يضحك كثيرًا، حتى انهمرت كل الدموع الحبيسة من عينيه، وراحت تنساب ساخنة فوق وجهه، ثم تتقاطر فوق جسده الهزيل دون توقف». بينما يتدفق السرد بتلقائية، مكثفا معاناة الشخص الحزين من زوايا كثيرة.
وتلعب قصص أخرى على الهوس بالجمال الأنثوي وكيف يتحول إلى نقمة تطارد صاحبته، كما تلعب بعضها على وتر الموسيقى وتأثيرها على النفس والارتقاء بالوجدان والإحساس، مثل قصة «دروب»، وذلك من خلال الشخص الذي يسير بين الحقول ويغني جذلاً، منتشيًا بصوته العذب، حتى يشعر أن الكائنات من حوله تهتز على نغمات صوته وموسيقاه ابتهاجًا وفرحًا، ويشعر هو بسعادة داخلية تغمره وتبعث في قلبه السرور. وتدور قصة «إصبع على الزناد» من خلال هذا الشخص / القناص، الذي يجمع بين الشتيتين، الرومانسية والقتل: «إنها معادلة صعبة ومعقدة قليلاً، حيث يحاول الموازنة بين وعيه السياسي ووعيه الفني، وألَّا يرجح كِفة على الأخرى ويخسر أحد جناحيه» وهنا يحيل المؤلف القصة إلى الإيحاءات والرمز، فيمكننا القول إنها ترمز إلى الدول الرأسمالية / أميركا بوجهها القبيح وإثارتها للفتن وإشعالها للحروب بين الدول تحقيقًا لأهدافها ومصالحها، بينما تدعو إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان!
وتتسم بعض القصص بنزعة صوفية، تتخذ من التأمل مناورة للسرد، مثل قصص (الطيور - نقوش البن - نبوءة - غرفة أعلى البناية - من أنت؟! - إغواء) حيث النزعة الصوفية ومحاولة كشف ستار الحُجب. قصة «الطيور» تتناول التأمل في مخلوقات الله والطبيعة من حولنا والإحساس بجمالها وروعتها، وعظمة صنعته، مما يؤدي إلى رقي المشاعر وصفاء الروح وسموها، فالتأمل يعتمد على نور البصيرة. قصة «نقوش البن» رغبة في قراءة المستقبل، وكشف الغيب، يلجأ الشخص إلى قراءة الفنجان والتي خَبَرها من جدته لأبيه وأضاف هو إليها التحليل النفسي لإبعادها عن قائمة الخرافات، حتى أنه كان واثقًا من عودة معشوقته «المتخيّلة» كما أخبره طالعه في الفنجان: «لن تحتملي الفراق طويلا. سيقهرك الحنين. وستعودين حزينة، ثم تدخلين في رحلة أخرى، سيتم طي الماضي من أجلها». وتحكي قصة «نبوءة» عن محنة يمر بها الشخص بطل القصة، الذي يشعر بالكرب وتحاصره الهموم: «فحلقه أفسدته المرارة وذائقته لم تعد تستسيغ أي شيء»، ولكنها كانت ببصيرتها دائمًا ما تبشره بقرب الفرج وإزاحة هذه الغمة: «رحمته آتية لا ريب فيها».
وتفارق هي الحياة وتتحقق نبوءتها، ولكن يشعر أن سعادته منقوصة، فقد كان يتمنى أن تكون بجانبه في هذه اللحظات. وحول التأمل في الذات واللجوء إلى الوحدة والاعتكاف. وفي قصة «غرفة أعلى البناية»، والتي يتخذها الشخص صومعة يخلو فيها إلى نفسه بعيدًا عن العالم من حوله بضجيجه وصخبه، فيخلد إلى الهدوء والراحة. تتحول الغرفة إلى بناية نورانية تسطع بالبهاء: «فلم يجد أمامه غير الاحتفاظ بما يجري سرًّا وكتمانه عن البشر، حتى لا يخبو هذا النور الساطع وتختفي من حياتهم الإشرافات البهية إلى الأبد». عن كرامات الأولياء الصالحين وكشفهم لحجُب الغيب، وعالم اللامعقول، أيضا تحكي قصة «من أنت؟!» عن الشخص البائس الذي يلازم رصيف المستشفى: «وتطلعت إليه مرة أخرى، فوجدت أمامي وجهَّا صادقَّا، وملامح عكست لدي ارتياحًا عميقًا وطمأنينة كاملة»، تتوالى كرامات هذا الرجل وتجلياته التي لا يستطيع العقل استيعابها، فهي تفوق قدراته على الفهم: «كان الأمر فوق طاقتي وقدرتي الضئيلة على الاستيعاب، غاب الواقع عن ذهني ولم يعد هناك شيء آخر مثار اهتمامي».
ولا تخلو قصص المجموعة من جو ساخر خاص يتمتع به الكاتب، مثلما في قصة «موت على الهواء»، فالبطل شخص غاوي شهرة، لكنه فاقد لأية موهبة، ومع ذلك طَرَق جميع السُبل التي تحقق له هذه الشهرة: مشاهدة مباريات الكرة في الملاعب - الصلاة بالمسجد الذي سيذيع التلفزيون الصلاة على الهواء - حضور المآتم لأصحاب الحظوة التي ستزدحم بالشخصيات الشهيرة في المجتمع وستقوم بتغطيتها الكاميرات - الغناء آملاً أن يصبح مطربًا مشهورًا - دخوله مجال السينما، حتى يخوض غمار السياسة فتكون نهايته كما يصفها المؤلف: «ففي لحظات قليلة تم إيقاف زحفه البريء والمتواصل تجاه المنصة، بوابل من الرصاص ثقب كل جزء من جسده النحيل» إنها ابتسامة ممزوجة بالشفقة على هذا العاشق الذي لقي حتفه تحت أضواء الهوس بالكاميرات.
قصص تحتفي بالحضور الإنساني في نصوعه وهشاشته
صابر رشدي ينوع مناخاتها في شخص حزين يستطيع الضحك
قصص تحتفي بالحضور الإنساني في نصوعه وهشاشته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة