يقدر علماء غربيون في العلوم الوبائية أن تؤدي الموجة الفيروسية التي تجتاح الصين منذ أسابيع إلى ملايين الوفيات في الأشهر المقبلة بعد القرار الذي اتخذته السلطات الصحية بطي صفة استراتيجية «تصفير كوفيد» التي كانت قد اعتمدتها منذ بداية الجائحة، وفرضت بموجبها تدابير احتوائية صارمة ساهمت في الحد من عدد الإصابات، لكنها تسببت مؤخراً في احتجاجات شعبية واسعة أجبرت الحكومة على التخلي عنها واعتبار متحور «أوميكرون» بمثابة «زكام ناجم عن الإصابة بفيروس كورونا»، بعدما كانت تشدد على خطورته، وتنتقد البلدان التي قررت رفع جميع القيود والتدابير الاحتوائية والتعاطي مع الإصابات الناجمة عن المتحور الجديد كغيرها من الحالات العادية التي تتسبب بها الفيروسات التنفسية.
وفيما يعترف خبراء منظمة الصحة العالمية أن تقديراتهم حول استدامة سياسة «تصفير كوفيد» في الصين كانت خاطئة جزئياً «لأنها لم تأخذ في الاعتبار المشهد المناعي العام»، كما يقول أحد المسؤولين في المنظمة، يرى أخصائيون في العلوم الوبائية أن الاستراتيجية التي اعتمدتها بكين لمواجهة الجائحة افتقرت لعنصرين أساسيين كانا السبب في وصولها إلى الطريق المسدود، والاضطرار للتخلي عنها تحت وطأة النقمة الشعبية التي بلغت ذروتها مطالع هذا الشهر، وأجبرت السلطات للجوء إلى الجيش لقمعها: الأول، التغطية اللقاحية المتدنية في أوساط المسنين والفئات الضعيفة، والثاني، ضعف القدرة المناعة التي تولدها اللقاحات الصينية وقصر فترة فاعليتها، فضلاً عن عدم جهوزية المنظومة الصحية لمواجهة موجة وبائية واسعة كهذه.
وتفيد شهادات لبعض المواطنين الأجانب الذين يعيشون في الصين منذ بداية الجائحة بأن المشهد السائد في الأيام الأخيرة، بعد إلغاء قيود العزل والاحتواء، يوحي بأنهم في بلد آخر، حيث أصبح بإمكانهم التنقل بحرية من غير الخضوع للمراقبة الصارمة والإقامة الجبرية في المنازل عند تعرض أحد المساكنين أو الجيران للإصابة بالفيروس.
في غضون ذلك تتحدث مصادر مطلعة عن تعرض ما يزيد عن 20 في المائة من سكان الصين، البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، للإصابة بمتحور «أوميكرون» في الأسابيع الثلاثة الأولى من الشهر الحالي، وتسجيل 37 مليون إصابة جديدة يوم الخميس الفائت استناداً لتسريبات عن اجتماع مغلق عقدته لجنة الصحة الوطنية. لكن السلطات الرسمية لم تعلن سوى عن وفاة 13 مصاباً بـ«كوفيد» منذ بداية هذا الشهر، في الوقت الذي تقدر الأوساط العلمية الأجنبية بأن عدد الوفيات قد يزيد عن خمسة آلاف منذ بداية الموجة الجديدة، وتتوقع أن يصل إلى الملايين في الأشهر القليلة المقبلة.
ويقول المتابعون لوسائل التواصل الاجتماعي الصينية، إنه بعد أن كان الناس منذ أيام قليلة نادراً ما يتحدثون عن معرفة أشخاص مصابين بالفيروس، أصبح من الصعب اليوم أن تقع على شخص يقول إنه لم يتعرض بعد للإصابة.
وتفيد البيانات الرسمية الصينية بأن نسبة التغطية اللقاحية تتجاوز 90 في المائة من عدد السكان، لكن نسبة البالغين الذين تلقوا الجرعة الإضافية ما زالت دون 60 في المائة، وتتدنى إلى 42 في المائة فقط بين الذين تجاوزوا الثمانين من العمر.
ويؤكد الخبراء في العلوم اللقاحية أن فاعلية كل ثلاث جرعات من اللقاحات الصينية تعادل فاعلية جرعة واحدة من لقاحات الحمض النووي الريبي (RNA) التي ليست متوفرة في الصين. تجدر الإشارة إلى اللقاحات التسعة التي تنتجها الصين وتمت الموافقة على استخدامها، لم يعدل أي منها لمكافحة متحور «أوميكرون» الذي يتسبب في الموجة الوبائية الجديدة التي يصفها البعض بأنها تسونامي فيروسي على أبواب الصين.
وتنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام مشاهد لمستشفيات مكتظة بالمرضى، وأروقة تزدحم بالأسرة، ومسنين يتلقون الأكسيجين عبر وسائل شبه بدائية، وتذكر بأسوأ مراحل الجائحة في بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا.
ويقول الأطباء والعاملون في مراكز دفن الموتى إن الوضع صعب جداً، وإن قدرات العاصمة تتعرض لضغوط غير مسبوقة. وكان التلفزيون الرسمي الصيني قد نبه أمس إلى أن عدد المرضى الذين يعالجون في المستشفيات تضاعف أربع مرات عما كان عليه في السابق، وأن العيادات الطبية تعمل بأقصى طاقاتها، فيما أفادت مصادر إحدى المحارق في العاصمة بكين بأن عدد الجثث التي يتم ترميدها يومياً تضاعف ثلاث مرات في الفترة الأخيرة.
وبعد ثلاث سنوات خضعت خلالها حياة الصينيين للتدابير الصارمة التي فرضتها الدولة لاحتواء الوباء، والخطاب الرسمي الذي كان يشيع الخوف من الإصابة بالفيروس، أثار القرار المفاجئ الذي اتخذته الحكومة ارتباكاً في صفوف المواطنين الذين بعد أن كانوا ملزمين الخضوع لقيود المراقبة لارتياد الأمكنة العامة واستخدام وسائل النقل العام أو الدخول إلى المتاجر، أصبح «كل مواطن هو المسؤول عن صحته»، حسب التعليمات الرسمية الأخيرة، حتى أن بعض المدن التي توجد فيها مراكز صناعية كبرى أصبحت تسمح للعمال بمزاولة نشاطهم رغم تعرضهم للإصابة.
ويقول مواطنون صينيون، تحدثوا إلى وسائل إعلام غربية، إن كثيرين ينصحون الأفراد المسنين في عائلاتهم بعدم مغادرة المنازل قبل انتهاء هذه الموجة، خصوصاً عدم الذهاب إلى المستشفيات التي أصبحت مصدراً رئيسياً للعدوى. ويتوقع العالم الوبائي واو زونيو، ثلاث موجات فيروسية متلاحقة خلال هذا الشتاء: الموجة الراهنة التي ستقتصر على العاصمة والمدن الكبرى، بينما الموجتان التاليتان ستصلان إلى المناطق الريفية بفعل حركة الانتقال الكثيفة التي تشهدها الاحتفالات بقدوم العام الصيني الجديد. ويحذر الخبراء من أن المنظومات الصحية في المناطق النائية لن تكون قادرة على تحمل الضغط الذي ستتعرض له بسبب من قدراتها المحدودة.
وفيما تواصل السلطات الصينية سياستها الضبابية المعهودة بشأن الكشف عن البيانات الحقيقية للإصابات والوفيات، حيث أفادت بأن عدد ضحايا الفيروس لم يتجاوز السبعة منذ إلغاء القيود مطالع هذا الشهر، تقدر منظمات غربية مستقلة أن عدد الوفيات اليومية في الصين يتجاوز خمسة آلاف منذ أسابيع، وأن عدد الإصابات اليومية لا يقل عن المليون. وتقدر إحدى الشركات البريطانية المتخصصة في تحليل البيانات الصحية أن يصل عدد الوفيات في الصين خلال هذه الموجة إلى 2.3 مليون.
وفي محاولة للرد على الشكوك المتزايدة حول شفافية البيانات الرسمية، قال الخبير الوبائي وانغ غويكيانغ، الذي يرأس قسم الأمراض السارية في مستشفى بكين الجامعي، إن الأسلوب المتبع لاحتساب الوفيات هو الاقتصار على الحالات الناجمة عن إخفاق الجهاز التنفسي كسبب رئيسي، وليس عن الأمراض الأخرى التي تتفاقم بسبب من «كوفيد». ويعود ذلك في رأيه إلى أن «متحور أوميكرون» نادراً ما يؤدي للإصابة بأعراض مميتة.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد أعربت عن قلقها بشأن الوضع الحقيقي للجائحة، حيث أكدت أول من أمس السبت أنها لم تتبلغ أي بيانات عن الإصابات الجديدة التي تعالج في المستشفيات الصينية منذ أن قررت بكين إلغاء القيود المفروضة، وطلبت تزويدها بمعلومات عن خطورة المرض، وعدد الحالات التي تخضع للعلاج في المراكز الصحية، ووضع وحدات العناية الفائقة.
يذكر أن العديد من الخبراء الدوليين انتقدوا السلطات الصينية التي في تعنتها للقضاء على الفيروس نهائياً أنفقت المليارات على حملات الاختبارات المكثفة وبناء مراكز الحجر، عوضاً عن تحسين منظومتها الصحية وتلقيح الفئات الضعيفة وتطوير اللقاحات التي تنتجها.